شعار قسم ميدان

احذر.. "جروبات الاستشارات" على فيسبوك قد تدمر حياتك

ميدان - متسلط

"ما الحل المتاح أمام البشرية لتنجو من التقنية؟

 "وحده إله! يمكن أن ينقذنا". 

(من حوار مجلة ديرشبيجل مع الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر)

      

نشر أحد المتابعين لصفحة على فيس بوك أن هاتفه يقوم بحساب عدد الخطوات التي يخطوها بالليل رغم نومه ليلا، فأجاب أحد المعلقين: "يا عم تلاقي مراتك بتاخده بليل علشان عايزة تقفشك وتشوف بتكلم حد ولا لأ"، لتبدأ بهذه الكلمة رحلة الريبة، ثم جحيم الشك بينه وبين زوجته، وتنتهي بحالة ملتهبة من خراب البيت تقف على مشارف الطلاق!

    

ليست هذه الحالة استثناء، فقد رصد جهاز التعبئة والإحصاء المصري 40 ألف حالة طلاق بمصر عام 2012 [1] سببتها استشارات مواقع التواصل الاجتماعي! وفي ظل هذا الفضاء السيبراني المفتوح، باتت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة من ساحات الاستشارات المفتوحة، وما زاد من انتشار سلوكيات الاستشارة، تمثل في توافر التطبيقات التي أتاحت للمستخدم حجب هويته حين السؤال أو الجواب، مما ألغى التكلفة الاجتماعية المتمثلة في إسداء النصيحة نظرا لتوافر خاصية الإخفاء، فلا أحد سيحاسبك مهما قلت. تقول سوزان غرينفيلد واصفة إخفاء الهوية في عالم الشبكات: "أصبح إخفاء الهوية جزءا لا يتجزأ من التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت". [2]

    

موقع ASk أحد تلك المواقع التي تتيح خاصية إخفاء الشخصية، وبحسب الإحصاء الأخير فقد بلغ عدد رواده ما يربو على 150 مليون مشترك حول العالم! [3]، إلا أن سلوك تقديم الاستشارة وتلقيها امتد لفضاء مواقع التواصل، مثل "فيسبوك" (Facebook) و"تويتر" (Twitter)، حيث لم تقتصر تقديم الاستشارات على مساحات الدراسة والسوق وآخر صيحات الموضة كما كان سابقا، وإنما شملت ما اتصل بالحياة والدين والأخلاقيات مرورا بالصحة النفسية والمشاكل المجتمعية وليس انتهاء بالعلاقات الجنسية، تضافر ذلك مع إتاحة إمكانية إشراك الجمهور للإدلاء بآرائهم حول القضايا المطروحة!

         

        

أن تكون متصل دائما

هذا الهوس تجاه عرض الذات يُرجعه العديد من الباحثين لعصر التقنية والآلة التي أتاحت تحكما غير مسبوقا في المشاركة اللحظية للحدث مع أكبر شريحة ممكنة بصورة غير مسبوقة، فعلى العكس مما كتبه "Montaigne" عام 1925 من أن حياة الناس الخاصة هي أعز ما يحوزون، وأننا نمتلك "حياة خاصة ونتشبث بها إلى ما لا نهاية، لأنها أعز ما نملك". [4] نجد اليوم أن حماية الخصوصية صارت أكثر صعوبة في بيئة تعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا من أي وقت مضى، [5] وبات الأفراد متجهين نحو التخلي عن خصوصيتهم في سبيل المزيد من الاتصال والتفاعلية الاجتماعية. وقد أطلق لوتشيانو فلوريدي في كتابه "الثورة الرابعة" مصطلح "الرفقاء الاصطناعيون" على الألواح الذكية، باعتبارها رفاقا حلت محل البشر العاديين في التواصل. يقول فلوريدي: "ينتمي هذا الجيل الأول البسيط من الرفقاء الاصطناعيين إلى أنواع العناصر الوسيطة الذكية الآخذة في الاتساع التي تُستَخدَم في الرعاية الصحية، والصناعة، والأعمال التجارية، والتعليم، والترفيه، والبحوث، وما شابه ذلك". [6]

     

سلوك الاتصال الدائم يعني رغبة في العرض المستمر للذات، وبالتالي استمرارية عملية التقييم المتبادل عبر تفاعلات رمزية معبأة بحمولات تثير المشاعر، وهذا ما أكدته دراسة قامت بها جامعة هارفارد خلُصت إلى أن مشاركة المرء للمعلومات الشخصية عن نفسه، كما يحدث على الشبكات الاجتماعية، ينشط أنظمة المكافأة في الدماغ بالطريقة التي يفعلها الغذاء والجنس، [7] مما يزيد المرء رغبة في عرض حياته وطلب استشارات الناس لمشاكله!

   

وبحسب تعبير فلوريدي  "فإنه ربما لم تعد تستطيع الكذب بسهولة بخصوص من أنت عندما يراقبك مئات الملايين من الناس، لكنك من دون شك ربما تبذل قصارى جهدك لتبين لهم بشكل معقول من أنت، أو من ترغب في أن تكون، وهذا من شأنه أن يروي قصة مختلفة عنك، وعلى المدى الطويل سوف يؤثر بدوره على من أنت، سواء كنت على الإنترنت أو غير متصل به". [8]  
     

وهذا يؤدي إلى ما سماه فلوريدي "الحياة دائمة الاتصال" أو (On – Life)، ويعيد الإنسان في حياته دائمة الاتصال تلك تشكيل هوية أفكاره من خلال الاستشارات الجديدة التي يحصل عليها من الحياة الإلكترونية، يقول فلوريدي: "تصبح حياة الإنسان سريعا مسألة تجربة، فتعيد تشكيل القيود والمحددات واكتساب الوعي من خلال الفضاء الإلكتروني" [9] حتى تحدث حالة من حالات بناء الهوية الشخصية على الإنترنت!

   

    

الجواب السريع بديلا عن البحث

"من دون غوغل وويكيبيديا أنا غبي، ولست مجرد جاهل!"

(جون بوهانون)

     

بحسب تعبير بول كونرتون في كتابه عن الحداثة والنسيان [10] فإن الإنترنت قد يَسّر الحصول على المعلومات الفورية على حساب نسيان معالم الأحداث، فالمهم هو السرعة على حساب الدقة، يقول كونرتون: "ويدرك المشاهد الاختزال الزمني، لأن العنصر الزمني المتوقف في السابق على المسافة المكانية آخذ في الانكماش"، ويواصل أن تلاشي الزمان يصاحبه تشكيل هوية جديدة من الثقافة والتساؤلات التي تهتم بالسرعة على حساب الدقة، فيقول: "تبدو البرامج التعليمية وألعاب الفيديو والبث الإخباري والعروض الصوتية والمرئية كلها تقوض بعضها البعض مما يستحيل أن تظل ذاكرة الثقافة بمعزل عن عملية التشفير تلك"، [11] فغاية الإنسان في العصر السيبراني هو الحصول السريع على المعلومة (take away information) على حساب المضمون!

    

ولا يقتصر أمر طلب الاستشارات السريعة على كبار السن أو المراهقين، وإنما يمتد للأطفال كذلك، يقول ميشال سار في كتابه "الإصبع الصغير" عن الأطفال في العصر الرقمي: "بواسطة الهاتف الخلوي، أصبحت لدى الصغار إمكانية الوصول إلى جميع الأشخاص، وعن طريق الـ (GPS) يمكنهم الوصول إلى جميع الأمكنة، وعن طريق الشاشة يمكنهم الوصول إلى كل المعرفة!". [12]

     

ومن هنا تحل الاستشارات محل التوجيه في الأسرة، وفي ذلك يقول بول كونرتون: "يحل الإنترنت محل الجهود الجماعية لأعضاء الأسرة باعتبارها المحضن التعليمي الأساسي". [13] هذه الرغبة المفرطة في طلب الحصول على المعلومة على حساب دقتها هي ما حدت بغرينفليد في كتابها المهم "تغيُّر العقل" إلى أن تعتبر أن هذا العصر السيبراني هو عصر انحياز الإنسان إلى السرعة على حساب الدقة، وذلك على عكس ما اعتبره الألماني ماكس فيبر أن العقلانية في عصره كانت انحياز الإنسان ضد الوهم! [14]

      

   

السؤال من وراء حجاب وسيكولوجية السائل والمجيب

"لقد اتسم البشر دائما بالغرور والأنانية والقابلية للتفاخر، لكن الشبكات الاجتماعية توفر الآن الفرصة للانغماس في هذا السلوك من دون انقطاع وعلى مدار الساعة"  

(سوزان غرينفيلد)

    

اعتبر لوتشيانو فلوريدي في كتابه "الثورة الرابعة" [15] أن ثورات علمية ثلاثة غيرت نظرة البشرية للعالم وفلسفاته، وهي الثورة الفلكية على يد كوبرنيكوس، والثورة البيولوجية على يد تشارلز داروين، والثروة النفسية والعصبية على يد سيجموند فرويد، أما الثورة الرابعة فهي الثورة الحاسوبية وتطور وسائل الاتصال بين البشر، وجعل التغيير الذي أحدثته هذه الثورة هو تغير في فهم الذات الإنسانية نفسها، يقول فلوريدي: "حدثت في الماضي ثلاث ثورات علمية، تلك الثورات أثرت في فهمنا للعالم الخارجي، كما أنها غيرت من مفهومنا بشأن من نكون، أي ذواتنا!". [16]

   

فلا يمكن فهم ظاهرة فوضى التساؤلات على مواقع التواصل دون وعي بدافع السائلين أنفسهم، والمجيبين كذلك، وما تُمثّله أسئلتهم من إمكانية للحديث عن الذات، وما تُمثّله لهم من مجتمع يبدو آمنا من المخاوف، فبحسب تعبير غرينفيلد، فإن الناس تتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير بتساؤلاتهم عن الأمور التي قد يحجمون عن السؤال عنها مباشرة، تقول غرينفيلد: "تتمثل الفكرة هنا في أن شبكة الإنترنت توفر للأفراد فرصة فريدة للتعبير عن الذات، والتي تشجع الناس على الكشف عن ذواتهم الحقيقية، بما في ذلك الجوانب التي لا يُعبّر عنها بشكل مريح وجها لوجه.

   

undefined

   

وبسبب هذا التأثير يمكن النظر إلى التواصل عبر الإنترنت على أنه أكثر حميمية وشخصية من الاتصال وجها لوجه". [17] ووفقا لكاتلين ماكينا من جامعة نيويورك فإن "الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أكثر قدرة على التعبير عن ذواتهم الحقيقية على الإنترنت هم أقرب احتمالا لتكوين علاقات وثيقة ظاهريا". [18] ويبدو أن من يستخدمون فيس بوك للتساؤل عن أمورهم الخاصة أو الاجتماعية -بحسب تعبير سوزان-: "يستخدمونه للتعبير عن الذات على اعتباره قناتهم الأساسية لتكوين الصداقات" [19] ومن ثَمّ تحصيل المعارف والاستشارات. 

     

أما المُجيبون عن هذه الاستشارات فهم يجدون في كل رنة إشعار جديد فرصة ما، يقول بعض الباحثين: "كل "رنة" إشعار يسمع المرء صوتها تمثل "فرصة!" ما له: فرصة اجتماعية، شخصية، أو جنسية، ومن ثم مع كل تجاوب مع هذه "الرنة" وفتح الإشعار لتجد هذه الفرصة كشخص مهم يطلب صداقتك، عدد كبير من الإعجابات بمنشور لك، سيدة ما علقت على صورتك المتأنقة، يتم إفراز الدوبامين في المخ وبالتالي تشعر بقدر ما من البهجة والإشباع، ومن ثمة الرغبة في المزيد من هذه الفعل، أي الرغبة في المزيد من الإشعارات! (يتم هذا بطريقة غير واعية)". [20]

     

وكثيرا ما يكون هذا الإرشاد إرشادا كاذبا، "فالحياة عبر الإنترنت تتيح بسهولة وسائل غير مسبوقة لنيل مكانة متميزة، ولأول مرة لا تقاس المكانة بالممتلكات، أو المواهب، أو الوظيفة. ويمكن التباهي بهذه المكانة!". [21] [ب] ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يصبح البديل للإنجاز الحقيقي من هؤلاء المرشدين أن يلوذوا إلى عالم الشاشة الآمن سعيا وراء الاستحسان دون فعل أي شيء حقيقي يذكر!

      

undefined

  

الأسئلة السائلة والأجوبة المُعلبة

"من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون"

(ابن عباس)

     

ذكر همام يحيى في مقاله "الاستشارات على "آسك".. كارثةٌ بلا رادع"(22) عددا من الإشكالات التي أحدثها "آسك" في الساحة العربية فيما يتصل بالفتاوى الدينية والاستشارات الشخصية والنفسية على حد سواء. قال همام يحيى: "المسؤول مشغولٌ بجمهورِه، ولأنّ المسؤول لا يعرفك، فهو ليس مشغولا بك ولا بمشكلتك"،( 23) ولفت النظر إلى أن الاستشارات النفسية والاجتماعية لها حالة من الخصوصية التي ينبغي مراعاتها من حالة لأخرى. وقد انتشر عدد من الفتاوى الساخرة على موقع "آسك" ومجموعات الاستشارات المختلفة، مما جعل لهذه الأجوبة الساخرة واللاذعة أحيانا، قبولا في نفس البعض واستهجانا في نفس آخرين، وقد عقدت جريدة اليوم السابع حوارا( 24) مع الداعية عمرو بسيوني حول مادته الساخرة التي يقدمها لمتابعيه! 

   

في الوقت ذاته كثرت الاستشارات المتعلقة بالأسرة والعائلة فضلا عن الحُب والحنين والعلاقات من طرف واحد على متدينين ومنتسبين للدين، مما كشف اللثام عن خواء كبير في مجتمع المتابعين الذين وجدوا في المُجيبين غاية ومنفذا للإنقاذ من معاناتهم. وقد شاع الاعتقاد بأن المتدينين عالمون بالضرورة بمشاكل الحياة وحلولها الأكيدة، يقول همام يحيى: "أما بخصوص افتراض الخبرة في مشكلات الحياة عموما لدى المتديّنين، فهذا مرضٌ عميق الجذور، وظاهرةٌ لافتة تستحقّ التوقّف. أظنّ أنّ هذه الظاهرة، في جانبٍ منها على الأقلّ، فرعٌ عن فهمٍ رومانسيّ ساذج لـ "شموليّة الدّين"، وتحويرِها إلى "شموليّة الشّيخ"".

    

الناس على مواقع التواصل الاجتماعي لا تهاب الفُتيا في الدين أو النصح في الدنيا
الناس على مواقع التواصل الاجتماعي لا تهاب الفُتيا في الدين أو النصح في الدنيا
   

لم يقتصر الأمر على موقع "آسك"، فقد نشأت على فيس بوك مجموعات متنوعة لتبادل خبرات الحياة المختلفة وما اتصل بها، ولاقت المجموعات التي تقدم الدعم النفسي وتلك التي تناقش المسائل الجنسية رواجا كبيرا بين الأعضاء، وحدث قدر كبير من تناقل الخبرات والمعلومات التي وإن احتوت على فوائد، فيظل محل الريبة في مصدرها قائما!

    

ولقد تفطن علماء الإسلام لخطورة الإرشاد دون علم في الدنيا وإلى جريمة التسرع في الفتوى بغير علم، فحذّروا من الجرأة في الفتوى والنصح دون تروٍّ، يقول ابن الصلاح في كتابه "أدب المفتي والمستفتي": "هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين، وكان أحدهم لا يمنعه شهرته بالإمامة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة = أن يدافع بالجواب، أو يقول لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري". (25) بيد أن الناس على مواقع التواصل الاجتماعي دوما ما تدري، ولا تهاب الفتيا في الدين أو النصح في الدنيا. فإلى أي مدى تؤثر مواقع التواصل في حياتنا الشخصية وبإعادة تشكيل المجتمعات من حولنا؟

_________________

   
الهوامش:

أ. الفضاء السيبراني: يقصد به الوسط الذي توجد فيه شبكات الحاسوب ويحصل من خلالها التواصل الإلكتروني، أي أنه يشمل كل ما اتصل بالإنترنت وله أسماء أخرى مختلفة مثل الفضاء الإلكتروني/الحاسوبي إلخ.
  
ب. وقد أخبرني صديق أنه في مقابلة في حفل عشاء عَرّف أحد الأشخاص نفسه -وكان جادًّا في تعريفه- أنه يمتلك عددا من آلاف المتابعين على فيس بوك!