شعار قسم ميدان

فانوس رمضان.. من الفراعنة إلى محمد صلاح

فانوس رمضان - ميدان
في هذا الوقت من كل عام، يكثر أن نسمع صوت محمد فوزي يشدو: "هاتوا الفوانيس يا ولاد.. هاتوا الفوانيس، حنزف عريس يا ولاد.. حنزف عريس". فلا يهل الهلال إلا واستقبله الناس بفوانيسهم التي تزدان بها الشوارع والبيوت والمحلات.

لطالما ارتبط رمضان في الأذهان بمجموعة من الظواهر المرئية والمسموعة ذات الصلة الحميمية به والتي شكلت على مر الزمن بصمته الثقافية الخاصة، فتكون أولى علامات قُرب مجيئه ما تقع عليه العين من زينة مُلوّنة تتزخرف بها الأزقة والشوارع، وفي نهاره لا تبتل الأجواف إلا عندما يشق صوت المدفع تَرّقُب الصائمين الصامت بصياح "مدفع رمضان، اضرب"، ولا تكتمل لياليه الطويلة سوى بنداءات المسحراتي المسجوعة أسفل البيوت: "اصحى يا نايم وحد الدايم رمضان كريم".

لا أحد يعرف تماما من أين جاء الفانوس، أو المسحراتي، أو المدفع، فنحن لا نملك بين أيدينا أي معلومات موثوقة عنهم، وعلى مر الزمن، استبدلنا تلك ببعض القصص الشعبية التي تحولت بمضي الوقت إلى أساطير عن نشأتهم. وفي رحلتهم إلينا من عمق التاريخ إلى الآن، نسجت التغيرات الاجتماعية والثقافية التي مرت بها تلك الظواهر فوقها طبقة من القصص صارت بمنزلة المرآة للناس الذين عايشوها. لم يحدث كل هذا في الماضي البعيد، فهنالك ما شهدناه نحن في أمس قريب جدا.

وفي كل هذا، ربما لا يوجد في الثقافة الشعبية قصص حول تلك الظواهر أكثر من قصص الفانوس، وربما لم يعكس أي من التغيرات الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية التي مرّت بالشعب المصري في السنوات الأخيرة الماضية أكثر أيضا من الفانوس. فبأشكاله المتنوعة، وحجمه الصغير، استطاع أن يتحول ويأخذ شكل المزاج العام في أكثر من مناسبة وينتقل بسهولة ويسر إلى كل بيت. فما قصة الفانوس؟ وكيف ارتبط برمضان؟ وما شكله الآن؟

مصباح يضيء التاريخ من عصر الفراعنة
لا يوجد الكثير من الحقائق الأكيدة التي نستطيع أن نبني عليها قصة تاريخية للفانوس، لكننا نعرف بعض الأشياء التي قد تنير لنا الطريق. فكلمة "فانوس" على سبيل المثال هي كلمة إغريقية في الأساس، ولا تزال تُستعمَل حتى الآن بمعنى "مصباح"(1)، وتُنطَق بالنُطق نفسه الذي ننطقه بها بالعربية. وبما أن الفانوس ظهر في مصر التي عاشت قُرابة ثلاثمئة عام من تاريخها -من 305 قبل الميلاد وحتى 30 قبل الميلاد- تحت حُكم اليونان، فلنا أن نحزر أن الكلمة نشأت في وقت ما خلال تلك الفترة.(2)

وتقول إحدى القصص إن المصريين القدماء خرجوا بالفوانيس في ليالي الاحتفال بظهور النجم "سوبدت" -الشعرى اليمانية- أكثر نجوم السماء سطوعا. وقد قدّس المصريون ذلك النجم في شكل الإلهة سوبدت والتي صوروها على شكل امرأة فوق رأسها نجمة خُماسية.(3)(4)

الإلهة سوبدت
الإلهة سوبدت

من زمن الفراعنة وحتى دخول الإسلام، لا نملك الكثير من المعلومات حول الاحتفالات الدينية أو القومية التي استعمل فيها المصريون الفانوس. لكن بمجيء الفاطميين، تكثر هذه القصص وتتشعب وتختلف فيما بينها، لتتركنا واثقين في شيء واحد فقط: بدأ استعمال الفوانيس في سياق مرتبط برمضان في عصر الفاطميين، وبالأخص الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.

في أواخر عهد العباسيين في مصر، أثقل الغلاء الذي سببه نقص مياه النيل كاهل المصريين، فكرهوا حكمهم وتمنوا لو يزول. ولهذا، عندما استولى القائد الحربي جوهر الصقلي على مصر في 17 من شعبان عام 358 هجرية وصارت تتبع الدولة الفاطمية، استقبل الناس هذا التغيير بارتياح وسرور.

وكان أن خرج الناس ليلا بالفوانيس لاستقبال المعز لدين الله الخليفة الفاطمي عندما دخل إلى مصر في مساء السابع من رمضان عام 362 هجرية. ومن هنا، يُرَجح بداية ارتباط الفوانيس بشهر رمضان؛ فاتخذ المصريون بعدها من إشعال الفوانيس ليلا والطواف في الشوارع في ليالي الشهر الكريم عادة سنوية. وهكذا، ظلت مدينة القاهرة التي أنشأها المُعز وجعل منها عاصمة لدولته الفاطمية حتى الآن منارة تضيئها الفوانيس -التي ارتبط استخدامها ارتباطا وثيقا بمجيئه- عندما تغطي عباءة الليل السماء في رمضان، ويظل حتى الآن شارع المعز لدين الله الفاطمي في القاهرة القديمة أحد أهم الشوارع التي تشهد احتفالات رمضان.(5)

بالإضافة إلى تلك القصة، نجد مجموعة أخرى من القصص الغرائبية حول استخدام الفانوس في رمضان، منها أن الحاكم بأمر الله كان قد منع النساء من الخروج في الشوارع طوال أيام السنة واستثنى من هذا شهر رمضان، لكن بشرط أن تصطحب كل امرأة معها غلاما ويصطحب الغلام معه فانوسا ينبه به الناس أن هنالك امرأة في الشارع فيغضون البصر، ومنها أيضا أن الخليفة كان يخرج لاستطلاع رؤية الهلال فيرافقه الصبيان الصغار حاملين فوانيسهم لتنير لهم الطريق. لا نستطيع أن نعرف حقا مدى مصداقية تلك القصص، لكن تبقى فوانيس رمضان تذكارا ينحدر إلينا منذ القدم ضاع عنا أصله ويبقى وجوده ينشر في الليالي بهجة وضياء.(6)

وحتى يومنا هذا، ما زلنا نحرص على اقتناء الفوانيس قُبيل حلول الشهر الكريم، لكن في رحلته إلينا من الماضي إلى الآن، تأثر الفانوس بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي أثرت على مجتمعاتنا وانعكست عليها؛ فكيف يا تُرى حاله الآن؟

لم يلق فانوس في مصر هذا العام رواجا كرواج فانوس
لم يلق فانوس في مصر هذا العام رواجا كرواج فانوس "محمد صلاح" الذي يرقص ويغني "صعدنا كاس العالم"
 
الفانوس الآن
مع تطور التكنولوجيا واختراع الكهرباء، ما عاد هنالك حاجة لا إلى القناديل ولا إلى الفوانيس؛ وبهذا، تحرر الفانوس تماما من شقه الوظيفي وصار استخدامه الوحيد طقوسيا فقط. ومع هذا، فقد ظل على الدرجة من الرواج والانتشار نفسها.

لم تكن التغيرات التقنية بعد كل شيء هي ما هددت بإنزال الفانوس التقليدي من على عرشه، بل قامت بهذا التغيرات الاقتصادية. ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين، نهجت مصر إلى اعتماد سياسات العولمة والانفتاح الاقتصادي، ما جعلها تفتح الأبواب على مصراعيها أمام استيراد السلع من الخارج، بعد أن قضت عقودا طويلة تنهج سياسات محافظة تجاه ذلك. فكان أن غزت الفوانيس الصيني البلاستيكية الأسواق، وباعتمادها على ألوان براقة، ومصابيح تعطي إضاءات مختلفة، بالإضافة إلى أغاني رمضان التي تنطلق منها فور التشغيل، استطاعت أن تجذب الأطفال الصغار إليها وتحقق نسب مبيعات عالية سببت القلق لصناع الفانوس التقليدي.

ولأن الفوانيس الصينية لا تُشكّل شيئا أكثر من مجرد تجارة يود أصحابها لها الرواج، انبروا يحوّرون شكل الفانوس ويغيرون فيه حتى صار لا يشبه الفانوس في شيء، فصنعوا فوانيس عليها شخصيات كرتونية مثل "سبونج بوب"(7) والمفتش كرومبو، وشخصيات من ألعاب شهيرة مثل "أنجري بيردز"،(8) وتطور الأمر إلى أن صار الفانوس لا يزيد عن كونه دمية تحمل فانوسا وتغني أغاني رمضان، في انسلاخ تام عن شكل وتراث الفانوس التقليدي. تحولت الأسواق الشعبية بهذا إلى ساحة قتال ضمني ما بين الصناعات التقليدية واليدوية متمثلة في الفانوس الكلاسيكي، وآليات الإنتاج الضخم ومنتجاتها منبتة الصلة عن كل شيء متمثلة في الفانوس الصيني.

لكن الأغرب من هذا هو تحول الفانوس، الكلاسيكي والصيني على السواء، إلى آلة لبث الانتماءات السياسية والترويج لها. فانتشر بعد الثورة فانوس "الدبابة"، لعبة بلاستيكية صغيرة على شكل دبابة مُلوّنة تتزين خلفيتها بفانوس صغير ويركب مقدمتها عسكري يطلق النيران، بينما طُبَع على الأوجه الزجاجية للفانوس التقليدي علم مصر مكتوب في وسطه "ثورة 25 يناير".

أما بعد تولي محمد مرسي الرئاسة، انتشرت فوانيس على شكل دُمى لرجل ملتحٍ يرتدي جلبابا أبيض ويحمل فانوسا. وفي اعتصام رابعة العدوية الذي جاء جزء منه في شهر رمضان، عُلّقَت فوانيس موضوع على واجهتها صور للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وبعد تولي الجيش مقاليد الحكم في 30 يونيو/حزيران، اُغرقت الأسواق بـ "فانوس العسكري". فكان من المثير للسخرية أن يحمل طفل دمية على شكل طفل يرتدي بزة عسكرية ويتناوب الرقص على أغنيتيْ "وحوي يا وحوي" و"تسلم الأيادي". وعند فوز عبد الفتاح السيسي بالانتخابات، أغرقت فوانيس "قلب الأسد" الأسواق. (9)

مرت السنوات، وأخذت فوانيس السيسي تنحسر كانحسار شعبية صاحبها؛ رويدا رويدا، ابتعدت السياسية عن أشكال الفوانيس تماما كما ابتعدت عن الحياة العامة. ففي عامنا هذا، لم يلق فانوس رواجا كرواج فانوس "محمد صلاح" الذي يرقص ويغني: "صعدنا كاس العالم". وهكذا، أدارت فوانيس اليوم ظهرها للتراث، واختارت أن تنأى عن هزائم الحاضر، لتختار بعيدا عن هذا وذاك انتصارا بسيطا لا يعني الكثير أبدا على أرض الواقع، وتتخذ منه صورة لها؛ فمن يعلم، لعل الفرحة التي يمثلها تنسي الناس قليلا ما يكتنف وجودهم من هموم وانكسارات.(10)