شعار قسم ميدان

شهيد العنصرية.. كيف غير مالكوم إكس مسار نضال السود في أميركا؟

 

"كنت على الدوام رجلا يحاول مواجهة الحقائق وتقبل واقع الحياة كما تكشف عنه المعارف والخبرات الجديدة".

[مالكوم إكس]

في مساء الحادي والعشرين من فبراير/شباط 1956[1]، يتوجه الرجل الأربعيني إلى منصة قاعة المؤتمرات بنيويورك، ليصعد أمام الحضور وتبدأ محاضرته التي لم تكن هادئة إطلاقا. وفي منتصف المحاضرة تقريبا، كان رجلان في الصفّ التاسع يفتعلان شجارا من اللاشيء ليجذبا إليهما الحضور.

 

وما هي إلا لحظات حتى كان الحرس الشخصي للمُحاضِر يتوجّه لفض النزاع، سامحا لـ "توماس هاجان" بالاقتراب من الرجل الأسمر ذي العقد الرابع من العمر، شاهرا سلاحه قبل أن يرافقه اثنان آخران في مهمة الإجهاز على "مالكوم إكس" أو الحاج "مالك الشباز" كما كان يُسمّي نفسه في ذاك الحين.

 

لكن، وقبل ذلك المشهد بنحو أربعين عاما بأوماها في ولاية نبراسكا، كانت السيدة "لويز ليتل" تضع ولدها -ذا البشرة الفاتحة قليلا- في تمام التاسع عشر من مايو/أيار 1965، ليرافق أسرة ستكتمل بأب وأم وثمانية أبناء، كلهم من أصحاب البشرة السوداء، في مجتمع أميركي تعصف به العنصرية.

 

وقد كان الصغير "مالكوم" وأسرته يعانون من أبشع أنواع التفرقة والتمييز العنصري بحكم بشرتهم السمراء، حتى إن الناجح في بلدتهم كان ماسحا للأحذية أو بوابا في أحسن الظروف[2]. وفي أجواء كتلك كان "مالكوم" يواجه مصيرا مجهولا، لا يطلب منه أمثاله إلا البقاء آمنا على قيد الحياة. وهو ما لم يحدث على أي حال.

مالكوم إكس
مالكوم إكس

 

لأنك زنجي!

"إن حسن المعاملة لا تعني شيئا ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إليّ كما ينظر إلى نفسه، وعندما تتوغل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعا بأنه أفضل مني".

[مالكوم إكس]

السيد "إيريل ليتل"، قِس معمداني وأب لثمانية أبناء من بينهم "مالكوم"، غير إنه كان أسود البشرة بما يكفي ليقتل العنصريون البيض أربعة من أشقائه الستة، إلى جانب ما تعرض إليه من مضايقات، بصفته السياسية في الجمعية العالمية لتقدم الزنوج. تلك العنصرية التي دفعته إلى الانتقال بأسرته إلى لانسنغ بولاية ميتشيغن، التي ما لبثوا بها شهورا حتى أُحرِق منزلهم على يد منظمة "كوكلوكس" العنصرية[3]، لترحل الأسرة من جديد إلى ضواحي المدينة.

 

وما هي إلا سنوات ثلاث -تقريبا- حتى كان السيد "إيريل" طي التراب بعدما قتلته وحشية مجموعة عنصرية أخرى، وهو ما أنكرته السلطات لتزعم أنه مات دهسا في حادث غير مقصود[3]، حتى إنه اُتِهم بالانتحار لاحقا لتحمل يداه دماءه بدلا من قاتليه[4].

 

من هنا بدأ "مالكوم" سلسلة الاضطهاد العنصري القائم ضد لون بشرته، فقط لون بشرته ولا شيء غير ذاك؛ من بعدها تسارعت الأحداث، فبعد افتقاد الأب، كانت الأم -هي الأخرى- تفارق أبناءها إثر أزمة صحية أودعتها إحدى المصحات النفسية لفترة طويلة بعدما ثقلت عليها تكاليف الحياة إزاء رفض الهيئات الاجتماعية تقديم المعونة لها[5]، بالإضافة إلى طردها من العمل كخادمة لأسباب لا تختلف عن أسباب مقتل زوجها.

وبعد أربعة عشر عاما من مولده، وجد "مالكوم" -وإخوانه السبعة- أنفسهم بلا والدين بسبب بسيط يتمثّل في كونهم "زنوجا" ولا شيء آخر فوق ذاك. ذلك السبب الذي دفع السيد "ستراوسكي"، مدرّس "مالكوم" الذي تربطه به علاقة جيدة، ليخبره أن يتنازل عن حلمه بالمحاماة لأنه زنجيّ، وأن عليه العمل نجّارا -رغم تفوقه- أو أيا من الأعمال الأخرى التي تناسب الزنوج[1].

 

تهذيب.. تأديب.. إصلاح!

لا أمل إذن من الوظيفة، هكذا كانت نفس "مالكوم" تحدثه بعد إحباط مدرّسه له، فقرر تغيير المسار، تاركا مدرسته، ومتجها إلى أخته غير الشقيقة "إيلا" في بوسطن، حيث عمل ماسحا للأحذية[1]، بالإضافة إلى العديد من الأعمال البسيطة، إلى أن أخذته مظاهر الترف والإبهار في أحد مراقص المدينة الجديدة، فقرر تغيير مظهره الخشن لاستقبال حياة المجون.

 

ومن بوسطن إلى نيويورك، انتقل "مالكوم" إلى العمل بالسكك الحديدية كشاب ناهز عامه الحادي والعشرين[2]، وفي حي هارلم تحديدا، حيث تعرّف على مجتمعات السود، مارس الشاب الأسمر "شتّى أنواع الإجرام من سرقة وقوادة وتجارة المخدرات، بل وتظاهر بالجنون ليتجنب التجنيد الإجباري إبان الحرب العالمية الثانية"[1]، عن طريق تصريحه برغبته في إنشاء جيش زنجي، مما أدى إلى استبعاده من الجيش الأميركي[2].

تلك الرحلة الإجرامية التي انتهت أخيرا في قبضة الشرطة -هو ورفيقتان له- فكان نصيبه من العقاب عشر سنوات، في حين نالت رفيقتاه نصف تلك المدة لأنهما كانتا بيضاوين[5]، كما إن صداقته لفتاة بيضاء -في ذلك الوقت- كانت وحدها جريمة تستحق العقاب[6].

 

وفي سجن تشارلز تاون العتيق، كان "مالكوم" يعاني ألما قاسيا من قضبان السجن الذي لم يتحمل تقييده له، فكان يلاقي على مشاغبته وعناده حبسا انفراديا كان -لحسن الحظ- سببا في تحويل تفكيره إلى مسار جديد لكثرة تأمله في خلوته حينذاك.

 

وبعد عام تعرف "مالكوم" على زميل القضبان "بيمبي" الذي كان دائم الحديث عن الدين والعدل، الأمر الذي حرّك نفس اليافع الأسمر -المُلقَّب بالشيطان- إلى فكرة الإيمان بخالق هذا الكون، لينتقل بعد عام آخر إلى سجن كونكورد، فتصله رسالة أخيه "فيلبيرت" الذي أخبره باهتدائه إلى الدين الطبيعي للرجل الأسود، ونصحه ألا يدخن أو يتناول لحم الخنزير[7].

السجن الذي قضى فيه مالكوم إكس فترة عقوبته (مواقع التواصل الاجتماعي)
السجن الذي قضى فيه مالكوم إكس فترة عقوبته (مواقع التواصل الاجتماعي)

في رسالته أيضا، أخبر "فيلبيرت" أخاه أنهم جميعا -إخوته- قد اعتنقوا هذا الدين على يد أكثر الشخصيات محورية -فيما بعد- في حياة "إكس"، السيد "إليجا محمد"، وأنهم يتمنون لحاقه بهم. وكذا تحوّلت حياة السجين "مالكوم" من حياة الجريمة خارج السجن، والإجرام داخله، إلى اهتمامات أخرى.

 

فنقاشات صديقه "بيمبي" مع المساجين حول فكرة الدين، بالإضافة إلى رسائل إخوته المتحدثة عن إسلامهم، كان لها أبلغ الأثر في تحويل هذا الشيطان بداخله إلى جسد يشتعل بالبحث، فقرأ آلاف المجلدات والكتب، وأعلن إسلامه وانضمامه إلى "إليجا محمد"، "فتحسنت أخلاقه وسمت شخصيته وأصبح يشارك في الخطب والمناظرات داخل السجن للدعوة إلى الإسلام"[7].

مالكوم وإليجا (مواقع التواصل الاجتماعي)
مالكوم وإليجا (مواقع التواصل الاجتماعي)

مالكوم إكس

"إن إكس ترمز إلى ما كنت عليه وما قد أصبحت، كما يعني في الرياضيات المجهول وغير معلوم الأصل".

[مالكوم إكس، بعد تغيير اسمه]

بعد فترة من رسالة "فيلبيرت" انتقل "مالكوم" إلى سجن ينورفلك المخفف، والمشهور بمحاضراته ومكتبته الضخمة التي تسع نحو 10 آلاف مجلد قديم ونادر، وفيه زاره أخوه "ويجالند" الذي انضم -هو الآخر- إلى حركة "أمة الإسلام"[2] تحت زعامة "إليجا محمد".

 

ذلك الرجل الذي جمع أجزاء مبعثرة من دين الإسلام وادّعى النبوة، مؤسسا دعوته العنصرية بشكل عكسي، "حيث كان مبنيا بالأساس للجنس الأسود من البشر معتبرا أن البيض ليسوا إلا شياطين تحكم الأرض وأن الله هو إله للسود وحسب"[5]. فنسب إلى الإسلام مفاهيم مغلوطة وأسس عنصرية منافية لأصله، وتحلّت جماعته بالأخلاق الحسنة والروح النضالية من أجل السود، وهو ما استثار في "مالكوم" شخصا غير الذي كان عليه.

 

ففي مكتبة السجن الضخمة، عكف "مالكوم" على القراءة النَهِمة، حتى إنه كان يقرأ حتى تُطفأ الأنوار، وفي زنزانته كان يقرأ على ضوء الممر حتى الصباح[5]، قرابة الخمس عشرة ساعة من القراءة اليومية، قرأ خلالها قصة الحضارة وتاريخ العالم، وما كتبه النمساوي "مندل" في علم الوراثة، إلى جانب دراسته للمعجم لإثراء حصيلته اللغوية.

كما قرأ عن معاناة السود والعبيد والهنود الحمر من الرجل الأبيض وتجارة الرقيق، فغيرت "القراءة مجرى حياته، وكان هدفه منها أن يحيا فكريا لأنه أدرك أن الأسود في أميركا يعيش أصم أبكم أعمى بسبب بعده عن القراءة أو التعلم"[5].

 

وبعد سنوات سبع، قررت السلطات تخفيض مدة الحبس والعفو عن "مالكوم" بعدما نجح في استقطاب أعداد كبيرة من المساجين إلى حركة "إليجا محمد"[7]، ليخرج بأفكار تستعدي كل ما هو أبيض، وتتحمس للنضال من أجل الزنوج، لتبدأ نشاطاته الفعلية مع حركة "إليجا" التي تدعو إلى تفوق الجنس الأسود وسيادته، وشيطنة كل ما هو أبيض.

مسجد رقم7 في هارلم بولاية نيويورك الذي كان مالكوم إكس إمامه وخطيبه (مواقع التواصل الاجتماعي)
مسجد رقم7 في هارلم بولاية نيويورك الذي كان مالكوم إكس إمامه وخطيبه (مواقع التواصل الاجتماعي)

فكانت عقيدة أعلن فيها "إليجا" نبوته، بالإضافة إلى مجموعة من التشريعات التي لا تتصل مع الإسلام من أي جانب، فقد كانت هذه الحركة "تنظر إلى الإسلام على أنه إرث روحي فقط سوف ينقذ السود من سيطرة البيض عليهم[8]، وبسبب قدراته الخطابية والثقافية تدرّج "مالكوم" في المنظمة سريعا حتى صار ذراع "إليجا" ونائبه الأول، والمتحدث الرسمي للحركة، "كما يعود الفضل إليه في زيادة أفراد المنظمة من 500 شخص إلى 300.000 في غضون تسعة أعوام[1]، من أبرزهم الملاكم الأسطوري "محمد علي كلاي".

 

ومن هنا، قرر "مالكوم" أن يكون "مالكوم" الذي صنعته أفكاره، لا ذلك الذي خضع لقولبة العنصريين البيض، فكان أول ما تمرّد به هو استبدال لقب عائلته "ليتل" الذي نعتهم به البيض بعد اجتلابهم من أفريقيا عبيدا[1]، واختار عوضا عن ذلك "إكس" الذي يرمز إلى إعادة تعريفه بذاته، تماما كالمجهول الرياضي "X" الذي يسعى إلى البحث عن قيمته.

 

وبالفعل، نشط "مالكوم" عنصرا مشعّا لا تخفت طاقته، فبرز في وسائل الإعلام الأميركية من خلال برنامج "الكراهية التي ولدتها الكراهية"، بالإضافة إلى العديد من المناظرات التي خاضها والمقالات التي كُتِبت عنه؛ حتى إن المكتب الفيدرالي راقب نشاطه عن كثب، وتنصّت على مكالماته وزرع عددا من الجواسيس في الحركة، وقد وجدت أفكاره تلاقيا واسعا مع المناضل لأجل الزنوج، الأميركي "مارتن لوثر كينج"[1].

 

الإسلام وحلم البراءة الأولى

"من الشيء إلى الشيء، هذه هي حركة بودورتز الأفقية. ولكن مالكوم يتحرك ويتطور بطريقة مغايرة تماما".

[عبد الوهاب المسيري]

كان تدرّج "مالكوم" في هيكل المنظمة سريعا ومتزايدا، حتى إنه عُيِّن إماما قوميا فيها قبل عام واحد من اغتيال الرئيس الأميركي "جون كينيدي"، الذي حذّر "إليجا" من التعليق على مقتله، لكن "مالكوم" المُثار لم يكن ليسكت عن هذا، فأخرج تصريحه الشهير بأن "سلاح "كينيدي" قد ارتد إلى نحره وحصد ما زرعه وبأسرع مما توقع هو نفسه"[3]، لينشب بعدها الخلاف بينه وبين "إليجا" الذي جمّد عضويته في المنظمة، فيقرر "مالكوم" تأسيس مؤسسة المسجد الإسلامي عام 1964، والتجوال قليلا في رحلة إلى عالم البراءة الأولى.

 

فبعد قراءته عن فريضة الحج، قرر أن يلبّي النداء متحرِّكا إلى مكة، وهناك وجد ما لم يكن يعلمه عن دينه الذي لم يكن كاملا. فالإسلام ليس دين السود فقط كما زعم "إليجا" وجماعته، وإنما هو دين البشر جميعا، ففي الحج وجد "مالكوم" الأبيض والأسود، فقضى "بمكة اثني عشر يوما هاله ما رآه فيها من مسلمين بيض وسود كلهم على قلب رجل واحد وبينهم كل أحاسيس المساواة والمحبة"[8].

"في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أميركا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها"

تأثر مالكوم تأثرا شديدا بمشهد الكعبة وأصوات التلبية وبساطة وإخاء المسلمين، "فرأى الإسلام الصحيح عن كثب وتعرف على حقيقته، وأدرك ضلال المذهب العنصري الذي كان يعتنقه ويدعو إليه، كما تعلم هناك الصلاة الصحيحة التي كان يجهلها تماما"[8]، وبعد عدد من اللقاءات مع أعلام إسلامية وسياسية في المنطقة العربية، خلص "مالكوم"، أو الحاج "مالك شباز" كما أطلق على نفسه، أن "إدانة كل البيض تساوي إدانة كل السود"[2].

 

ففي العالم العربي/الإسلامي وجد "مالكوم" حلم البراءة التي بحث عنها، وليعرف الإسلام الذي أُنزِل على حقيقته، لكن لم يكن الوطن العربي هو الفردوس الذي بحث عنه "مالكوم"؛ لأن "لكل وطن جوانبه المظلمة، شأنه في هذا شأن أي بقعة أخرى في العالم. ولكن "مالكوم" كان يتعامل مع هذا الوطن العربى من منظوره هو، كأميركي أسود، يعاني ويلات التفرقة العنصرية"[9].

 

ولهذا السبب استطاع "مالكوم" أن يجد في العالم العربي الإسلامي تحقيقا جزئيا لحلمه بالبراءة وبعالم خالٍ من التفرقة العنصرية"، وكذا "يمكن رؤية بناء السيرة الذاتية ككل على أنه تجسيد لتطور مالكوم من كونه إنسانا ماديا لا روح له ولا ضمير، إلى إنسان قادر على اكتشاف "نزعات مثالية" في نفسه[9].

مالكوم أكس مع الملك فيصل (مواقع التواصل الاجتماعي)
مالكوم أكس مع الملك فيصل (مواقع التواصل الاجتماعي)

فأسس منظمة الوحدة الأفرو أميركية بعد عدد من الجولات في بلاد أفريقيا[5]، وجولة عربية أخرى التقى خلالها بالملك "فيصل"، والرئيس الجزائري "أحمد بن بلة" وعدد من رؤساء وقادة الدول العربية، ودخل مصر والسودان والحجاز وتهامة، وكانت زيارته للأزهر فاصلة في حياته المتبقية، فأعلن إسلامه من جديد[8]، وحمله في قلبه إلى معقل دعوته.

 

الحاج مالك

"إن سيرة مالكوم إكس الذاتية ترتيلة تمجد روح الإنسان التي يمكنها البقاء والاستمرار في مواجهة أكثر الظروف إفسادا وتدميرا".

[عبد الوهاب المسيري]

إلى أميركا مرة أخرى، لكن بنفسية عالجها الحج، وعنصرية كانت قد اختفت تماما، ليصل الحاج "مالك" إلى منطقة الاتزان بين النزعتين، وكعادته، توجّه إلى "إليجا محمد" لإقناعه بباطل دعوته وأن الإسلام لا يدعو إلى ما يدعو هو إليه، بل ودعاه إلى زيارة الكعبة، وهي الدعوة التي لم يقابلها إلا بالغضب الشديد والطرد[8].

مالكوم إكس

لكنه، وبحماسته السابقة، واصل دعوته الجديدة بعد تقويمها، ليضم عددا كبيرا من السود وغير السود إلى الإسلام، لتتفاقم الفتنة بينه وبين "إليجا"، الذي هدده إن لم يكفّ عن دعوته، وأثار حملة إعلامية ضده لم تُزِد "مالكوم" إلا إصرارا ومواصلة بين الناس[8].

 

فما كان من الصحف والقنوات التي يسّرت له السبيل عند تصدّره لمنظمة "إليجا" إلا الحرب والهجوم عليه حينما عزف عن دعوته السابقة وانتشر في جنبات أميركا يدعو إلى الإسلام الذي عرفه في مكّة والأزهر الشريف.

"لقد وسّع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة".

وفي عام واحد زلزل "مالكوم" قواعد جماعة "إليجا" في أميركا، "وقد أضحى أعلى صوتا وأقوى حجة، زارعا بذور الحقد والضغينة في قلوب جماعة "أمة الإسلام" ومؤسسها وقد بدأ رصيدها في الانحدار، لتتخذ القرار بإسكاته عن طريق التهديد المتواصل أو قتله إذا اقتضى الأمر، وهذا كله يجري تحت نظر وسمع وكالة المخابرات الأميركية"[5].

مالكوم إكس

وبعدما طردته المنظمة من منزله، بحجة ملكيتها له، نذر "مالكوم" نفسه لدعوته الجديدة بصفة كلية، وهي الدعوة إلى الإسلام اللاعنصري كما أسماه[7]، ورد على دعوات التشويه التي تتهمه بتحريض السود بأنه "عندما تكون عوامل الانفجار الاجتماعي موجودة، فلا تحتاج الجماهير إلى من يحرضها، وإن عبادة الإله الواحد ستقرب الناس من السلام الذي يتكلم الناس عنه ولا يفعلون شيئا لتحقيقه"[10].

 

ثم ما لبثت الشهور القليلة أن تمر حتى احتدم الصراع بقوة بين "مالكوم" و"إليجا"، وعقب حريق أُشعِل في منزله -تماما كما حدث في صباه- كان "مالكوم" يقف على منصته بقاعة نيويورك للمؤتمرات، وما هي إلا دقائق حتى اشتعل الصخب بمحاضرته الأخيرة قبل أن يتلهّى الحرس.

 

فإذا به يجد نفسه أمام فوهة مصوبة إلى صدره بست عشرة رصاصة لم تخطئ أي منها طريقها، قبل أن يسقط الحاج "مالك شباز" بابتسامته الشهيرة التي لم تفارقه حتى دُفِن. مُخلِّفا وراءه إرثا ثقافيا ونضاليا كان -رغم قصر فترته- له أبلغ الأثر في تعديل أوضاع السود في القوانين الأميركية بعد 400 عام من النضال ضد استعباد الرجل الأبيض[3].

كذلك طور "مالكوم" الكثير من الأفكار والمبادرات "التي غيرت من مسار نضال السود في أميركا ومهدت السبل لظهور عدة منظمات وأفكار على الساحة السياسية بعد غيابه، مثل حزب الفهود السود وفكرة قوة السود، فشكلت أفكاره مكونا أساسيا لا غنى عنه من مكونات نضال السود في أميركا"[3].

 

بهذا أُسدِل الستار الأخير في سيرة الصبي "ليتل" الذي اجتذبه الإجرام بعد الوحشية التي عاينها، وبتلك الرصاصات أُغلِقت صفحة السيد "إكس" الذي بحث عن تعريفه في عالم النضال، فاهتدى إليها في عالم البراءة الأولى بصفته الحاج "مالك الشباز" الذي كان -ولآخر لحظاته- واقفا على قدميه يعلّم الناس أن يكونوا عبادا لله لا يفرقهم لون لم يختره أيهم لنفسه.

 

وهكذا قضى "مالكوم" بعدما توقع مصيره، إذ قال: "أنا الآن أعيش زمن الاستشهاد، فإذا حدث ومت فإنني سأموت شهيد الأخوة، وهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البلاد. لقد وصلت إلى هذه القناعة بعد تجربة شاقة ولكنني وصلت إليها"[10]. لكن.. يبدو أن السيرة لم تنتهِ بذهاب الجسد.

المصدر : الجزيرة