شعار قسم ميدان

هل الكسل خطيئة أم خرافة؟

midan - paint
اضغط للاستماع

   

"لا أحد يختار بمحض إرادته أن يكون فاشلا أو محبطا، لا أحد يريد أن يشعر بالعجز واللامبالاة وانعدام الكفاءة. عندما تنظر إلى أعمال الناس (أو توقفهم عن العمل) ولا ترى سوى الكسل، فإن رؤيتك تفتقر إلى التفاصيل الجوهرية".

(إريكا برايس – أستاذ علم نفس الاجتماع)

     

تقول إريكا برايس، أستاذ علم نفس الاجتماع بجامعة لويولا بشيكاغو، إنها من خلال عملها بالتدريس في الجامعة رأت الكثير من الطلاب، من كل الأعمار، يماطلون في كتابة الأبحاث، ويتهربون من تقديم العروض، ويتغيبون عن المهام، ويفوتون مواعيد الواجبات. رأت كذلك الكثير من الطلاب الواعدين يفشلون في ملء الاستمارات في الوقت المحدد، وكذلك الكثير من طلبة الدكتوراه تستغرق منهم مراجعة مسودة أطروحة واحدة عدة أشهر أو سنوات. يرى البعض أن ما يقوم به هؤلاء الطلاب من المماطلة والتأجيل هو نتيجة الكسل وانعدام المسؤولية، لكن إريكا لا تعتقد أن الكسل خطيئة، بل هي -على حد قولها- لا تعتقد أصلا بوجود ما يسمى الكسل.(1)

إن ما يهم برايس بشكل أساسي كأخصائية علم نفس اجتماعي هي العوامل الظرفية والسياقية التي تحفز وتُشكّل السلوك الإنساني، فهي ترى أننا إذا كنا نسعى إلى التنبؤ أو تفسير سلوك أحد الأفراد، فإن فهم المعايير الاجتماعية والخلفية التي جاء منها ستكون رهانا آمنا. لذلك فهي عندما ترى طالبا يفشل في إكمال المهام، أو يفوت مواعيد التسليم، أو لا يحقق أي تقدم على مستويات أخرى من حياته، فهي تتساءل عن العوامل الاجتماعية أو الظرفية التي تُعيق هذا الطالب، ما الذي يحتاج إليه ولا يتوفر له الحصول عليه؟، عندما يتسم سلوك أحدهم بالكسل، فإن هذا يدفع برايس إلى التساؤل عن العوائق التي تُعطّل عمله والتي لم تتمكن من رؤيتها، تقول:

undefined

"هناك دائما عوائق، والاعتراف بها ومنحها شرعية هي غالبا الخطوة الأولى للتغلب على سلوك الكسل"(2)

القلق أكبر العوائق

نفكر جميعا أن حياتنا ربما كانت ستتغير بالكامل لو أننا قرأنا الكتب التي أجّلنا قراءتها، أو التحقنا بالدورات التدريبية التي سترفع من مستوى عملنا، أو أنجزنا المشروعات التي نعمل عليها، أو استيقظنا مبكرا وذهبنا إلى مكاتبنا في الوقت المحدد. بالتوازي مع الحياة التي نعيشها، فإننا نحلم بحياة أكثر طموحا وغنى، لكن، ما يحدث في الواقع، أننا لا نقترب حتى من هذه الأحلام، نبدد أفضل فرصنا واحتمالاتنا في الحياة بسبب مأساة المماطلة التي من الصعب الإمساك بها. نشعر بالذنب بسبب إضاعتنا للوقت والفرص، ومع تكرار الأمر، يتفاقم شعورنا بالذنب، ونشعر بأننا لا نستحق بداية جديدة، وبالتالي نسقط في هوة من اليأس.(3)

بالتأكيد، نفكر كثيرا في الأسباب التي تُعيقنا عن القيام بالأعمال التي نهتم بها، وغالبا ما نفسر السبب بطريقة عقابية وهي أننا "كسالى"، فنحن لا نقوم بما علينا أن نؤديه لأننا نرى أنفسنا منغمسين في الملذات ومتراخين وقبل كل شيء أناسا سيئين وعديمي المسؤولية. لكن يبدو أن الحقيقة أكثر تعقيدا ودقة من تصوراتنا التي نغرق بسببها في الشعور بالذنب. إن السبب الحقيقي وراء مماطلتنا في إنجاز المهام ليس لأننا كسالى، بل لأننا قلقون وخائفون، إذ يعتبر الكسل بشكل واضح إحدى نتائج وأعراض القلق.(4)

تقول برايس إنه لعقود تمكّنت الدراسات والأبحاث النفسية من تفسير المماطلة كخلل وظيفي وليس نتيجة الكسل. فعندما يفشل المرء في بدء مشروع يهتم به، في الغالب يكون أحد الأسباب هو الخوف والقلق من أن يكون ما يقوم به ليس جيدا بما فيه الكفاية.(5) والسبب الآخر هو الارتباك والحيرة بخصوص الخطوة الأولى الصحيحة للبدء.(6) والمثير في الحقيقة أن احتمالات المماطلة تزداد كلما كان العمل الذي علينا القيام به مهما بالنسبة لنا ومؤثرا على مستقبلنا أو حياتنا. يصيبنا الخوف بنوع من الشلل والعجز الذي يعيق قدرتنا على البدء، خصوصا عندما يكون مشروعا ضخما ومعقدا، وهذا أمر لا علاقة له برغبتنا في العمل أو حماسنا تجاهه. وكلما ازدادت الرغبة في إنجاز المهمة يتصاعد الشعور بالقلق وتتراكم مشاعر الذنب ويصبح أداء المهمة أكثر صعوبة.(7)

نرى هذا واضحا عندما لا نجد صعوبة في القيام بالمهمات التي لا تعني لنا الكثير، نبدأ في العمل عليها وننجزها سريعا جدا، وبسهولة كأنها مجرد لعبة. فكونها لا تهمنا كثيرا يجعلها أكثر خفة وإثارة وإراحة لعقلنا المتعب. وعلى العكس فإننا نشعر بالخمول إزاء الأشياء التي تتوقف حياتنا عليها، فنكون خائفين جدا من الفشل ولا نجرؤ على البدء، ونفكر بأنه على الأقل إذا تركنا المهمة دون مساس، فإننا ما زلنا نملك جميع الاحتمالات وكذلك لن نكون مضطرين لمواجهة الشعور المهين بالعجز أو عدم الكفاءة.(8)

تقول "ميل روبنز" الباحثة في جامعة كالجري إن المماطلة هي نوع من أنواع "تخفيف التوتر"، إذا كانت الضغوط الحياتية التي يتعرض لها المرء قوية، فسوف تؤثر بشكل واضح على أدائه الوظيفي. فلو أن الشخص الذي يعاني من التسويف والمماطلة يمر بأزمة مالية كبيرة مثلا، أو أن أحد أفراد عائلته مريض، فإنه سوف يذهب إلى العمل وهو محمل بكم هائل من الضغط والتوتر يعيقه بلا شك عن العمل، وسوف يلجأ إلى التأجيل والمماطلة كنوع من أنواع تخفيف حدة هذه المشاعر.(9) وتتفق معها برايس في هذا تماما، فمن خلال تجاربها مع طلابها وجدت أن الكثير من هؤلاء الطلاب المماطلين لديهم عوائق في محيطهم الاجتماعي أو يعانون من أمراض نفسية ويخضعون بالفعل للعلاج، لكن هذه العوائق غير مرئية من قِبل أساتذتهم ويمكن للعين غير المدربة أن تراها بسهولة "كسلا".(10)

"ربما سيكون من المفيد الاستجابة للسلوك غير الفعال لأحد الأفراد بدافع الفضول بدلا من إطلاق الأحكام"

 (إريكا برايس)

undefined

من التحليل السابق يمكننا أن نخرج بطريقة لزيادة إنتاجيتنا: أولا علينا أن لا نذكر أنفسنا وأن لا نجعل الآخرين يذكروننا مرارا بأهمية الأعمال التي نماطل في أدائها، لأننا نعرف جيدا بالفعل أنها مهمة، وهذا تحديدا ما يجعل منها مشكلة بالنسبة لنا. إن ما يجب علينا القيام به هو العكس تماما، علينا أن نركز على عدم أهميتها الكبرى في إطار الخطة الشاملة لعملنا، علينا أن نفكر بأسوأ ما يمكن أن يحدث لنا، ماذا لو فشلنا في أداء هذا العمل أو فقدنا وظيفتنا أو أن الأشخاص الذين نهتم لأمرهم شعروا بأننا أغبياء أو حمقى؟ حتى لو حدث كل هذا سنظل على قيد الحياة وسنتمكن دائما من البدء من جديد. يجب علينا ألا نزيد الضغوط على أنفسنا وعلينا أن نحول المهمة المرعبة إلى الطريقة التي يمكننا أن نتعامل معها بهدوء بأن نعتبرها مجرد لعبة.(11)

"إن تقليل العواقب المتخيلة للفشل تحررنا لنتمكن من التعبير وتكريس كل طاقاتنا ومواهبنا لأداء المهمة"(12)

إن ما تدعو له إريكا برايس هو النظر بعين الفضول والتعاطف بدلا من إطلاق الأحكام التي نريح بها ضمائرنا، تقول: "إذا كان الشخص غير قادر على النهوض من السرير، فإن هناك شيئا يجعله مستنزفا ومنهكا. إذا لم يكن الطالب يكتب أطروحات، فإن هناك جزءا من المهمات لا يمكنه القيام به بدون مساعدة، وإذا كان الموظف يتجاهل مواعيد التسليم النهائية باستمرار فإن هناك شيئا ما يجعل التنظيم والالتزام بالموعد النهائي صعبا. حتى لو اختار الشخص بإرادته (التدمير الذاتي) فهناك أسباب لذلك… ربما لم تكن دائما لديك القدرة على النظر إلى السلوك البشري بهذه الطريقة، لكنك الآن تستطيع وعليك أن تحاول".

undefined

المصدر : الجزيرة