شعار قسم ميدان

دوكينز وهيتشنز وهاريس.. كيف أصبح "الملحدون الجدد" قادة للعنف؟

اضغط للاستماع

يدّعي الملحدون المشاهير مثل رييتشارد دوكينز التفوّق الأخلاقي عندما يتعلق الأمر بمفهوم العنف. يدّعي دوكينز، مثله مثل سام هاريس والراحل كريستوفر هيتشنز، أن الدين عنيف في جوهره، مما يعني أن الإلحاد بطبيعته أكثر سلمية. فإذا كان من الممكن لوم الدين على كل الشرور في العالم، فعندئذ يمكن القول إن القضاء على الدين ليس شيئا مرغوبا به فحسب، بل واجب أخلاقي على الملحدين الذين يؤمنون بالسلام! ومع ذلك، تُظهر الأبحاث التي قمنا بها أنه في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب، كان هؤلاء الملحدون مستعدين بشكل غريب لتأييد سياسات تتسم على الأقل بالقدر نفسه -وفي بعض الحالات بقدر أكبر- من العنف الذي يُرتكب باسم الدين.

شملت دراستنا (التي أجراها بشكل مشترك باحث مسيحي، وآخر لا أدري، وباحث ملحد) تحليل كتابات دوكينز، وهاريس وهيتشينز، وهم رموز ما يسمى بـ "الملحدون الجدد". سعينا إلى معرفة مواقفهم بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة وبريطانيا منذ هجمات سبتمبر/أيلول ٢٠٠١. كما فحصنا بشكل ناقد كتبهم الأكثر مبيعا، إلى جانب مقالاتهم الصحفية، وتدويناتهم على وسائل الإعلام الاجتماعية ومقاطع الفيديو التي يظهرون فيها، للتأكد من مواقفهم، ليس عن العلوم أو الأخلاق، ولكن فيما يتعلّق بالسياسة، وخاصة السياسة الخارجية. يزعم كل منهم أن الدين يحرّض على العنف بطبيعته، في حين أن الإلحاد أكثر سلمية. ويسأل دوكينز على وجه الخصوص: "من سوف يدعو إلى القتل باسم شيء غير الله؟" (!)

 

"٣٠٪ من الأستراليين يقولون إنهم ليس لديهم دين. هذا ما سيقوله أي شخص ذكي. لكن بالنسبة لهؤلاء الأستراليين (ذوي الخلفية المسلمة) ليس الأمر بهذه البساطة. كمسلمين سابقين هم يخافون من النبذ ​​وحتى الموت. أي دين آخر يعتمد على التهديدات بالقتل من أجل البقاء؟ هذا مثير للشفقة!"

الإلحاد، قديما وحديثا

يأتي أصل كلمة "الإلحاد" (athiest) بالإنجليزية من الكلمة اليونانية (أ-ثيوس) أي "بدون ألوهية". لكن على الرغم من أن هذا المصطلح كان قد اجترح في العصور القديمة، فإنه فقط في عصر التنوير، بدأ الملحدون يجهرون بتلك الصفة.

أراد هذا الإلحاد الأوروبي الحديث التحرر من الخرافات، لكنه سرعان ما تحول إلى مصدر للعنف الفظيع. ففي ذروة الثورة الفرنسية، افتتحت حكومة اليعاقبة الثورية "عهد الإرهاب" الأول في التاريخ في إطار جهودها المجرمة لفرض الإلحاد على الدولة. كما اشتملت حملة الاتحاد السوفيتي المبكرة ضد الدين، التي قادتها "عصبة الملحدين المتطرفين"، على الاضطهاد العنيف ضد المؤسسات الدينية والأشخاص المتدينين على حد سواء.

مع زوال الاتحاد السوفيتي وعودة ظهور الدين السياسي من سبعينيات القرن العشرين فصاعدا، اعتقد بعض المؤلفين أن الإلحاد أصبح في حالة تراجع مطرد. لكن فترة أوائل القرن الحادي والعشرين شهدت صعود كتاب مثل دوكينز وهاريس وهيتشينز، الذين برزوا كمثقفين عاميين يقودون هجمات شرسة على الدين الذي زعموا أنه كاذب وخطير بشكل لا مثيل له.

لكن في الحقيقة فإن حججهم لم تكن جديدة. لكن، على عكس الفلاسفة الملحدين العصية أفكارهم أحيانا على الفهم، كان لدى الملحدين الجدد، على الأقل ظاهريا، شخصيات جدالية وفهم جيد بكيفية التأثير الإعلامي. وقد جعلهم نجاحهم في نشر الكتب، وتقديم المداخلات العامة وتحقيق انتشار عالمي من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، من المشاهير، فظهروا في مسلسلات التلفاز الشعبية مثل ساوث بارك، وفاميلي غاي، وذا سيمبسنز وحتى دكتور هو.

الإلحاد الجديد و"الحرب على الإرهاب"

في عام ٢٠٠١، أيّد كلّ من هؤلاء الملحدين الثلاثة الغزو الأميركي لأفغانستان كما أيّد هيتشنز غزو العراق بقوّة عام ٢٠٠٣، بينما رأى هاريس التفاعل الغربي مع الإسلام والعالم الإسلامي كجزء من حرب يجب أن يفوز بها الغرب، إذا هو لم يرد الوقوع في "العبودية". في كتابه "نهاية الإيمان" الصادر في عام ٢٠٠٤ يقول هاريس (ص ١٣١):

كريستوفر هيتشنز (رويترز)
كريستوفر هيتشنز (رويترز)

"في حين أنه من المريح أن نعتقد أن حوارنا مع العالم الإسلامي سوف تكون إحدى نتائجه المحتملة مستقبلا من التسامح المتبادل، فإن لا شيء يضمن هذه النتيجة، خاصة مبادئ الإسلام نفسها. بالنظر إلى القيود التي تفرضها العقيدة الإسلامية السائدة، وبالنظر إلى العقوبات داخل الإسلام ضد التكيف الجذري (والمعقول) مع الحداثة، أعتقد أنه من الواضح أنه يجب على الإسلام أن يجد سبيلا لإعادة النظر في نفسه، بسلام أو بغير ذلك. ما سيعنيه هذا ليس واضحا. لكن الأمر الواضح هو أن الغرب يجب أن يفوز بالحجة أو يفوز بالحرب. كل شيء آخر سيكون من قبيل العبودية".

ويكمل: "في الحقيقة بعض الناس لا يمكن التحاور معهم. إذا لم يكن بالإمكان القبض عليهم، وفي الغالب فإنه لا يمكن القبض عليهم، فربما يصبح من المبرر للأشخاص المتسامحين بخلاف هذه الحالة أن يقتلوهم دفاعا عن النفس. هذا هو ما حاولت الولايات المتحدة القيام به في أفغانستان، وهذا ما سنحاول نحن والقوى الغربية الأخرى القيام به، بتكلفة أكبر لنا وللأبرياء في الخارج، في أماكن أخرى في العالم الإسلامي. سنواصل إراقة الدماء في ما هي، في نهاية المطاف، حرب أفكار"

في الحقيقة، نحن نقول إن الثلاثة أيّدوا هذه الحرب لأنهم يقرؤون السياسة العالمية من خلال عدسة الإلحاد. ويبدو أنهم يرون الغرب محاصرا في حرب وجودية مع الدين، خاصة الدين الإسلامي. ولكن هناك أربعة جوانب مدهشة لهذه الرؤية الملحدة للجغرافيا السياسية العالمية.

أولا، هم يرون الدين على أنه عنيف بشكل جوهري. يقول هاريس: "الدين هو أكبر مصدر للعنف في تاريخنا". فهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول "جاءت من الدين"، يقول دوكينز، الذي يدّعي أن الدين هو "السلاح القاتل" الذي هو "المصدر الأساسي للتشظي الحاصل في الشرق الأوسط". لكن هذا التحليل يحجب الدور القذر للقوى الأجنبية والحكام الفاسدين في الشرق الأوسط وقدرة الزعماء الكاريزميين على التلاعب بالدين ودمجه مع المظالم المشروعة.

SYDNEY, AUSTRALIA - DECEMBER 04: Richard Dawkins, founder of the Richard Dawkins Foundation for Reason and Science,signs copies of his new book at the Seymour Centre on December 4, 2014 in Sydney, Australia. Richard Dawkins is well known for his criticism of intelligent design. (Photo by Don Arnold/Getty Images)
ريتشارد دوكيننز (مواقع التواصل)

وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي يوجهونها للسجل التاريخي للمسيحية، فإنهم يعتبرون الإسلام بشكل خاص تهديدا وجوديا للمجتمعات العلمانية الحديثة. وفي حين أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أصر على أن "الإسلام هو دين سلام"، فإن الملحدين الجدد لديهم رأي مختلف. إذ يصف دوكينز الإسلام بأنه "واحد من الشرور العظيمة في العالم"، فيما يقول هاريس: "نحن في حرب مع الإسلام"، وليس مع "ديانة سلمية اختطفها المتطرفون".

إن الملحدين الجدد مقتنعون بأن نسختهم من الحضارة الغربية تتفوق على ما يرونها حضارة شرقية مستندة إلى الدين في الشرق الأوسط. في عام ٢٠١١، غرّد دوكينز قائلا إن "مسلمي العالم مجتمعين حصلوا على عدد أقل من جوائز نوبل من كلية ترينيتي بكامبريدج لوحدها"، وكتب هيتشنز أن هجمات ١١ سبتمبر/أيلول جعلته يشعر "بالبهجة" لأنها أغرقت العالم في "مواجهة لا لبس فيها بين كل ما أحببته وكل ما أكرهه".

وأخيرا، يبدو أن الملحدين الجدد يتبنون نسخة خاصة بهم من ظاهرة "عبء الرجل الأبيض" (المترجم: عقدة التفوق التي تريد تحضير "الشعوب البربرية" خلال عصر الاستعمار) وذلك لإنقاذ أفغانستان والعراق وأماكن أخرى من "تخلفهم الديني". مثلا يتبنّى هاريس ما يشبه النظرة الاستعمارية الكلاسيكية، حين يكتب أنه "بغض النظر ما إذا كانت نيّاتنا غير واضحة أو مضللة" عند غزو العراق، "فإننا نحاول، بتكلفة كبيرة لنا، تحسين حياة الشعب العراقي"!

تخيل عالما دون أديان

سام هاريس (مواقع التواصل)
سام هاريس (مواقع التواصل)

يوسّع هاريس من نطاق حجته باقتراحه أن التنميط العرقي للمسلمين (أي معاملة المسلمين على أنهم مشتبه بهم من قبل الأجهزة الأمنية) والتعذيب القانوني للإرهابيين قد يكون ممارسة مقبولة أخلاقيا في ما يسميه "حربنا على الإرهاب". ويزعم أن "المسلمين يشكلون مشكلة إزاء مفهوم الردع النووي" لأنهم لا يخشون الموت من الناحية اللاهوتية، فيقول إنهم محصنون ضد الردع الذي يخلقه مفهوم التدمير النووي المؤكد المتبادل. لذلك، إذا حصلت حكومة إسلامية على أسلحة نووية، يقول إن "القيام بضربة نووية استباقية" قد يكون "المسار الوحيد المتاح لنا". المفارقة في هذه الحجة، التي بدأت بالإعلان بأن الدين عنيف بشكل لا مثيل له، تفوت هاريس، الذي قام منذ ذلك الحين بتوضيح موقفه من التعذيب على النحو التالي:

"إن حجتي المؤيدة للاستخدام المحدود للاستجواب القسري ("التعذيب" باسم آخر) هي كما يلي: إذا كنت تعتقد أنه من الممكن تبرير استخدام القنابل في محاولة لقتل رجل مثل أسامة بن لادن (مما قد يؤدي إلى خطر قتل وتشويه الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال)، فيجب أن تعتقد أنه قد يكون من المبرر في بعض الأحيان أن يتم تعذيب رجل مثل أسامة بن لادن (على الرغم من خطر تعذيب شخص بريء فقط لأنه يشبهه)".

يوضح بحثنا المفارقة أنه على الرغم من أن الملحدين الجدد يدّعون أن أيديولوجيتهم أكثر استنارة وسلمية من الدين، فإنهم غالبا ما ينتهي بهم الأمر إلى الدعوة إلى العنف. هذا لأنهم يظهرون نظرة سطحية للعالم بأنه منقسم بين حضارتين، علمانية ودينية، وأنه لا يمكن التعايش بينهما. المفارقة هنا هي أنهم يتبعون نفس منطق الزعماء الدينيين المتشددين الذين يدينونهم بشدة.

بعد مرور خمسة عشر عاما على غزو العراق والفوضى التي خلّفها، من الواضح أنه يجب أن يكون هناك فهم أكثر دقة لمجتمعات وسياسات الشرق الأوسط، لكنه من المستبعد ظهور هذا المستوى من الدقة والحرص في تحليل الملحدين الأصوليين مثلهم مثل خصومهم الأصوليين الدينيين.

_________________________________________________

ترجمة: كريم طرابلسي

هذا التقرير مترجم عن The Conversation ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة