شعار قسم ميدان

علماء الأعصاب.. هذه الطريقة هي الأمثل لمواجهة مخاوفك

midan - depressed

كان بيتر البالغ من العمر ثلاث سنوات يخاف من الأرانب، لذلك استمرت ماري كوفر جونز بإحضار الأرانب إليه. في البداية، كانت تأخذ أرنبا محبوسا في قفص إلى بيتر بينما كان يأكل بعض الحلوى ويلعب مع أطفال آخرين. في البداية، كان بيتر يشعر بالرعب من مجرد وجود أرنب في الغرفة نفسها، لكن سرعان ما سمح للحيوان بالاقتراب حتى مسافة 12 قدما، ثم أربعة، ثم ثلاثة أقدام. في نهاية المطاف، كان بيتر سعيدا بمداعبة الأرانب أصابعه. كتبت كوفر جونز في عام 1924: "توضح حالة بيتر كيف يمكن التخلص من الخوف في ظل ظروف مخبرية".

     

ماري كوفر جونز (مواقع التواصل الاجتماعي)
ماري كوفر جونز (مواقع التواصل الاجتماعي)

  

أصبح من المعروف الآن أن كوفر جونز تعتبر "أم العلاج السلوكي"، حيث وضعت ملاحظاتها الأساسية لما سيُعرف باسم العلاج بالتعرض الذي يقوم على حمل الناس على التغلب على مخاوفهم من خلال مواجهتها في بيئات مضبوطة خاضعة للرقابة.

 

بعد مرور قرن من الزمان، يمكن لعلماء الأعصاب أن يشاهدوا كيف أن مواجهة مخاوف المرء تكمن في الواقع داخل الدماغ. باستخدام أدوات الهندسة الجينية، يمكنهم تصنيف الخلايا العصبية الدقيقة في دماغ الفأر الذي يخزن ذاكرة خوف محددة، ثم يمكنهم مشاهدة ما يحدث عندما تتذكر القوارض تلك التجارب. من خلال القيام بذلك، أظهر أسامة خلف من مدرسة لوزان الاتحادية للفنون التطبيقية أن التخلص من الخوف يعتمد على إعادة تنشيط الخلايا العصبية التي تشفره. يجب على الفأر أن يعيد تجربة الخوف العميق إذا ما أراد التخلص منه.

  

عندما يواجه شخص تجربة جديدة -كالاقتراب من أرانب مخيفة- تتحد مجموعات من الخلايا العصبية في الدماغ معا وتصبح الروابط بينهم أقوى وتتراكم الجزيئات في الأماكن التي تلتقي فيها الخلايا العصبية. يعتقد العديد من العلماء أن هذه الأنماط المحفوظة للصلات المعزَزة هي أساس الذكريات، وهي التمثيل المادي للأشياء التي نتذكرها وتسمى هذه العصبونات المترابطة بالـ "الانْغِرام"، وهو الأثر الدائم في الفيسيولوجيا العصبية وعلم النفس.

  

عندما يستحضر الناس الذكريات القديمة، يتم تحفيز "العصبونات الانغرامية" من جديد، كما أنها تدخل فترة قصيرة من عدم الاستقرار عندما تختفي الجزيئات التي حافظت على الارتباطات بينهم ويجب عندها إعادة تشكيل هذه الروابط مجددا. وتعني هذه العملية المعروفة باسم "إعادة الدمج" أن البشر يعيدون بناء ذكرياتهم جزئيا في كل مرة يستحضرونها إلى الذهن، ويعني ذلك أن فعل التذكر يخلق نافذة من الوقت يمكن تحديث الذكريات فيها، ويمكن نسيان المخاوف فيها أيضا. تشير دانييلا شيلر من مدرسة طب ماونت سيناي: "لقد كانت هذه النظرية مجرد اعتقاد، ولكن [هذه الدراسة الجديدة] هي أحد أكثر الإثباتات المباشرة حتى الآن".

    

undefined

    

وعمل أسامة خَلَف وفريقه بقيادة يوهانس غراف مع سلالة خاصة من الفئران المهندسة والتي تكون طبيعية تماما ما دام يمكنهم تناول دواء يسمى دوكسيسيكلين. فإذا أزلت الدواء من وجبات الطعام، ستبدأ سلسلة من الجينات في العمل وتسقط جزيئا مميزا في أي خلية عصبية نشطة. وبهذه الطريقة تقوم القوارض بتصنيف الانغرامات الخاصة بها تلقائيا. عندما يتعلمون شيئا جديدا أو يتذكرون ذكرى قديمة، يتم تحديد الشبكات العصبية من العصبونات في رؤوسهم ضمن هذه التصنيفات.

  

استفاد الفريق من هذه الميزة في تجربة بسيطة: قاموا بتدريب الفئران على الخوف من صندوق صغير، عن طريق وضعهم في داخل الصندوق وصعقهم ببعض الصدمات الكهربائية الخفيفة. بعد شهر، أوقف الفريق الدوكسيسيكلين عن القوارض وأعادهم إلى الصندوق نفسه. لقد تجمدوا، وهي علامة واضحة على أنهم كانوا يتذكرون محنتهم القديمة. في هذه الأثناء، كانوا يصنفون جميع الخلايا العصبية التي أطلقت خلال هذه اللحظة من التذكر، أي انغرام الخوف.

  

في وقت لاحق، طبّق "خَلَف" العلاج بالتعرض على الفئران مرارا وتكرارا من خلال إعادتهم إلى الصندوق المخيف دون أي صدمات كهربائية مصاحبة. مع استمرار هذه الجلسات، بدأت تخف حدة خوفهم. ولكن هنا هو الشيء الحاسم: كلما زاد إعادة تنشيط عصبونات الانغرام لخوفهم الأصلي، تخلصوا من خوفهم بشكل أسرع.

  

بدون السابق لا يحدث هذا الأخير. وأظهر "خَلَف" ذلك عن طريق إخماد الخلايا العصبية المصنفة بالقوارض كيميائيًّا، ومنعها من إعادة تنشيط انغرامات الخوف. عندما فعل "خَلَف" ذلك، استجابت الفئران بشكل أقل للعلاج بالتعرض. ولكن عندما عزز "َخَلَف" نشاط عصبونات الانغرام خلال جلسات علاج القوارض، تخلصوا من مخاوفهم بشكل أسرع من ذي قبل.

   

undefined

    

تقول جيلينا رادولوفيتش من جامعة نورثويسترن: "إنه تقدم مهم، من حيث إنه يقترح -للمرة الأولى- أن التخلص من الخوف ينطوي على تعديل للذاكرة الأصلية المسببة للخوف". لكن تقنيات تصنيف الذاكرة لا تزال جديدة؛ وكما هو الحال مع جميع الطُرق الرائدة، قد يكون من الصعب تفسير نتائجها. على سبيل المثال، تُظهر هذه التقنيات غالبا أن الخلايا العصبية التي يتم تنشيطها عندما يتم تذكر الذكريات تتداخل جزئيا فقط مع تلك المشفرة للذاكرة الأصلية. تقول رادولوفيتش: "يمكن تفسير التأثيرات الملاحظة في دراسة "خَلَف" على وجود مجموعة عصبية جديدة لا تشارك بالضرورة في معالجة الذاكرة الأصلية".

 

ومع ذلك أشار بول فرانكلاند وشينا جوسلين من مستشفى الأطفال المرضى (The Hospital for Sick Children) في تعليق ذات صلة: "في العديد من النواحي، تؤكد هذه النتائج ما يعرفه أي معالج متفوق بالفعل؛ وهو أن المرضى الذين يعانون من اضطرابات القلق -إلى حد كبير- يجب أن يعيشوا صدماتهم مجددا للتغلب عليها". يقول "خَلَف": "إن العلاج بالتعرض هو العلاج الناجح الوحيد المعروف للذكريات الصادمة".

 

لكن الأمر لم يكن ناجحا دائما، و"في بعض الأحيان، ظهرت المخاوف من جديد، مما أجبر المريض على العودة إلى طبيبه النفسي". ربما يكون السبب هو أنه بدلا من تغيير طريقة تذكره للذاكرة الأصلية للخوف، فإن المرضى يقومون ببساطة بتفكيكها إلى أخرى جديدة. يمكن لتراكم ذكريات آمنة ومطمئنة أن يخفي الخوف الأصلي، لكنه لا يزال موجودا هناك. ويضيف "خَلَف" قائلا: "إعادة تجربة الخوف الأصلي يمكن أن يكون أكثر فائدة من قمعه".

   

undefined

    

ما زال هذا الأمر افتراضيا، أظهر الفريق أن إعادة تنشيط انغرام الخوف أمر مهم لقمع هذه المخاوف، لكن هل يمنعهم من العودة لاحقا؟ وركز الفريق أيضا فقط على الخلايا العصبية في جزء واحد من الدماغ "التلفيف المسنن" الذي يشارك في خلق ذكريات جديدة. لكن ماذا عن المناطق الأخرى، مثل اللوزة الدماغية التي تؤثر على العواطف، وقشرة الفص الجبهي التي تحكم عملية صنع القرار والسلوكيات المعقدة الأخرى؟

  

من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة، يأمل الفريق في إيجاد طرق لمعرفة متى تكون العلاجات بالتعرض أكثر نجاحا، وربما تطوير طرق أكثر فاعلية لمساعدة الناس على مواجهة مخاوفهم.

_____________________________

ترجمة: آلاء أبو رميلة

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان

المصدر : الجزيرة