شعار قسم ميدان

التلفزيون لا يزال مسيطرا.. هكذا اخترق عالم السوشيال ميديا

MIDAN مشاهدة التلفزيون

رغم ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار منصاتها، فإن التلفزيون ظل "الضيف الدائم" في كل بيت فخلال الزيارات العائلية، واجتماع الأسرة على الطعام بل وفي المستشفيات والمؤسسات الحكومية، وحتى خلال تأدية الأعمال المنزلية أو حتى تصفح موقع "فيسبوك"، يظل التلفزيون في خلفية المشهد يستعرض برامجه ومسلسلاته الدرامية وأفلامه الكلاسيكية، والتي يتخللها بالطبع الكثير من الإعلانات التجارية.

 

فبحسب دراسة نشرت نتائجها في فرنسا وتناولت 88 بلدا، شهد عام 2015 تراجعا إضافيا في الوقت الذي يخصصه المشاهدون لمتابعة قنوات التلفزيون بشكل مباشر، خصوصا من جانب الشباب الذين يقبلون بشكل متزايد على أشكال أخرى من المتابعة التلفزيونية، وأظهرت الدراسة أن الوقت الذي قضاه المشاهدون في متابعة التلفزيون بشكل مباشر خلال عام 2015 تراجع في المعدل إلى ثلاث ساعات و14 دقيقة يوميا بدل ثلاث ساعات و17 دقيقة. وهذا التوجه يبدو أكثر وضوحا لدى فئة الشباب، إذ تراجع المعدل اليومي إلى ساعتين وأربع دقائق بعد أن كان ساعتين و14 دقيقة في 2014.(1)

 

لكن الدراسة نفسها قد بيّنت زيادة كبيرة في معدل الوقت الذي يمضيه الجمهور في مشاهدة البرامج التلفزيونية عبر الإنترنت. ففي الولايات المتحدة، يستحوذ التلفزيون المباشر على 47% من الوقت الذي يمضيه المشاهدون في مشاهدة البرامج التلفزيونية والتي يزداد عدد متابعيها عبر الإنترنت (1)، حيث يشاهدونها في وقت لاحق لوقت عرضها الأول.

 

على الجانب الآخر قال غسان مراد أستاذ اللسانيات والإعلام الرقمي في الجامعة اللبنانية إن "يوتيوب" "أخذ الشباب من التلفزيون لأنه متاح أكثر، لكن هناك فئة عمرية ما زالت تعتمد على التلفاز، إضافة إلى ذلك، فالمستقبل سيتيح مشاهدة البرامج التلفزيونية من خلال الهواتف، كما أن مواقع التواصل ستفيد التلفزيونات في سرعة الحصول على الخبر. من هنا لا يمكننا الجزم مطلقا لمن ستكون الغلبة، بل إن التواصل مستمر والإعلام متواصل، وإن اختلفت أشكاله وطرقه.. ثم لا بُدّ من الحرص على خصوصية كل وسيلة إعلامية، فالمواقع التواصلية تتميز بالسرعة في نقل الخبر، في حين أن التلفاز يقدم البرامج والأفلام والتحاليل".(2)

 

عندما يجلس المرء في حجرة بها تلفزيون، وأيا كان لما يفعله من أهمية، لا يستطيع منع نفسه من اختلاس النظر كل حين وآخر ليرى الصورة المعروضة على الشاشة
عندما يجلس المرء في حجرة بها تلفزيون، وأيا كان لما يفعله من أهمية، لا يستطيع منع نفسه من اختلاس النظر كل حين وآخر ليرى الصورة المعروضة على الشاشة
 

أما مكــرم محمد أحمـد، رئيــــــس المجلـــس الأعلــــى للصحافة والإعلام، فقد رفض القول بتراجع دور الإعلام لصالح وسائل التواصل، وقال: "الإعلام الذي تُمثّله القنوات الأرضية والفضائية، ســوف يبـــقى، وهــو صاحــب الدور الأساسـي، في توجيه وقيــــادة المجتـمع، لـيس بمعـنــى السيطرة الموجهة طبعا، ولكن بث رسالته الإخبارية والثقافية والفنية والترفيهية وما إلى ذلك، مواقع التواصل وإن كانت أمرا واقعا فهي مرتع خصب للشائعات، وهي ليسـت مصدرا مؤكدا للأخبار، ولا يعتـد بـها فـــي ســاحات القضاء، ومن السهل فبركة محتواها، ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع شائعة عن موت فنان، أو أخبارا سياسية مفبركة، وخلافه.. مهما كانت السلبيات التي تعتري العمل الإعلامي، تبقى له الأولوية المهنية، على الأقل في العقد القادم".(2)

 

فلماذا يظل التلفزيون مؤثرا في المجتمع العربي خاصة رغم ظهور منصات التواصل الاجتماعي، بل إن منصات التواصل نفسها تمتلئ بمواد تلفزيونية وتعليقات عليها، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن سيطرة التلفزيون على العقول وأثره النفسي على المجتمع.

 

صندوق صغير سحر أعين الناس

"يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة … والأذن تعشق قبل العين أحيانا"

 

هكذا قال الشاعر العربي بشار بن برد مقدما حاسة السمع على البصر، لكن الأمر سيختلف عندما نعلم أن الشاعر بشار بن برد كان ضريرا وأنه لم يكن يتكلم عن القاعدة بل الاستثناء، وأنه "ليس من رأى كمن سمع"، بل إن المرء يجد صعوبة في تجاهل ما يمر أمام عينيه أكثر مما يجد في تجاهل ما يمر بسمعه من أصوات. وعندما يجلس المرء في حجرة بها تلفزيون، وأيا كان لما يفعله من أهمية، لا يستطيع منع نفسه من اختلاس النظر كل حين وآخر ليرى الصورة المعروضة على الشاشة، وربما لذلك العين هي العضو الوحيد الذي أعطانا الله غطاء له، جفنين نستطيع التحكم في فتحهما وغلقهما حسب الحاجة.(3)

 

بل إننا نجد أن "التواصل الإنساني عن طريق الأذن أكثر اعتمادا على العقل من التواصل الإنساني عن طريق العين. إن المرء فيما يبدو يتأثر بما يسمعه بسبب مضمونه ومنطقه، أي بناء على تأثيره في عقله، بينما يتأثر بما يراه لأسباب واهية الصلة بالمنطق والإقناع". هكذا يفسر جلال أمين سحر التلفزيون وسر جاذبيته، "فبمجرد أن عرف الناس التلفزيون وخبروه، تركوا كل شيء بما في ذلك الأهل والأصحاب، وفضلوا الجلوس أمامه، وخصصوا له أفضل مكان في البيت وأحاطوه بمختلف أنواع الحماية والرعاية.. وبلغ حب الناس له حدا أصبح معه من الصعب انتزاع الزوجة لزوجها من أمام التليفزيون، أو العكس. كما أصبح كثير من الأطفال يقضون أمامه عددا من الساعات يفوق ما يقضونه في المدرسة".(3)

 undefined

ولأول مرة، لم يعد الناس يعانون لمعرفة أخبار العالم، فالتلفزيون يأتي بالأخبار من كل أقطار العالم في لمح البصر، ليس على المشاهدين إلا تشغيل الشاشة لمعرفة ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث. لم يعد الإنسان بحاجة إلى التفكير أصلا، فالتلفزيون يمد جمهوره بكل المعلومات التي يحتاجون إليها، كل الآراء بخصوص كل شيء، وبدلا من كدح الإنسان ليكوّن رأيه عن أمر معين، أصبح العقل سلة خوص، مليئة بكل الآراء الجاهزة، وكل الموضوعات والكلمات التي يحتاج إليها في نقاشاته اليومية مع جيرانه وزملائه في العمل أو الجامعة.(4)

وقبل سنوات، أجرت هيئة الإذاعة البريطانية دراسة لاختبار قدرة مشاهدي التلفاز على العيش بدونه لمدة عام كامل، واختار المنظمون 184 عائلة للمشاركة في الدراسة، وقُدمت لتلك الأسر إغراءات تمّثلت في مبالغ مالية أسبوعية مقابل توقفها نهائيا عن استخدام التلفاز طيلة المدة المحددة، وبعد أسابيع قليلة بدأت أسر كثيرة في التفلت من الاتفاقية عائدة إلى التلفاز، بعد انقضاء خمسة أشهر فقط كان الـ 184 عائلة قد انسحبوا تماما. أما في أميركا، فقد وقعت حادثة بشعة شغلت الرأي العام الأميركي لفترة طويلة، حين قُتل رب أسرة بينما انشغل أطفاله بمتابعة برنامجهم المفضل بعد مقتله مباشرة.(5)

 

إلى ذلك الحد قد يسيطر التلفزيون على عقول البشر، حيث يتعرض مشاهدو التلفزيون كل يوم لمجموعة هائلة من الصور وحلقات المسلسلات ونشرات الأخبار وبرامج وأمور أخرى لا علاقة بينها على الإطلاق، مما جعل "ريجيس دوبريه" يقول إن "التلفزيون يقوم ببرمجة سابقة للمتلقين"، ويرى إدغار موران أن عروض التلفزيون تقوم بعمل "غسيل للمخ".(6) وقد تكلم كثير من المفكرين في مقدمتهم بورديو عن التلفزيون وآليات التحكم في العقول، فلماذا يظل التلفزيون رغم ذلك يمتلك جمهورا كبيرا؟

 

الضباب العقلي.. كل هذه الثرثرة كي تسترخي

ماذا ستفعل بعد يوم عمل طويل وشاق؟ ستذهب إلى البيت، تتناول الغداء، ثم تجلس مسترخيا، تحاول ألا تفكر في شيء، لأنك متعب، حسنا! ما رأيك في بعض المتعة الرخيصة سهلة التناول، لا تحتاج إلى أي جهد بدني أو عقلي، ولا حتى تفاعل أو قراءة أو تعليق مثل منصات التواصل الاجتماعي، ما عليك إلا ضغط زر التشغيل وسيأخذك التلفزيون لعالم من الفراغ الممتلئ باللا شيء، تغرق فيه فلا تشعر بالوقت ولا بالزمن، حتى لو كنت تشاهد الأخبار، فستندمج معها لدرجة نسيان الواقع مصدر الأخبار عينها.

 

 

هذا ما قاله "هربرت كرجمان" و"توماس مولهولاند" في دراسة نُشرت عام 1971 عن مدى تأثير وسائل الإعلام على العقل، إننا حين نجلس لمشاهدة التلفاز ينتقل المخ خلال 30 ثانية من وضعية أمواج "بيتا" التي يكون عليها العقل عند القراءة ومحاولة التفكير العقلاني إلى وضعية أمواج ألفا وهي وضعية "نصف وعي" وحالات الاسترخاء الشديدة، قبل الدخول في النوم.(6)

 

يضيف "كرجمان" أن القسم الأيسر من المخ وهو المسؤول عن العمليات التفكيرية يدخل في شبه عملية انتظار، أما القسم الأيمن من المخ المسؤول عن المشاعر وعن العمليات التي لا تحتاج إلى كامل الوعي يصبح نشيطا.(4) فخلال مشاهدة التلفزيون يبدو الشخص كأنه "منوم مغناطيسيا". وتخلص الدراسة إلى أن "العقل هو الذي يتحكم بالمادة المقروءة، بينما التلفاز هو الذي يتحكم بالعقل".(6)

 

لذلك يقول محمد علي فرح في كتابه "صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع": "نجد أن التلفزيون هو أحد أهم أدوات النظام، فمهما تطورت وسائل الاتصال، وظن البعض أن "فيسبوك" أو "تويتر" أو "يوتيوب" هي الوسائل الأكثر تطورا، ستبقى الحقيقة أن كل هذه الوسائل تعتمد على التلفزيون مصدرها الأول للخبر، وذلك لأن التلفزيون هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن المنظومة أنها عند كل طبقات الشعب على عكس بقية الوسائل التي تستخدمها بعض الطبقات دون غيرها، فقد تمر على أحد الفقراء الذي يتكوّن بيته من أربعة ألواح معدنية لا تتعدى المساحة بداخله عشرة أمتار، وليس عندهم مصدر للمياه، ولا يمتلكون هاتفا، ولكن لا بد أن ترى فوق السقف المصنوع من الخوص صحن استقبال لإشارة الأقمار الاصطناعية!".(6)

 undefined

لكن يبقى السؤال: لماذا يتمتع التلفزيون بذلك السحر؟ يجيب بعض العلماء(7) بنظرية تُعرف بـ "الاستخدامات والإشباعات"، وملخصها أن الإنسان يتابع وسائل الإعلام من أجل إشباع مجموعة من الحاجات والدوافع، وعلى أساس ذلك يتحدد إقباله عليها كمّا وكيفا، ويقسم العلماء تلك الحاجات إلى:

– حاجات معرفية: تشمل المعلومات والمعرفة وفهم ما يدور في الواقع والاستكشاف ومتابعة الجديد وحل المشكلات.

– حاجات عاطفية: مثل الحاجة إلى الترفيه والتسلية والشعور بالبهجة وعدم الشعور بالوحدة.

– حاجات الاندماج الشخصي: وتشمل تقوية الشخصية والشعور بالسيطرة والاستقرار والأمن والتوازن والمصداقية.

– حاجات الاندماج الاجتماعي: وتشمل التواصل مع الآخرين، والانتماء لجماعة والمشاركة في الحياة العامة.

– الحاجات الهروبية: تشمل الرغبة في التخلص من التوتر والهروب من الضغوط وملء الفراغ.

وتلك الحاجات ما تجعل للإعلانات سطوة مطلقة على الإنسان.

 

الإعلانات.. المخدرات المرئية

"لا توجد حروب في العالم تهدد حياتنا اليوم غير تلك التي تدور بداخلنا، لا توجد مأساة عظيمة في العالم سوى حياتنا اليومية، نحن الجيل الذي تربى على التلفاز معتقدين أننا في يوم من الأيام سنكون أثرياء أو نجوم أفلام أو من مشاهير العالم، ولكن يبدو أننا لن نكون، نحن نتعلم هذه الحقيقة ببطء ونحن بالفعل في حالة غضب شديد"

– تشاك بولانيك كاتب رواية "نادي القتال" (fight club)

 

لم يكن للإعلان التلفزيوني أهمية تُذكر طوال خمسينيات القرن الماضي، حتى في الدول الصناعية، بل ظلت معظم القنوات التلفزيونية خالية تماما منه حتى انتهاء ذلك العقد. ثم بدأ زحف الإعلانات شيئا فشيئا حتى أصبحت هي مصدر الربح الاساسي لأصحاب القنوات(8)، وقد ترتب على ذلك كما يقول جلال أمين "أن عرض الإعلانات وتوزيعها على أوقات البث التلفزيوني لم يعد يجري بما يناسب ما يعرضه التلفزيون من برامج، بل أصبحت موضوعات هذه البرامج وطبيعتها تتحدد، أكثر فأكثر، طبقا لما يريد أصحاب السلع عرضه من إعلانات".(8)

 

ولم يتغير الأمر كثيرا في البلاد العربية، ففي مطلع الثمانينيات، أي بعد عشرين عاما من ظهور التلفزيون في مصر، كان الأمر قد انقلب رأسا على عقب، فقد زادت القوة الشرائية لدى شرائح اجتماعية واسعة، وعاد العاملون في الخليج محملين بالتلفزيونات، وكان من الطبيعي أن تستجيب البرامج الجديدة للأذواق الجديدة، وسال لعاب منتجي السلع وبائعيها ومروجيها لهذه الشرائح الجديدة التي امتلكت قوة شرائية، فظهر سيل من الإعلانات لتوسيع السوق عن طريق شاشة التلفزيون.(8)

 

يقول جلال أمين: "لقد بدأت الإعلانات في مصر على استحياء في البداية، ولم تكن تجرؤ على الظهور إلا بين برنامج وآخر عندما ينتهي الأول تماما وقبل أن يبدأ الآخر، ولكنها شيئا فشيئا تجرأت حتى أصبحت تقاطع التمثيلية الواحدة والمباريات الرياضية عدة مرات، بل تجرأت فظهرت بعد ثوانٍ قليلة من أذان المؤذن للصلاة.. كما اختلطت الإعلانات خلال شهر رمضان اختلاطا مدهشا بشعائر الدين والبرامج الروحية، فإذا بالجمهور المسكين يتلقى الصفعات من مروجي السلع من اليمين واليسار، وفي أي ساعة من ساعات النهار أو الليل، بينما استمر القائمون على إدارة هذا الجهاز في الزعم بأن التلفزيون لا يستهدف إلا تسلية الجمهور وتوعيته وتثقيفه!".(8)

 

 

فالإعلان حسب بورديار هو "ذلك الإجراء المختصر الذي يستطيع أن يُغرقك في الأحلام من غير أن يُحدّثك، بلا ماض وبلا مستقبل، أنه لا يُنسى مع أنه لا يُحفظ، له من القوة ما يُمكنه من فرض ما يريده علينا بغير إجبار". يشرح بودريار أن الإعلان في حقيقة أمره "هو الصورة الوحشية للنظام الرأسمالي، نظام اقتصاد الاحتيال البريء"، والإعلانات لا يمكن أن تُناقش، حتى لو ظهر في صورة غير إنسانية ولا أخلاقية، فلا أحد سيشعر بذلك، بل هو يمحو الواقع تماما ويقف راقصا على أطلاله.(9)

إعلانات الساحل الشمالي و"الكومباوندات" العقارية على سبيل المثال "تروج للحياة في أرقى صورها، الراحة كما نتمناها، والضحكة التي تملأ وجوه الفتيات اللاتي يرقصن بلباسهن الأبيض الملائكي".(9) وبجانب "التكرار" الذي هو "أمرّ من السحر" كما يقول المثل الشعبي "الزن عالودان أمرّ من السحر" تستغل الإعلانات أمانينا الدفينة وأكثر احتياجاتنا المُلحة، لتزرع داخلنا الرغبة المشتعلة لشراء السلعة التي يروج لها الإعلان التلفزيوني.

 

فعبر نظرية "ماسلو" عن هرم الاحتياجات البشرية، تتلاعب بنا الإعلانات، فقد قسّم "ماسلو" احتياجات أي إنسان في شكل هرمي:

 undefined

حيث يأتي في قاعدة ذلك الهرم الحاجة الفسيولوجية، وهي الأشياء الأساسية مثل الطعام والشراب والدواء والهواء، فتأتي إعلانات المطاعم والمشروبات مليئة بصور صناعية شهية للأطعمة، ويتم ربط الشبع من الجوع بتلك الصور.

 

 

ثم تأتي الحاجة إلى الأمن، فتروّج الإعلانات على سبيل المثال لعلامة تجارية معينة من السيارات على أنها الأكثر أمانا، أو أحد أنواع الألبان على أنه الأكثر أمانا وصحة للأسرة وهكذا. ثم تأتي الحاجة الاجتماعية، وهي الشعور بالانتماء كتكوين الصداقات والحصول على منصب اجتماعي مرموق، تأتي هنا إعلانات المنتجات المرتبطة بالأناقة والحصول على وظيفة، وإعلانات تبين أن ذلك المنتج يستخدمه الأغنياء فقط، فلكي تكون مثلهم اشترِ المنتج. ثم تأتي الحاجة إلى التقدير، فنجد الإعلانات في صيغة "عبّر مين قدك – أنت الفكرة" لتخدع المشاهدين أن كلما اشتروا المنتج شعروا بالثقة في النفس.

 

وأخيرا الحاجة إلى تأكيد الذات، وهي قمة الهرم حسب تصور "ماسلو"، وهي حاجة الإنسان في النهاية إلى الشعور بالإنجاز والابتكار، وتقديم ذاته للوجود، ومثال على ذلك إعلان "سبرايت" (sprite) الذي يقول: "أنا كده.. انت عايز تبقى إيه؟".

ويعلق محمد علي فرح: "إن الإعلانات كالمخدر تماما، فلن تستطيع أن تقف في وجه همومك وأن تغير ملامح يومك، كما تعدك شركة المصرية للاتصالات، ولن تخرق الأسفلت ليتحول إلى بحر من المياه المثلجة المنعشة كما تعدك "سبرايت" (sprite)، ولن ترسم على الحائط المتهدم معبرا إلى أرض الأحلام، كما تعدك "كوكاكولا" (coca cola)، ولن تقوم بتحويل البؤس على وجوه الناس في الحافلة العامة بنفسجية اللون بقطع شوكولاتة كما تعدك "كادبوري" (cadbury) .(9)

 

"لن تستطيع فعل هذا أو ذاك إلا إذا أنزلت عقلك من على هذه السحابة المجاورة للقمر وأيقنت أن البؤس الذي يكسو الوجوه، وأن هذا الحائط المهدم، والأسفلت الحارق في وقت الزحام الخانق، وأن هذه الهموم وهذا اليوم ذا الملامح الحزينة هو بسبب هذه المنظومة التي تفرض عليك نظام حياتك التعيس من خلال مثل تلك الابتسامة التي تعلو وجه المهرج  لـ "ماكدونالدز" (macdonald’s) الذي تحبه"(9)، فهل لكل ذلك علاقة نفسية مباشرة على المجتمع؟

 

زراعة العبودية

كان فرويد هو أول من ابتدع مفهوم "اللاشعور" في علم النفس الحديث، ثم بنى على ما كتبه "جوستاف لوبون" في "سيكولوجيا الجماهير" مستخدما مفهوم اللاشعور ليُعيد صياغة وتعديل أطروحة لوبون في كتاب "علم نفس الجماهير" حيث يقول فيه فرويد: "إن الجماهير لا تعرف البتة الظمأ إلى الحقيقة، فهي تطلب أوهاما، وعنها لا تستطيع عزوفا، وهي تقدم دائما اللاواقعي على الواقعي، اللاواقعي يؤثر فيها بقوة الواقعي نفسها، وعندها ميل ظاهر للعيان إلى عدم التمييز بينهما".(10)

 

لكن الأهم هو أن فرويد قد نقل أطروحة لوبون من تفسير سلوك الجماهير العابرة إلى سلوك الجماهير الثابتة، وهذا هو ما سينقله ابن أخته إدوارد برنيز للسوق الأميركي، رابطا بين رغبات الإنسان الدفينة وبين الترويج لسلع السوق، الأمر الذي وصفته الجامعة اللندنية التي تعد إحدى أهم الجامعات البريطانية بـ "رسائل اللاوعي".(10)

 

وقد أعدت الجامعة دراسة مفصلة عن تأثير اللاوعي، يقول عنها فريق البحث: "لقد أثبتت دراسات سابقة أن الفرد من الممكن أن يستجيب من خلال اللاوعي إلى معلومات معطاة من خلال رسائل معينة لا يستطيع تحليلها الوعي، لخلق مشاعر معينة"(10)، لكن هذه الرسائل لا تتوقف وظيفتها عند خلق المشاعر، بل هي تُعيد برمجة وتشكيل سلوك الإنسان والمجتمع كله.

يفقد مشاهدو التلفزيون الحساسية تجاه العنف، فمن كثرة ما يشاهدون من مشاهد عنف سواء في الأخبار أو الأفلام يفقدون الاهتمام أو المبالاة بالعنف الحقيقي
يفقد مشاهدو التلفزيون الحساسية تجاه العنف، فمن كثرة ما يشاهدون من مشاهد عنف سواء في الأخبار أو الأفلام يفقدون الاهتمام أو المبالاة بالعنف الحقيقي
 

هذا ما قاله "مارشال ماكلوهان" عندما قال في أطروحته في علم الاتصال الحديث إن "الوسيلة هي الرسالة"، أي إن مضمون وسائل الإعلام لا يمكن النظر إليه مستقلا عن تقنيات الوسائل الإعلامية، فطبيعة وسائل الإعلام التي يتصل بها الإنسان تُشكّل المجتمعات أكثر مما يُشكّلها مضمون الاتصال، وكل تغيير يصيب المجتمعات في الحقب الزمنية على مر التاريخ يرجع إلى شكل وسيلة الإعلام والاتصال التي تربط أفراد المجتمع بمن حولهم.(11)

 

تفسّر أطروحة ماكلوهان كثيرا من السلوكيات والظواهر البشرية الحالية، لكنها في المساحة الخاصة بالتلفزيون تبرز لنا أثر مشاهدة التلفزيون على سلوكيات المجتمع، وفي كتابه "وسائل الإعلام والمجتمع" يوضح "آرثر آسا بيرغر"(12) تلك التأثيرات:

 

أولا: يفقد مشاهدو التلفزيون الحساسية تجاه العنف، فمن كثرة ما يشاهدون من مشاهد عنف سواء في الأخبار أو الأفلام يفقدون الاهتمام أو المبالاة بالعنف الحقيقي، بجانب نزعة الكثير للجوء إلى العنف في الحياة اليومية.

 

ثانيا: يوفر التلفزيون ملاذا للتهرب عبر كوميديا المواقف الهزلية وبرامج العنف والمغامرة أو البرامج السطحية، مما يُعلّم مشاهدي التلفزيون سلوك الهروب والمراوغة في حياتهم اليومية، والهروب الدائم من مواجهة أي مسؤولية.

 

ثالثا: التجزئة والتشرذم، فالطريقة التي تُقطع بها ساعة عادية من ساعات البث التلفزيوني، من خلال العديد من الإعلانات التجارية والحملات الترويجية، تؤدي إلى الشعور بأن الحياة بشكل عام مجزأة وغير منظمة، وبعد فترة طويلة من مشاهدة التلفزيون، يقتنع العقل الباطن للإنسان أن الحياة عبارة عن أجزاء مجزأة ممتلئة بفواصل ترفيهية، مما يجعله يستصعب أي أمر جاد أو محتاج إلى وقت وجهد، مثل القراءة أو التعلم.

 

مشاهدة التلفزيون تجربة سلبية، يجلس الشخص ويشاهد النشاط البدني الوحيد المتاح وهو الضغط على الزر، أو تناول الطعام
مشاهدة التلفزيون تجربة سلبية، يجلس الشخص ويشاهد النشاط البدني الوحيد المتاح وهو الضغط على الزر، أو تناول الطعام
 

رابعا: القاسم المشترك الأصغر وتفكيك المجتمع، حيث إن التلفزيون يقلل أهمية أي موضوع ويبسط الأمور كثيرا، ويتجنب القضايا المهمة في محاولة لإرضاء أكبر قدر من الناس واستهداف القاسم المشترك الأصغر بينهم، وكلما انحدر مستوى البرامج جذبت مزيدا من الناس، لكنه جمهور واسع غير متفق على الإطلاق إلا في مساحات الترفيه كمباريات الكرة مثلا، مما يميت قضايا الشأن العام والإحساس الجمعي للمجتمع تجاه قضاياه.

 

خامسا: الحث على السلبية والاستهلاك، فمشاهدة التلفزيون تجربة سلبية، يجلس الشخص ويشاهد النشاط البدني الوحيد المتاح وهو الضغط على الزر، أو تناول الطعام، لذلك تتخلل مشاهدة التلفزيون عادة رحلات إلى الحمام والثلاجة، ومزيد من الأكل والاستهلاك والإخراج. ويتعلم الإنسان من تجربة التنقل بين القنوات أن اختياراته في الحياة عموما محدودة وأن المُقَدَّم له هو أفضل الاختيارات، ولا يمكنه التفكير خارج الموجود بالفعل!

سادسا: العنف باعتباره حلا: تستخدم البرامج والأفلام والمسلسلات في التلفزيون العنف كحل سهل لمشاكل مأساوية، ويتعلم المشاهدون أن العنف أفضل طريقة للتعامل مع صعوبات معينة، وينتقل هذا بشكل واضح لثقافة الإنسان فيظهر في تعامله مع الآخرين في الشارع وتعامله مع أبنائه، بل يصل الأمر إلى الذورة عندما يقتنع الناس أن القوي العنيف معه الحق أن يسيطر على الجميع وينتصر، فينتهي الأمر إلى مساندة الاستبداد.

 

ومع زيادة الإقبال على مشاهدة البرامج التلفزيونية على منصات الإعلام الجديدة مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" تزداد تلك التأثيرات، لأنها تندمج مع العالم الافتراضي، الذي ينتقل بالإنسان إلى عالم آخر يُستبدل فيه الواقع تماما ويعاد تعريفه.

المصدر : الجزيرة