شعار قسم ميدان

صناعة الإنسان المَدِين.. كيف تهيمن علينا الليبرالية الجديدة؟

midan - رئيسية قرض

في مذكراته "عالم الأمس" نعى الأديب النمساوي ستيفن زفايج أوروبا التي عاش فيها قبل نشوب الحربين العالميتين في القرن العشرين، ما نعاه زفايج تحديدا كان ما يُسميه "عصر الأمن الذهبي أو عصر التأمين العظيم" حيث الطمأنينة الأبدية والأشياء الدائمة، والدولة تلعب دور الضامن لهذا الاستقرار النفسي والاجتماعي. يتذكر زفايج في مذكراته أنه كيف كان كل شيء يقف راسخا ثابتا في موضعه المحدد كأنه فيه منذ الأزل. كان في مقدور أي موظف عادي من الطبقات الوسطى في الدولة الأوروبية أن ينظر إلى الروزنامة نظرة واثقة لا يشوبها أي قلق من المستقبل، فهو يعلم جيدا متى سَيترقَّى، ومتى سيُحال إلى التقاعد، وبالتحديد متى سيزداد راتبه ويرتفع دخله ومستوى معيشته.

   

كان الإنجاز الأساسي في أوروبا قبل الحرب هو الشعور بالأمان، فلقد سبق الحرب ما سماه زفايج "قرن التأمين العظيم"، حيث المنزل مؤمَّن عليه ضد النار والسرقة، والحقل ضد البرد والعواصف، وحياة الشخص ضد الحوادث والمرض. وكان يُقتطع من دخل كل مُواطن مبلغ سنوي من أجل رعاية شيخوخته. كان عالما من الروتين والرتابة، لكنه مُنظم ويبعث على الطمأنينة، عالم الدولة القومية الحديثة التي تنظم حياة مواطنيها ولا تتركهم وحيدين أمام المجهول أبدا.

  

بعين ناقدة يحلل زفايج نظرة الأمان الوجودي هذه، فعيبها البارز من وجهة نظر الأديب النمساوي هي الثقة البالغة بأن هؤلاء البشر ظنوا لوهلة أنهم ربما قد قهروا الخوف والمجهول، وتحصنوا ضد كل مخاوف الزمن وما يخبئه المُستقبل، حيث الدولة هي الملجأ وهي الضامن لحياة الإنسان بداية من حاجته إلى الأمن وصولا لتأمين وضعه الطبقي والمهني والاجتماعي، ويستدرك الأديب النمساوي أنه أيًّا كانت النهاية التي أدت إليها تلك الأحلام الحداثية والليبرالية، فإنه على المستوى الفردي، كان الفرد في أوروبا يشعر بالثقة تجاه المستقبل، فالدولة قدمت نفسها لهم أنها "قادرة على التحكُّم في تصاريف القدر ذاته". وفي عمله الضخم "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" يشبه الفيلسوف فهمي جدعان دول التحرر الوطني العربية التي قامت في منتصف القرن العشرين بالدولة الأوروبية في القرن التاسع عشر، دول ذات هيمنة أيديولوجية وبيوسياسية عالية، حيث تتولى حياة مواطنيها بشكل كامل وتصبح مسؤولة عن شؤونهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية بشكل كامل تقريبا، تظهر العلاقة بين المواطن والدولة علاقة أبوية تكون هي مصدر إحساسه بالأمن والثقة والطمأنينة.

   

الأديب النمساوي ستيفن زفايج (مواقع التواصل)
الأديب النمساوي ستيفن زفايج (مواقع التواصل)

   

انت مذكرات ستيفن زفايج "عالم الأمس" نَعْيٌ لعالم انتهى إلى غير رجعة، عالم الهندسة الاجتماعية والتأمين والأمن العظيم، أما العالم الجديد حسب زيجمونت باومان(1) هو عالم اللايقين وغياب الأمن الاجتماعي، فقد تراجعت الدولة عن أغلب مهامها الاجتماعية والاقتصادية، وتم تفكيك المكاتب السياسية والبيروقراطية الضخمة التي كانت مسؤوليتها هندسة حياة المواطنين والتخطيط لمستقبلهم للوصول بهم إلى بر الأمان، يجري هذا الحديث على الدولة الأوروبية التي نعاها زفايج ودولة التحرر الوطني العربية التي تحدث عنها فهمي جدعان ونزيه الأيوبي(2)، وتم تسليم قيادة العالم الحديث إلى لاعبين جُدد من أصحاب المبادرات الفردية ومالكي المشاريع الرأسمالية والمصارف الدولية والمؤسسات الاقتصادية العالمية ليصبحوا هم مالكي اليقين الجُدد في هذا العالم، والمُخولين حصريا بتوزيعه على المُتعطشين له، وإحدى أهم أدوات هذا اليقين ما بعد الحداثي كما يؤكد عالم الاجتماع والفيلسوف الإيطالي مَوْرِيزيو لازارتو هي سياسات التأمين بالاقتراض والديون البنكية وسياسات التمويل الربحية التي تقوم بها المؤسسات الاقتصادية باختلاف أحجامها، وما يتبعها من سياسات مراقبة وعقاب لتعيد تشكيل أفق الأفراد المادي والذهني والوجودي كبديل للدولة القومية وسياسات المواطنة التشاركية والأنظمة السياسية الأيديولوجية في الماضي القريب.

 

عالم من الخوف والهشاشة

يحكي الدكتور فاروق الباز(3) عالم الجيولوجيا المصري عن حياته في مصر فترة الخمسينيات والستينيات منتصف القرن الماضي، ذروة صعود دولة التحرر الوطني العربية، حين كانت أجهزة الدولة المختلفة هي التي تتولى مسؤولية التوظيف والتعيين وخلق عقود العمل الثابتة، حيث كان الجميع يعلم متى سيترقّى إلى الدرجة الأعلى ومتى سيرتفع دخله، ويشعر بالأمن لتأمين وضعه الاجتماعي إذا ألمّ به مرض أو سبب قهري منعه عن مواصلة العمل وكان حتى الحصول على مبلغ مالي كسُلفة من مقر عمله أمرا مُيسرا لمُواجهة أي أمر طارئ، مؤكدا أن جوهر دولة الرعاية الاجتماعية يكمن في أنها دولة ترعى حياة مواطنيها باعتبارها تجسيدا لمصلحتهم كمواطنين فيها.

  

كان ستيفن زفايج محقا في نَعيه بالفعل، فقد انتهى عصر التأمين الدولتي وانتهى معه الإحساس بالرتابة والطمأنينة، يُوضح هنا عالم الاجتماع الألماني والمُحلل النفسي مارتين دورنس(4) أن التطورات التي شهدتها المجتمعات المعاصرة على المستوى السياسي والاقتصادي شهدت انتشارا مُفجعا لأنماط مُعينة من الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب المُزمن وفقدان الرغبة في الحياة والخوف المرضي من المستقبل، موضحا "أن نهاية نظام دول الرفاه والرعاية ترك مئات الملايين حول العالم من أعضاء الطبقات الوسطى وكأنهم وحيدون في العراء، فبعد أن كانت دولة الرعاية والرفاه تحفظ الأمن الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها مما يُساهم في تعزيز أمانهم النفسي، بينما أتت التحولات النيوليبرالية المُتَمثّلة في المُدوامة الحثيثة لعمليات تفكيك أشكال التضامن الاجتماعي، وسحب يدّ الدولة عن الخدمات الاجتماعية والتأمينية والعديد من المجالات الحيوية وتسليمها للسوق، فضلا عن ثقافة العمل الهَش غير المُستقر والعقود قصيرة الأجل، على النقيض تماما من سياسات المواطنة التشاركية والتضامن الاجتماعي، لتتسبّب بشكل أساسي في شيوع حالة الهشاشة النفسية التي يُعاني منها الجميع اليوم".

    undefined

   

يلتقط الفيلسوف الإيطالي موريزيو لازارتو(5) طرف الخيط هنا، ليكشف حقيقة استثمار النيوليبرالية في حالة شيوع الهشاشة النفسية والعمل على تعميق -وعلى نطاق واسع- الإحساس بالتوحش الاجتماعي والعزلة الاجتماعية، مُعتمدا على أطروحات نيتشه يوضح موريزيو أنه "بخلاف نظريات الاقتصاد السياسي فإن أساس العلاقات في المجتمعات الحديثة ليس التبادل المادي والرمزي بين أعضاء الجماعة الواحدة، ولكن تحديدا الشعور بالذنب والتقصير وعدم التحقق والرغبة بنيل التقدير والاعتراف هو ما يجعل الفرد تحت ضغط الشعور بالذنب وعدم التحقق يقبل التخلي عن حريته المُطلقة وراغبا بالاندماج أكثر تحت سُلطة الجماعة أو المجتمع"، ما يتماشى مع جوهر الخطاب الفرداني النيوليبرالي الدعائي بتوليد حالة من الشعور بالذنب والتقصير عند الأفراد وتحميلهم وحدهم مسؤولية الأزمات والإخفاقات التي يتعرضون لها على المستوى المهنى والاقتصادي وحتى الصحي، بغض النظر عن السياقات الأوسع الأخرى التي ربما تكون ساهمت في خلق تلك الأزمات من الأساس.

   

ويتفق الأكاديمي الأميركي البارز ديفيد هارفي(6) مع الإيطالي موريزيو لازارتو في أن الحل العملي الذي طرحته النيوليبرالية كان في التوسع المُفرط في سياسات الاقتراض والتمويل والفوائد البنكية بدرجاتها كبديل اجتماعي واقتصادي لشبكات التضامن والرعاية الاجتماعية التي كانت ترعاها الدولة. فاليوم حين تعبر عن عدم تحملك للضغوط النفسية التي يفرضها عليك عالم السوق أو الارتفاع المستمر للأسعار تصدمك "الأوامر الاحتجاجية الصادرة من وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة والإعلانات والأصدقاء أو أصحاب العمل لتأمرك بالمزيد من العمل على ذاتك وتحقيق أقصى قدر من تعظيم الذات، والمثابرة، والحصول على قطعة من تلك الكعكة المتناقصة، "لأنك تستحق ذلك"، على الرغم من أنك يجب أن تثبت تلك الأحقية باستمرار، كل يوم"(7)؛ وإلا فأنت مقصر دون شك وعليك وحدك أن تتحمل تبعات ذلك.

  

وعلى الناحية الأخرى فإن علاج هذا الإخفاق والمخاوف والشعور بالوحدة بات يتم علاجه عن طريق الاقتراض والمزيد من الاقتراض، حيث تسجل العديد من الإحصائيات(8) من غالبية دول العالم ارتفاعا محموما في سياسات الاقتراض والديون البنكية الخاصة، جنبا إلى جنب مع زيادة التضخم وارتفاع الأسعار والأزمات الاقتصادية الناتجة عن تطبيق برامج الليبرالية الجديدة.

   

   

القرض والهيمنة السياسية

"لم تعد المشكلة في المجتمعات الراهنة في الإنسان المحبوس، بل في الإنسان المَدين"

 (جيل ديلوز)

   

تحكي زوجة الشاب جاسم الراشد(9) في إحدى دول الخليج كيف دمرت سياسات الديون والاقتراض حياة أسرتها، قائلة: "أنصح الناس بأن يموتوا جوعا بدلا عن الاقتراض. فجاسم كالكثيرين، أغرتهم البنوك بمزاياها وامتيازاتها التي تقدمها لعملائها بعد أن تحفزهم وترسم لهم أوهاما، ولظروف مرّت بها العائلة، اقترض جاسم من أحد البنوك مبلغا وصل مع فوائده إلى 263 ألف درهم، ولسوء حظه تورط بعدها مع أصدقائه في مشروع تجاري فاشل، ولم يستطيع السداد ودخل على إثر هذا السجن ثلاث سنوات، وبعد خروجه زادت عليه الفوائد، وبحكم أنه كان في السجن ولم يكن لديه عمل اضطر إلى اقتراض مبلغ من بنك آخر لتسديد دينه الأول، وبعد أن وفرت له إحدى الجهات الحكومية وظيفة محترمة، تم التعميم عليه من قبل البنكين، وانتهى جواز سفره من دون تجديد، وهو لا يستطيع إخراج بطاقة الهوية، ويطلب منه عمله شهادة حسن سير وسلوك، وبسبب تعميم البنكين عليه لا يستطيع استخراج هذه الورقة لتسوية أوضاعه، مع العلم أنه توصل إلى حل مع البنكين حيث سيتكفل بنك ثالث بسداد ديونه على أن يسدد له لاحقا! ولكن هذا أيضا متوقف على شهادة حسن السير والسلوك المتوقفة بدورها على بطاقة الهوية والجواز المحجوزين".

  

تبدو قصة جاسم المؤسفة التي وقعت في إحدى الإمارات العربية المُتحدة كابوسا يخيم الآن على العديد من أفراد الطبقات الوسطى في البُلدان العربية التي تسير بخطى حثيثة تجاة حظيرة الليبرالية الجديدة، فلا عاصم الآن من حوادث الزمن إلا البنك والقرض، فالعديد من الدراسات(10) تؤكد العلاقة الوثيقة بين خصخصة ميكانيزمات التأمين الاجتماعي، وفردنة السياسات الاجتماعية، والرغبة في جعل الحماية والأمان الاجتماعي وظيفة السوق والمؤسسات الرأسمالية التمويلية فقط، وبين توسع الاقتصاديات القائمة على الديون والقروض التي بات لها اليد العليا في العديد من السياسات على مستوى العالم لتعميق منطق الهيمنة النيوليبرالية وتوسيعه.

  

يلفت موريزيو لازارتو(10) الانتباه لمنطق الهيمنة النيوليبرالية موضحا أن التوسع المُفرط في سياسات الديون والإقراض يُصاحبه بصورة لصيقة توسع في بناء علاقات قوة جديدة داخل الفضاء العام بين الدائنين والمدينين، وتطويرها وبرمجتها بوصفها القلب النابض لسياسات الهيمنة النيوليبرالية، مردفا: "إن القروض والديون تعمل كآلة للاستيلاء وافتراس واستنزاف للمجتمع في عمومه، وكأداة تعليمات وتقييم قانوني سُلطوي وجهاز إعادة للثروة والدخل من القوة المالية الدائنة دون رقابة ديمقراطية أو ضريبية"، إن سُلطة الدَّيْن لا تتمثّل بوصفها سُلطة عبر القمع المادي العنيف ولا عبر الأيديولوجيا، فجاسم الشاب الإماراتي كأي شاب آخر في أي مكان في العالم هو "حر"، لكن تصرفاته وسلوكاته يجب أن تسير في إطار مُحدد بالدَّيْن الذي تعاقد به. وهذا يصدق على الفرد وعلى أهالي بلد ما وعلى أي مجموعة اجتماعية، أنت حر بقدر ما تتبنى نمط الحياة المتناغم مع سداد الدين وشهادات حسن السير والسلوك الصادرة من البنك وليس مصلحة السجون!

      

undefined

   

وبالاستمرار مع تحليلات موريزيو فالنظر إلى الدَّين بوصفه النموذج الجديد للعلاقة الاجتماعية يعني من جهة إدامة إعادة تأسيس الاجتماع السياسي بعلاقات قوة وهيمنة خارج العقد الاجتماعي الذي يفترض تساوي المواطنين والمؤسسات أمام القانون والسلطة القضائية، حيث تظهر الديون والقروض كأدوات حوكمة سيادية في يدها سُلطة تدمير أو خلق للاقتصاد والمجتمع والأفراد، ومن جهة أخرى فهو يضرب في صلب مفهوم العمل والتعاقد الذي يقوم بشكل أساسي على علاقة تبادل بين صاحب العمل والأجير المتساويين أمام القانون، فالعامل أو الموظف أو المهندس يقوم هنا ببيع مجهوده الذهني والبدني للحصول على ثمن نقدي في المقابل يتم التفاوض والتعاقد عليه مع صاحب العمل، لكن في حالة قيام العلاقة على أساس الدائن والمَدين فإن ما يطلبه الدائن ويحصل عليه ليس الجهد الذهنى والبدني فقط، بل الفعل الأخلاقي لإثبات الثقة والجدارة والعمل على حفظ السُّمعة والوجود الأخلاقي والاجتماعي للمدين وحميمية القلب الإنساني ذاته، ما يجعل العلاقة بين القوة الدائنة والمدين ليست علاقة عمل طبيعية ولكن علاقة وجودية أشبه بعلاقة السيد والعبد وفي المجتمعات الإقطاعية في القرون الوسطى.

  

"مع هيمنة القرض، هناك عودة إلى وضعية فيودالية إقطاعية حقيقية، حيث يحتسب العمل كاستحقاقات مُسبقة للسيد، لعمل السُّخرة"

(جان بودريار)

  

يفرز الدَّيْن علاقات خاصة مخالفة لعلاقات وأخلاقيات العمل وفي الوقت نفسه مُكملة لها، فالثنائية القديمة "الجهد مقابل الجزاء" لمفهوم العمل تم تطويقها بمفهوم الذنب والتقصير والسُّمعة الأخلاقية والوعد بالوفاء بالدَّين، واستشعار الذنب والهشاشة الأصلية لأنك مَدِين ولست طرفا في عملية تفاوضية حول الراتب والأجر وشروط العمل، يرجع بنا موريزيو لنيتشه(11) مجددا في خاتمة تحليله للقرض كسلاح نيوليبرالي، فبدخول الوجود الأخلاقي والاجتماعي والشعور في الذنب كجزء من عملية التبادل تنجح سياسات الاقتراض والديون في هيكلة العلاقات الاجتماعية رأسا على عقب بالفعل، فالعقد الاجتماعي الذي يقوم على التساوي الأخلاقي والقانوني بين المواطنين والمؤسسات يتم تطويقة بتحويل المواطنين إلى مَدينين واقعين تحت رحمة المؤسسات الرأسمالية التمويلية والتي باسم الدَّيْن لها الحق في مراقبتهم وتقييمهم بل وإسقاط سُمعتهم ووجودهم الأخلاقي وسجنهم في نهاية المطاف، فتعميم الإحساس بالذنب والخطيئة والهشاشة النفسية والاجتماعية هو عنوان عصر الليبرالية الجديدة القادم، وهو أداة عصر الإخضاع والهيمنة المُقبلين.

المصدر : الجزيرة