شعار قسم ميدان

الزراعة من أجل السوبر ماركت.. كيف فقد الفلاح قدرته على توفير غذائه؟

اضغط للاستماع

أوز وبط ودجاجات محمرة وكثير من الفطائر المصنوعة من الزبدة، يجاورهم أطباق من الجبن الطيب والمش اللاذع والقشدة الغنية والحليب الرائع، هذه إحدى الصور التي تحضر في أذهاننا عند الحديث عن الطعام في الريف، فالريف هو الأرض العامرة، والمحاصيل المزدهرة، والخير الذي يتجدد باستمرار حين تناديك حبات الفاصوليا والبازلاء لقطفها، وتداعبك حبات الفول الأخضر في الأرض لتلتهمها، ونتخيل مذاق الخضراوات الطازجة التي تقطفها من الأرض، لتصل لفمك، مباشرة.

 

حسنا، يبدو أنه ورد على ذهنك اعتراض تجاه الصورة الرومانسية السابقة التي رسمناها للريف، حيث اختزلنا تعقيداته وأغفلنا كثيرا من تفاصيل الريف الشائكة، فما وراء هذه الصورة يحمل كثيرا من الوقائع حول تغير نظم الزراعة في الريف، والسيادة الفعلية للفلاح على أرضه، بدءا من عملية بذر البذور ووضع السماد ورش المبيدات ووصولا لمرحلة الحصاد وبيع المحاصيل. تعقيدات سنسعى عبر هذا التقرير لرصد ملامحها وديناميات التغيير التي طالت الزراعة والطعام بريف الدول النامية.

 

في البدء، لا شك أن العلاقة بين الطعام والزراعة فقدت الكثير من بديهياتها وبساطة آلياتها وأدواتها لصالح العمليات التي تجري على الطعام كمنتج، فكم من العمليات التي تجري لينتقل الطعام من يد المنتج إلى فم المستهلك. لذا، فإن العلاقة بين الطعام والزراعة تفسر الكثير من الظواهر التي نعيشها في عالمنا اليوم: كمأساة وضع الفلاحين، وسوء التغذية، والتهديد بالمجاعات، والسياسات الغذائية بين الدول، والميكنة الزراعية، فثمة مساحة وحقل يُعرف بـ "السيادة الغذائية".

 

وهو المفهوم الذي ظهر في منتصف التسعينيات على أيدي منظمة "فيا كامباسينا" منظمة الفلاحة العالمية التي ظهرت في أميركا اللاتينية كرد فعل على احتكار الشركات الكبرى لنظم إنتاج الغذاء، وتأثير ذلك السلبي على المزارعين والمجتمعات وتنظيم الزراعة، حيث أصبح المزارعون تحت وطأة رأسمالية الشركات الكبرى.

 

فمصطلح "السيادة الغذائية" جاء "ضد الشركات"، ويحكمه تصورات أكثر راديكالية من مجرد فكرة الاعتماد على أنفسنا لتوفير طعامنا مما تزرعه أيدينا، حيث يعتمد المفهوم في جوهره على تقليل الهوة بين المنتج والمستهلك، وتقريب المسافة بينهما، مستهدفة إعادة منظومة إنتاج الغذاء لأيدي المنتجين، وطرح السيادة الغذائية نفسها في إطار بيئي أوسع ضمن فكرة "الأجرو-إيكولوجي" أي الزراعة البيئية المطروحة كبديل للسياسة الاستثمارية في الزراعة.

قديما، اعتاد الفلاحون إنتاج البذور ذاتها التي يزرعونها من محاصيل الأرض في بيوتهم، دون الاعتماد على الشركات العالمية المنتجة للبذور

ليأتي هذا التوجه كصرخة في وجه رأسمالية الشركات المتوحشة، وهي النماذج التي سيلي عرضها وتسليط الضوء عليها حول توغل الشركات الكبرى في عمليات الزراعة بجميع مراحلها، من البذور والسماد والأعلاف، وإعادة تنظيم وجبات الطعام في المجتمعات، والتحكم في خيارات الطعام المتاحة للمستهلكين سواء بفرض سياساتها أو من خلال الدعاية والتسويق لمنتجاتها، والبداية هنا ستنطلق من البذور في الريف المصري.

 

قديما، اعتاد الفلاحون إنتاج البذور ذاتها التي يزرعونها من محاصيل الأرض في بيوتهم، دون الاعتماد على الشركات العالمية المنتجة للبذور، وهي التي تم استبدالها تدريجيا، وبقسوة، لصالح البذور التي تبيعها الشركات.

 

بدأت القصة حينما توغلت الشركات الكبرى في القطاع الزراعي بمصر، تزامنا مع سياسة التحرر الاقتصادي وتطبيق سياسات النيوليبرالية، سياسات بدأت آثارها تطال القطاع الزراعي قبل القطاعات الأخرى، متذرعة في العلن بوعود توفير مزيد من "الأمن الغذائي"، وهو ما سينعكس وفق تلك الوعود باتجاه توفير مزيد من العملة الأجنبية عبر تصدير مزيد من المحاصيل الزراعية، مما يعني مزيدا من الاستثمار الزراعي لشراء محاصيل أخرى.

وبالفعل، تحركت الدولة على عجل لدعم سياسات التصدير والاستثمار الزراعي، فهيّأت له الموارد اللازمة، وخصصت لصالحه الأراضي، واتجهت نحو استصلاح الأراضي على حساب الإنتاج العائلي الذي عُدَّ وقتها المصدر الرئيسي للغذاء، ليتم بالتزامن مع هذا التجريف؛ الترويج لأسطورة تخلف الإنتاج الزراعي العائلي واعتباره عقبة أمام الاستثمار.

 

لتتدخّل الشركات العالمية على إثر تلك السياسات في القطاع الزراعي المصري، متوغلة في مجالات عدة، وأبرزها توفير البذور الهجينة ذات الإنتاجية العالية، وهو الحال الذي أدّى إلى تزايد الإقبال عليها، وليتجه الفلاح وفق هذا الواقع الجديد للحصول على تلك البذور عبر الجمعية الزراعية التي تبنت التسويق لهذه البذور وتوفيرها كذلك.

 

إلا أن تلك المزايا التي تظهر على السطح تحمل في القلب منها عيوبا عدة، أبرزها ما تحمله من عقم، حيث لا يُعاد إنتاجها مرة أخرى، وهو ما يُجبر الفلاح على شرائها بشكل متكرر، ويتحول الإنتاج الزراعي بذلك باتجاه الاعتماد على السوق أكثر فأكثر، ويصبح الفلاح تابعا مخلصا تتحكم به الشركات على كل المستويات، في التسعيرة ونوع البذور وكمياتها ونوعية المحاصيل، وليفقد الفلاح تحت سطوة إجراءات الواقع أي مركزية له، وأي تحكم له على مستوى الفلاحة والإنتاج، ليصبح مجرد ترس في آلة ضخمة.

تبين من خلال دراسة باحثين أن إعادة إنتاج البذور البلدي ما زالت موجودة في الملكيات الصغيرة التي تقوم النساء عادة بزراعتها حول البيوت

لم يكن ما سبق أبرز المشكلات، حيث أثّرت سيطرة الشركات على سوق البذور على التنوع الحيوي، ويقصد بالتنوع الحيوي في المجال الزراعي توفر سلالات متنوعة من النباتات، على سبيل المثال 30 نوعا من القمح، أو 10 أنواع من الخيار، وإلخ.

 

ورغم هذا التوغل الرأسمالي، فإن ركنا مضيئا ظهر في أفق الحفاظ على التنوع الحيوي، وهذه المرة على أيدي النساء في حيزهم الخاص، حيث تبين من خلال دراسة الباحثين "ريم سعد" و"حبيب عابد" عن الريف المصري أن إعادة إنتاج البذور البلدي ما زالت موجودة في الملكيات الصغيرة التي تقوم النساء عادة بزراعتها حول البيوت. وعلى الرغم من أن الأراضي عادة ما تكون باسم الرجال، فإن المسؤولية الفعلية تقع على عاتق النسوة داخل هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، وذلك باعتبارها متصلة وبشكل مباشر باحتياجات البيت واستهلاكه، لتتولى المرأة زراعتها عادة بالبصل أو الجرجير والثوم، إلخ.

 

وبذلك، ما زال تخزين المحاصيل وحفظ البذور وتنقيتها مسؤولية النساء بشكل أساسي، كما يبرز هنا حرصهن على نقل هذه المعرفة بشكل متوارث. تستخدم المرأة في مساعيها أساليب محددة تجاه المحاصيل حتى لا يصيبها التسوس، فقدرة النساء في الحفاظ على البذور (التقاوي) هو ما يحافظ على التنوع الحيوي، إلا أن السؤال المطروح هنا يتمثّل في المدى الذي ستصمد فيه زراعة النساء أو الفلاحين للمساحات الصغيرة أمام الشركات الكبرى، الأمر أكثر تعقيدا من ذلك.

حيث إن تحكم الشركات العالمية في البذور لا يقتصر على الجغرافيا المصرية فحسب، لكنه يمتد لكثير من بلدان الدول النامية، ولا يترتب عليه مشكلة التنوع الحيوي فقط، بل يطول تغيرات جوهرية تمس الوجبات الغذائية الرئيسية في كثير من المجتمعات.

 

في كينيا، بُذل جهد كبير في زراعة القطن بهدف التصدير عبر استخدام بذور مهجنة أكثر إنتاجية، لكن هذه البذور لم تحتمل المنافسة، حيث زادت بالفعل إنتاجية القطن وارتفعت صادراته، لكنه إنتاج صاحبه ارتدادات داخلية، حيث لم يعد من الممكن زراعة المحاصيل الغذائية الأخرى في الحقل نفسه مع القطن كما جرت العادة هناك، ليصبح زراعة هذا النوع من القطن، أشبه بإعلان اغتيال لإمكانية زراعة أنواع أخرى من المحاصيل.

 

وفي الأقاليم الأشد جفافا، في "فولتا العليا" تحديدا، فإن موسم الزراعة يعد قصيرا، حيث تجبر الحكومة المزارعين على زراعة القطن بدلا من الذرة والشوفان، وهما المحصولين الغذائيين التقليديين، إلا أنه وكما ذكرنا سابقا، فإن زراعتهما لا تتناسب مع دورة زراعة القطن، وعليه، قام الفلاحون في المقابل بزراعة المنيهوت وهو نوع أقل في القيمة الغذائية، باعتباره يتناسب مع زراعة القطن، ليحتل المنيهوت القليل القيمة الغذائية مكان محاصيل أخرى أكثر وأغنى من حيث قيمتها الغذائية.

مزارع المنيهوت (رويترز)

في هذا السياق، تشير خبيرة الاقتصاد الريفي بالبنك الدولي "أوما ليل" إلى الإحلال الكبير ل"المحاصيل النقدية" كالقطن والشاي والتبغ على حساب المحاصيل الغذائية في كينيا وتنزانيا، فخلال عقد واحد تضاعفت المساحة المزروعة بالشاي لكل عائلة أكثر من مرتين ونصف في كينيا، وفي تنزاينا تضاعفت المساحة القطنية لكل عائلة خمسة أضعاف.

 

وفي محاولة لجعل البرازيل مصدرا رئيسيا لفول الصويا، حل إنتاج الصويا محل زراعة الفول الأسود، وهو الغذاء التقليدي للشعب، حتى خلت المستودعات التي تخدم فقراء ريو دي جانيرو من الفول الأسود، لذا وفي أكتوبر/تشرين الأول 1976 تظاهر الفقراء يأسا من الواقع الجديد الذي تفرضه السياسة الزراعية الجديدة التي يفرضها منطق السوق، لتقابلهم الشرطة آنذاك بالقمع.

 

ومع قلة محاصيل الفول الأسود التي يتم إنتاجها، استغلت الأسواق السوداء ندرتها طارحةً إياها بأسعار لا يستطيع الفقراء تحملها، والأسوأ من ذلك، أن البرازيل اضطرت لاستيراد الفول الأسود من تشيلي التي ترحب حكومتها بالتضحية بمصالح السكان المحليين الغذائية في مقابل مزيد من العملة الأجنبية، والأمثلة التي يمكن طرحها في صدد التحولات الزراعية لا تُحصى.[4]

undefined

لا تُعطى الأولوية لمحاصيل التصدير استنادا إلى احتياجات السكان الغذائية فقط، حيث تعمد الشركات العالمية في بعض الحالات إلى استبدال المحاصيل الغذائية التقليدية بمحاصيل علف الحيوانات، لأجل مزيد من الربح.

 

فقد وَعَت شركات الأعلاف المتعددة الجنسية مثل رالستون بورينا أن تنشيط إنتاج الدواجن هو أسرع وسيلة لخلق زبائن للأعلاف المركزة، فتجارة الدواجن تتطلب رأس مال أقل ومساحة أرض أصغر من عملية تربية الماشية، علاوة على أن أعلاف الدواجن بين أكثر البنود ربحية لشركات العلف.

 

لتقدّم شركة بورينا قروضا في البداية للزرّاع التجاريين لشراء الكتاكيت والعلف، وسرعان ما أصبح عدد الدواجن يفوق ما يمكن إطعامه بحبوب العلف، وهكذا، سارعت الشركة لتقديم قروض لزّراع تجاريين آخرين بهدف زراعة محاصيل العلف، وشجعت الحكومة والمقرضين على عمل الشيء نفسه، لتتناقص وفق هذه التغيرات قيمة الأرباح المتوقعة من المحاصيل الغذائية التقليدية مثل الذرة، ولتتجه نحو العلف.

وبشكل محدد، وبين عامي 1958 و1968، تناقصت المساحة المزروعة بالفول التقليدي إلى النصف، بينما قفزت زراعة فول الصويا، وكلها تزرع لعلف الماشية، إلى ستة أضعاف[6]، مما أدى إلى تزايد أوضاع الفقراء سوءا باستبدال الأراضي التي كانت تُزرع بالفول والقمح من أجل الاستهلاك الآدمي وتخصيصها لتوفير علف للحيوانات، خاصة مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية الرئيسية.

 

فرقعة الأرض التي تستخدم لزراعة الفول والذرة يمكنها تلبية الاحتياجات البروتينية لعدد من الناس يفوق بكثير عدد من تلبي احتياجاتهم لو استُخدمت لإنتاج محاصيل العلف الحيواني، فحسب التقديرات لزراعة العلف الحيواني بكولومبيا، فإن فدانا واحدا من الأرض التي تُزرع بمحاصيل العلف للدواجن، لا يقدم للناس سوى ثلث كمية البروتين التي يمكن أن توفرها ذات الأرض لو زُرعت بالذرة أو الفول؛ فالفدان لو زُرع بفول الصويا للاستهلاك الآدمي، سيوفر ستة عشر ضعفا مما ينتجه استخدام تلك الأرض لإنتاج علف الدجاج.[7]

 

لذلك، فإن التحول الذي طرأ بإعطاء الأولوية لمحاصيل التصدير أو محاصيل الأعلاف يعني أن بقاء العائلة في المناطق الريفية أصبح مرهونا بتوفر النقود، والتي تأتي مرة أو مرتين خلال العام حينما تحين فترة الحصاد، لذا، فتنوع المحاصيل هو الضمان الوحيد للأمن الغذائي للعائلة الريفية على مدار العام.

إن منظومة الغذاء والزراعة أكثر تعقيدا من إرادة الفلاح الحرة أو درجة وعيه بمثالب هذا النظام

وعلى الرغم، من أن صورة الفلاح قديما تمثلت بقدرته على توفير غذائه أينما حلّت قدماه داخل أراضيه الخصبة، إلا أن التحولات دفعت الفلاح ليصبح أشبه برهينة، لا يعرف من أين ستأتي وجبته القادمة[8]، ومع ذلك فإن السؤال الأكثر إلحاحا يتمثل في صعوبة تخيل فلاح عاجز عن توفير غذائه. فما الذي يجعل الفلاح مستسلما لهذه السياسات؟

 

إن منظومة الغذاء والزراعة أكثر تعقيدا من إرادة الفلاح الحرة أو درجة وعيه بمثالب هذا النظام، فثمة مصالح متشابكة بين أنظمة الدول والشركات الكبرى والسياسة العالمية، والأسلحة المستخدمة في ذلك كثيرة، يأتي على رأسها، التسويق والدعاية.

 

ففي أواخر الستينيات، رسمت شركات غذائية محددة، دائرة على خرائط العالم حول أقاليم أفريقية شبه مجدبة، ولم يكن دافعها بالطبع القلق حول مصير سكانها، بل بهدف البحث عن مواقع إنتاج قليلة التكلفة، للوفاء بالطلب الأوروبي المتزايد على محاصيل الشتاء الطازجة. لتنطلق وفق هذا التوجه، سيل من الإعلانات التي روجت للعالم باعتباره خريطة مفتوحة، فما يُزرع في السنغال الأفريقية قد يصل إلى أستراليا في غضون ساعات، وأن الغذاء سيصبح متوفرا في جميع بلدان العالم. لكن المفارقة الساخرة والمؤلمة في آن، أن الطائرات التي كانت تقلع من مطار داكار بالسنغال، والمُحمَّلة بأصناف شتى من الخيرات تجاه الدول الأوروبية، تزامنت مع تزايد الجفاف في السنغال بشكل سيئ.

undefined

الأراضي الأفريقية الشاسعة غير المستغلة هي التي تجذب الشركات الزراعية الباحثة عن مواقع إنتاج رخيصة، ولا يقتصر فعل الشركات الكبرى على استغلال المساحات الشاسعة من الأراضي في العالم لصالح منتجاتها، لكنها تتجه لإعادة رسم خريطة الغذاء، وتحديد الأولويات الغذائية لسكان هذه الدول، لا على أساس احتياجاتهم وإنما استنادا إلى قدرتها على الترويج، وتسويق تلك البضائع في الأسواق العالمية، ليصبح الفلاح هنا محكوما وفق مزيج مكثف من القيود التي تحكم مسار زراعته، بدءا من البذور، ووصولا للمحصول في صورته النهائية.

 

"إن ما تقدمه الشركات الكبرى للبلدان النامية ليس الغذاء الجيد لكن الدعاية الجيدة"

لا شك أن العلامات التجارية الغذائية هي الصورة الصارخة لهذا التوغل الرأسمالي الذي اجتث الفلاحة المحلية، وهي العلامات التي تحمل كل واحدة منها قصة فريدة في سياق تحويل أذواق الناس ورغباتهم في شراء المنتجات لأجل الفائدة الصحية، والتي تستند في القلب منها إلى القيمة السوقية بذاتها للعلامة التجارية التي تحملها تلك السلع، لكننا سنختار هنا بعض الأمثلة لتسليط الضوء على صورة من صور تلك الشركات، وتأثيراتها في التحكم بالمزاج الغذائي العام.

 

من هذه القصص الطريفة، ما رواه الرسام المصري الراحل هاني المصري عن الدب "كيمو كونو" الذي يعد إحدى العلامات التجارية للمثلجات (الآيس كريم)، ففي "جروبي" ذلك المطعم الشهير بوسط البلد بالقاهرة، اتخذ صاحبه السويسري من البقرة شعارا يشير إلى أن اللبن المستخدم في صنع الآيس كريم طبيعي، ليطمئن الآباء على صحة أطفالهم، ولكن الزمن تغير وأصبح الأطفال يشترون بأنفسهم.

وبعد مضي فترة طويلة، ظهر الدب الأزرق الشهير بـ "كيمو كونو" كعلامة تجارية ودعائية، صحبه الأطفال كهاني المصري لأنه يذكره بنفسه كطفل سمين، وأحب الأطفال لتعلقهم بإعلاناته الدعائية على الشاشات، ولكن "كيمو كونو" يعبر عن مرحلة تحول في التسويق للمنتجات، فلم يعد الهدف التأكيد على سلامة الآيس كريم وعناصره الطبيعية المفيدة، لكن لخلق صورة جذابة للجمهور وخاصة الأطفال.

 

فسلاح الدعاية قادر على إعادة تشكيل الميول الاستهلاكية للمواطنين، فلا تصبح خاضعة لعلاقة العرض والطلب، ولا يقتصر تحقيق أرباحها باعتبارها تلبي احتياجات المستهلك، وإنما هي علامة تجارية قائمة بذاتها، فلا يعرف المستهلك أين تم إنتاج هذه السلع، ولا يهتم بمعرفة مكوناتها، ولا مدى فائدتها، وإنما ينقاد باتجاه غريزة التسوق.

 

وفق هذا المنطق الجديد، لا تبذل الشركات العالمية وسعا في التفكير باحتياجات السوق المحلي في الدول النامية، لأنه أكثر تكلفة من الدعاية الإعلامية التي تساهم في خلق احتياج الناس في هذه المجتمعات لمنتجاتها، والأمثلة على ذلك عديدة غير "كيمو كونو"، فشركة "جينرال فودز" في البرازيل أخذت تتساءل كيف تجعل البرازيليين يأكلون الآيس كريم في الشتاء الممطر؟

 

لتقوم بقيادة حملة دعائية اسمها "زيارات الحظ" حيث يقوم مندوبو الشركة بالطرق على أبواب البيوت في أنحاء البرازيل، ومن تجد الشركة لديه علبة آيس كريم خاصة بالشركة يحصل على هدية، إلا أن المفارقة تتمثل في أن الملايين حُرموا من هذه الإثارة، لأنهم فقراء، ولا يملكون ثلاجة من الأساس.[9]

 

وفي الحين الذي لم توفق فيه هذه الحملة الدعائية، فثمة حملات أخرى لا حصر لها ترتب عليها تغيير كامل في النظام الغذائي، مثل المشروبات الغازية التي أصبحت جزءا من الحياة اليومية للبشر في الريف والمدن على السواء، والبطاطس التي تحولت من غذاء أساسي رخيص إلى غذاء باهظ عالي الربح[10]، واستبدلت وجبة الحساء التقليدية في الهند بوصفة صناعية تُباع بكمية صغيرة وبسعر رخيص، وهي عبارة عن بعض الأعشاب التي يضاف إليها الشطة، لتنتشر بين الفقراء، وكذلك استبدل البعض فاكهة الأناناس، بالأناناس المعلب. وبذلك، نجحت الدعاية الإعلانية إلى توصيل رسائل مفادها أن الغذاء المعلب أفضل، وأن وجباتهم التقليدية من الفول والذرة لا قيمة لها مقارنة بما يأكله الغربيون.

 

لا يمثل ما سبق سوى عرض بسيط، وبسيط جدا، تجاه التحولات الجذرية التي طالت عاداتنا الغذائية، والتي استهدفت بالأساس عملية الزراعة ذاتها، وليترتب عليها تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية عدة، حولتنا لمجرد مستهلكين منقادين لشركات رأسمالية كبرى وسياسات اقتصادية ليست معنية بالإنسان، وإنما بما يمكن أن تتحصل عليه تلك الشركات عبر هذا الإنسان من مال، أيَّا كان ما سيترتب على هذه السياسات من آثار صحية، واقتصادية تطال شريحة واسعة من المزارعين.

المصدر : الجزيرة