شعار قسم ميدان

علميا ووراثيا.. العِرق مفهوم وهمي والبشر يتشابهون أكثر مما يختلفون

ميدان - الأعراق المختلفة عرق أجناس بشر

كان من المفترض أن تعني نهاية الحرب العالمية الثانية موت التفكير العرقي والعنصري في المضمار العلمي، إذ إنه حتى الثلاثينيات من القرن الماضي، كان من المقبول نسبيا أن يؤمن علماء الأحياء والأنثروبولوجيا بوجود اختلافات فطرية بين الأعراق، وافترض الكثيرون أن بعض المجموعات العرقية كانت تتفوّق على غيرها وراثيا. لكن بعد الحرب العالمية والمحرقة النازية، قام العالم أخيرا بنبذ هذا المجال الخطير من الأبحاث.

  

بعد الحرب، بدأ الناس يفكّرون في مسألة العرق بشكل مختلف. أظهر علماء الأنثروبولوجيا أن معظم ما نعتقد أنها فروقات عرقية هي في الواقع اختلافات ثقافية ولغوية ليس إلّا. وأظهر علماء الوراثة، بدءا من ريتشارد ليونتين في السبعينيات، أن أكثر من ٩٠% من التباينات الوراثية التي نراها بين البشر تقع ضمن "الفئات العرقية" المفترضة نفسها وليس بينها. أي إن الانتماء إلى العرق نفسه لا يعني بالضرورة التشابه الوراثي، مقارنة بما يحدث بين أفراد الأعراق المختلفة. لهذا السبب، يُعتبر العرق اليوم مفهوما اجتماعيا، تقتصر دراسته على العلوم الاجتماعية التي تسعى فقط لفهم آثار التمييز العرقي قديما وحديثا. أما العدد القليل جدا من العلماء الذين لا يزالون يصرّون علنا ​​على وجود أعراق بيولوجية فهم لا يُؤخذون على محمل الجد في المجتمع العلمي.

  

ميدان - لا يزال هناك اعتقاد لدى بعض العلماء بأن مفهوم العرق قد يكون له وجود وتأثير ملموس، وأن علم الوراثة يمكن أن يكشف يوما ما عن حقائق غير مستساغة في هذا الإطار
ميدان – لا يزال هناك اعتقاد لدى بعض العلماء بأن مفهوم العرق قد يكون له وجود وتأثير ملموس، وأن علم الوراثة يمكن أن يكشف يوما ما عن حقائق غير مستساغة في هذا الإطار
  

أحد هؤلاء العلماء كان وليام شوكلي، الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، الذي أراد تعقيم النساء السود في الولايات المتحدة "طواعية". وهناك أيضا آرثر جنسن، العالم النفسي من جامعة كاليفورنيا بيركلي، الذي ادعى أن الأشخاص السود هم بالفطرة أقلّ ذكاء من البيض. قد يعتقد القارئ أن جنسن وشوكلي هما استثناء للقاعدة وأن العلم قد تم تطهيره من العنصرية. ولكن هذا الاعتقاد خاطئ كما سنرى.

  

في الحقيقة، لا يزال هناك اعتقاد لدى بعض العلماء بأن مفهوم العرق قد يكون له وجود وتأثير ملموس، وأن علم الوراثة يمكن أن يكشف يوما ما عن حقائق غير مستساغة في هذا الإطار. في العام الماضي، كتب عالم الوراثة السكانية في جامعة هارفارد ديفيد رايخ في صحيفة نيويورك تايمز قائلا: "ببساطة لم يعد من الممكن تجاهل الفروق الجينية المتوسطة بين "الأعراق"". وأخبرني رايخ في مقابلة أُجريت معه بعد شهر واحد من نشر تلك المقالة أنه لا يعتقد أن هذه الاختلافات كبيرة، وقال إن علم الوراثة سيستمر في تحطيم الصور النمطية العنصرية، لكن رغم ذلك، أضاف: "هناك اختلافات بين الناس. لا نعرف ما هذه الاختلافات لكن علينا قبول عدم اليقين حولها". ويعكس مفهوم "عدم اليقين" هذا حقيقة أنه حتى الباحثون ذوو النيّات الحسنة والمحايدون سياسيا مثل رايخ لا يستطيعون تفادي اللجوء إلى "العرق" كتفسير محتمل للاختلاف البشري.

  

قد يكون مجال علم الوراثة السكانية برمته أفضل مثال على ذلك. فأحد أبرز الأسماء الرائدة سابقا في هذا المجال كان العالم المتوفي لويجي لوكا كافالي سفورزا، الذي كان يزعم أنه معادٍ للعنصرية. في عام ١٩٧٣، تناظر سفورزا علنا ​​مع شوكلي في جامعة ستانفورد، حيث كان أيضا بروفيسورا هناك. لكن حتى سفورزا، الذي كان يركز عمله على فهم التباين الوراثي بين البشر، تشبث بالاعتقاد بأن العرق انطوى على أهمية ما في علم الوراثة.

    

 لويجي لوكا كافالي سفورزا (مواقع التواصل)
 لويجي لوكا كافالي سفورزا (مواقع التواصل)

    

في كتابه "الجينات والشعوب واللغات"، الذي نُشر في عام ٢٠٠٠، كتب كافالي سفورزا: "العرق هو مجموعة من الأفراد يمكن أن نتعرف عليهم على أنهم مختلفون بيولوجيا عن الآخرين". لكن تعريفه للعرق كان ذا طبيعة إحصائية، بناء على تصور بأن ثمة مجموعات من الأشخاص الذين يتقاسمون "مزايا جينية" معينة. أي إنه على الرغم من أن الفئات العرقية الكبرى قد لا يكون لها معنى يُذكر، كما قال كافالي سفورزا، فإنه يمكن اعتبار بعض السكان -خاصة المجموعات العرقية المتماسكة- أعراقا، حتى لو كانت هذه المجموعات تعرّف إحصائيا فقط. يعني ذلك أنه لا توجد "أنواع" عنصرية متميزة ذات حدود صلبة، بل توجد أوجه تشابه إحصائية بين المجموعات التي يُمكننا تعريفها كما نشاء، بحسب سفورزا.

  

لكن الفيلسوفة ليزا جانيت من جامعة سانت ماري في هاليفاكس تحذّر من التداعيات الأخلاقية للتفكير في العرق بهذه الطريقة التجميعية. المشكلة في هذا النمط من التفكير هو أنه يميل إلى التجميع دوما، وفرز الناس حتى عندما يعني ذلك الحاجة إلى إبراز وتضخيم حتى أصغر الاختلافات في الجينوم لديهم. لكن حتى هذه الاختلافات الصغيرة هي اختلافات متوسّطة غير مطلقة​​، ولا تنطبق على كل شخص في هذه المجموعة. تطلق جانيت على هذا النمط من التجميع مصطلح "العنصرية الإحصائية"، وتقول إنه في حين أن العلماء قد يشعرون اليوم أنهم تركوا الهوس بالعرق وراءهم، ولكن في الواقع فإن لغتهم ومعاييرهم هي فقط التي تغيرت. قد لا يطلقون على هذا المعايير اسم "الأعراق" اليوم، ولكنّ الباحثين لا يزالون يستخدمون مصطلحات مثل "الفئة السكانية" عند التكلّم عن الأوروبيين والأفارقة.

  

فخ مفهوم "المجموعة السكانية"

بلغت هذه الطريقة "التجميعية" في التفكير حول مسألة العرق ذروتها في أوائل التسعينيات مع ظهور مشروع تنوع الجينوم البشري (Human Genome Diversity Project)، بقيادة كافالي سفورزا نفسه. أراد هو وزملاؤه الذين كانوا يعملون في الولايات المتحدة أخذ عينات من الحمض النووي ممن اعتبروهم "مجموعات أصلية متميزة ومعزولة" في جميع أنحاء العالم -بما في ذلك الباسك في أوروبا، والأكراد في شرق تركيا، والسكّان الأميركيون الأصليون- واستخدامها لبناء صورة عن الماضي وكذلك عن التغيير التطوري البشري. وكما أعلنوا في مجلّة "جينوميكس" في عام ١٩٩١، "فإن (هذا المنظور) سيكمل ويعزز علوم الآثار واللغويات والتاريخ".

    

  

هل يمكن أن يُسمى هذا العِلم "عِلم الأعراق"؟ لم يرَ القيّمون على مشروع تنوع الجينوم عملهم على أنه "عِلم عرقي"، ولكنه من الصعب ألا نرى أن المشروع كان بالفعل يشتمل على بعض السمات المميزة لما كان يوما يُدعى عِلم الأعراق (العلم العنصري). أحد العلماء في المشروع، على سبيل المثال، "تحدث عن الحاجة إلى أخذ عينات من "مجموعات معزولة ذات أهمية تاريخية"، وهو مصطلح مهين "للسكان الأصليين"، كما يقول هنري جريلي من كلية الحقوق بجامعة ستانفورد، والذي كان قد تمت استشارته حول القضايا الأخلاقية التي قد يثيرها المشروع. يضيف: "كان ردّي هو أن ذلك المصطلح لن يتم قبوله لأنه طريقة إكلينيكية وباردة للغاية للنظر إلى أشخاص هم على قيد الحياة، وإلى ثقافات لا تزال حيّة. إن مفهوم الأهمية التاريخية يشير إلى شيء قد تجده في المتحف. كانت تلك اللغة فاقدة للحساسية".

  

على الرغم من أن العلماء في هذا المشروع كانوا معادين للعنصرية سياسيا، ما حدث هو أنهم وقعوا في فخ معاملة بعض السكان على أنهم متميزون ومختلفون بيولوجيا، إذ قاموا بحشر الناس في فئات لم تكن بالضرورة ذات معنى بيولوجي تطوري، مثلما فعل علماء العرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عندما اجترحوا فئات عنصرية لا نزال نستخدمها اليوم. فلقد تم تعريف تلك المجموعات السكانية في بعض الأحيان اعتمادا فقط على المعايير الثقافية أو اللغوية.

  

تقول عالمة الاجتماع كاثرين بليس من جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو: "إن فكرة أن [الأشخاص في هذه المجموعات] متشابهون حقا وراثيا بطريقة ما هي افتراض كبير". إن مجرد كون المجتمعات تبدو ظاهريا أنها متماسكة وقديمة لا يعني أنه لم يحدث هناك خلط بينها وبين الآخرين. يوجد هناك دائما خلط بين جميع البشر، وهذا هو السبب في كوننا متشابهين للغاية اليوم.

    

  

حتى في بداية مشروع تنوع الجينوم البشري، كانت قد أُثيرت العديد من المخاوف وتم طرح بديل أكثر استساغة عنه قبيل إطلاقه، حيث إنه بدلا من أخذ عينات من الحمض النووي من المجموعات السكانية التي يُعتقد أنها "معزولة"، تم اقتراح أن يقوم العلماء بدراسة الأفراد في مناطق جغرافية يتم اختيارها لتكون متباعدة بمسافات معيّنة حول العالم.

  

التحامل الثقافي

أيّد هذا الطرح المتمثّل في "أخذ العينات من شبكة مواقع جغرافية متباعدة" ألان ويلسون، عالم الكيمياء الحيوية في جامعة كاليفورنيا بيركلي، المعروف بإطلاق فرضية "حواء الميتوكوندرية" التي تقول إن الأم المشتركة الأخيرة للبشرية عاشت في أفريقيا منذ نحو ٢٠٠ ألف سنة. اعتقد ويلسون أن أخذ العينات بهذا الشكل من شأنه أن يوثق التباين البشري كما هو في الحقيقة بدلا من فرض افتراضات غير صحيحة على المجموعات السكانية الحالية.

  

تقول العالمة الاجتماعية بليس: "إذا ما قمنا بالحصول على عينات من شبكات جغرافية متباعدة، فلن نحصل على تشابهات أنيقة ومرتبة". ذلك أنه لا توجد في الواقع مثل هذه التشابهات، إذ إن التباين البشري لا يمكن وضعه في خانات ذات حدود دقيقة، وهو أكثر فوضوية مما يتيحه أي نموذج عرقي جامد، حيث تمتزج كل مجموعة سكانية بالمجموعة المجاورة. في حين أن بعض المجموعات السكانية قد يكون لها سمات جينية مختلفة قليلا عن غيرها، فإنه لا يوجد جين محدّد يظهر في جميع أعضاء "عرق" معيّن وليس في "عرق" آخر. تقول بليس: "لقد قرّبنا نهج ويلسون أكثر إلى التشابه الفعلي وكان يمكن أن يكون أكثر دقة" من منهجية المشروع المذكور أعلاه.

    

العوامل الوراثية المرتبطة بالبشرة الفاتحة شائعة ليس فقط في أوروبا وأجزاء من شرق آسيا، ولكن أيضا لدى قبائل البوشمن في جنوب أفريقيا
العوامل الوراثية المرتبطة بالبشرة الفاتحة شائعة ليس فقط في أوروبا وأجزاء من شرق آسيا، ولكن أيضا لدى قبائل البوشمن في جنوب أفريقيا
   

لكن ويلسون توفي في سن الـ ٥٦، قبل أن تبدأ اجتماعات التخطيط الأولى لمشروع تنوع الجينوم البشري. برحيله، تم التخلي عن مقترحه حول أخذ العيّنات جغرافيا. غاص المشروع بعدها في عدّة قضايا أخلاقية ولاقى موجة من الاحتجاجات من قِبل المجموعات السكانية الأصلية، ففشل في تأمين التمويل الذي كان يحتاج إليه للإقلاع.

  

بالنسبة للعالم الوراثي مارك جوبلينج من جامعة ليستر بالمملكة المتحدة، فإن الطريقة التي تمت بها هيكلة المشروع، أي بشكل يستهدف عمدا فئات معينة بدلا من النظر إلى الحمض النووي للأشخاص أينما كانوا في العالم، هي ما قصم ظهره في النهاية. يقول: "كيف تعرّف ماهية المجموعة السكانية في المقام الأول؟ هذه مفاهيم تتضمن تحاملات ثقافية… لذلك كان هناك الكثير من التمييز الثقافي في الأهداف الأصلية" المعلنة للمشروع.

  

يقول جوبلينج إنه من الممكن تماما دراسة التباين البشري العالمي دون القيام بتجميع الأشخاص في مجموعات. هناك الكثير من العوامل المشتركة في الجينومات لدينا، فيما أن التباينات دقيقة للغاية، بحيث يمكن تصنيف البشر نظريا بأي طريقة نفضّلها. مثلا، فإن العوامل الوراثية المرتبطة بالبشرة الفاتحة شائعة ليس فقط في أوروبا وأجزاء من شرق آسيا، ولكن أيضا لدى قبائل البوشمن في جنوب أفريقيا. يمكنك القيام بناء على ذلك بتصنيف الجميع على كوكب الأرض بناء على ثلاث جنسيات: كيني أو سويدي أو ياباني، كما يقول جوبلينج! من الناحية النظرية، يمكن وضع الجميع في إحدى هذه المجموعات لأننا جميعا مرتبطون جينيا بالشخص الكيني أو السويدي أو الياباني العادي، سواء بشكل مباشر أو عن طريق الهجرة التاريخية. يقول جوبلينج: "يمكنك أن تقول إنك كيني بنسبة كذا وكذا في المئة، وسويدي كذا وكذا بالمئة، وياباني كذا وكذا بالمئة".

    

البشرة الغامقة (الجزيرة)
البشرة الغامقة (الجزيرة)

  

قد يبدو هذا غريبا، وبالطبع فهو لا يقترح أن نفعل ذلك، لكن هذه الفكرة ليست أكثر غرابة من تقسيم العالم إلى أشخاص سود وبيض وبنيّي اللون وصفر وحمر اللون، كما فعل علماء العرق. وهي ليست أقل اعتباطية من الفئات العرقية التي نستخدمها اليوم. وقد لاحظ الباحثون الطبيون منذ زمن ضعف الفئات العرقية كمعيار للاختلافات البشرية. حتى الجين الذي يسبب مرض فقر الدم المنجلي، والذي يعتقد الناس في كثير من الأحيان أنه مرتبط بشكل أساسي بوجود جذور أفريقية لدى المريض، فإنه موجود بالفعل في جميع المجموعات العرقية كما يبيّن المعهد الوطني للصحة والرعاية المتميّزة في المملكة المتحدة.

  

هذا لا يعني أن الذين يقفون وراء المشروع كانوا عنصريين. كتب كافالي سفورزا في رسالة بريد إلكتروني إليّ قبل ستة أشهر من وفاته، في أغسطس/آب ٢٠١٨: "تولد العنصرية من الجهل والخوف من الغريب والرغبة في السيطرة، يجب محاربتها أولا بإظهار فراغ مضمونها وجذورها الحقيقية". كان الرجل إذن قوة تقاتل من أجل الخير، وعالِما حارب علنا ضد العنصرية والفاشية بكل معنى الكلمة، وهو الذي عاش في إيطاليا الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية. مع ذلك، فإنه في الرسالة نفسها، استعمل مصطلح "الهجينون" للإشارة إلى "أطفال الأزواج المتحدّرين من مجموعات متباعدة وراثيا" -أي الأطفال "مختلطي العرق أو الأطفال ذوي النسب المختلط"- وهو مصطلح قد يرى كثيرون أنه غير مستساغ معنويا وعلميا.

  

يقول جوبلينج: "كان كافالي سفورزا عالم أنثروبولوجيا من المدرسة القديمة… كان يعرض صورا قديمة له وهو يقوم بجمع الحمض النووي وعينات الدم في أفريقيا من مجموعات الأقزام ثم يقدّم لهم الخرز الزجاجي والسجائر في مقابل العيّنات".

    

علم الوراثة السكانية هو علم يمارسه البشر، ولذا فهو مليء بالافتراضات والأفكار (الخاطئة) السائدة أيضا
علم الوراثة السكانية هو علم يمارسه البشر، ولذا فهو مليء بالافتراضات والأفكار (الخاطئة) السائدة أيضا
    
قياس التنوع البشري

لم يكن كافالي سفورزا عنصريا. في الوقت نفسه، من المستحيل أن نتوقع من أي شخص، وخاصة من عالِم أحياء مولود في عام ١٩٢٢، أن يتخلى تماما عن الأفكار التي كانت سائدة حول العرق في أوائل القرن العشرين، خاصة إذا ما تذكّرنا أن المجتمع لا يزال يقبل هذه الأفكار بشكل عام اليوم، وحيث التمييز العنصري لا يزال واسع الانتشار في التعليم والتوظيف، على سبيل المثال.

  

هذا هو لب المشكلة. من الصعب أن نقتنع بأن مجتمع العلماء كان قد تخلى تماما عن مفاهيم علم الأعراق بعد الحرب العالمية الثانية، ليس لأنهم كانوا عنصريين، بل لأنهم كانوا بشرا. كانوا يعيشون في عالم لا يزال مليئا بالعنصرية والفصل العنصري. ولم تكن الأفكار القديمة حول العرق التي كانت جزءا ثابتا من العلوم اليومية في عصرهم لتختفي بهذه البساطة.

   undefined

  

تقول المؤرخة جوانا رادين من جامعة ييل: "…كان هناك مجتمع كبير من العلماء ذوي النيات الحسنة، والذين يصفون أنفسهم بأنهم مناهضون للعنصرية، يسعى إلى إيجاد طريقة لتجاوز العرق والتركيز على علم الوراثة السكانية، والذي كان يبدو بأنه علم محايد بشكل كبير. إذ إنه يرتكز على الأرقام والإحصاءات وهو موضوعي". ثم تضيف: "لكن علم الوراثة السكانية هو علم يمارسه البشر، ولذا فهو مليء بالافتراضات والأفكار (الخاطئة) السائدة أيضا".

  

العرق ولزوم ما لا يلزم

وفقا للعالم الوراثي مارك توماس من جامعة كوليدج لندن، والذي تعاون مع العالم المثير للجدل رايخ، يُشكّل مفهوم العرق طريقة عديمة الفائدة للتفكير حول مسألة التباين البشري. يقول: "لا توجد هناك ضرورة لوضع الفئات في علم الأحياء، وليست هناك حاجة أو قيمة في وضع الناس في خانات بيولوجية… لكن للأسف، هذا لا يمنع الناس من التمييز العنصري، وربما يعكس هذا رغبتنا في تصنيف الناس".

  

أدّى الاكتشاف مؤخرا بأن أنواع البشر المنقرضة اليوم، مثل إنسان النياندرتال وإنسان الدينيسوفان كانوا قد تزاوجوا مع إنسان الهومو سابينس (الإنسان العاقل الذي يعيش على الأرض اليوم)، أدّى إلى إثارة الجدل مجددا حول مفهوم العرق، ودفع البعض إلى التساؤل عما إذا كان وجود الحمض النووي النياندرتالي بنسبة كبيرة لدى الأوروبيين، على سبيل المثال، يعطي معنى لتصنيفاتنا العرقية. ولكن كما يلاحظ عالم الأنثروبولوجيا جون شيا في جامعة ستوني بروك في نيويورك، "فإن التزاوج بين الأنواع هو شيء رمزي بالنسبة لنا أكثر مما هو شيء ذو تداعيات بيولوجية تطورية".

    

الإنسان الحديث والإنسان البدائي (مواقع التواصل)
الإنسان الحديث والإنسان البدائي (مواقع التواصل)

   

حتى في يومنا هذا، يجد العلماء صعوبة في قبول أنهم قد يكونون لا يزالون يعملون في إطار مفاهيم بالية. لا يزال هناك ميل للتعامل مع المجموعات السكانية على أنها متمايزة وراثيا. يحتفظ مركز دراسة تعدد الأشكال البشرية (Center for the Study of Human Polymorphisms) في باريس ببنك من عينات الحمض النووي للسكان من جميع أنحاء العالم. وفي عام ٢٠١٥، أطلقت جامعة أكسفورد مشروعا لوضع خريطة وراثية للمقيمين في المملكة المتحدة تحت اسم "شعوب الجزر البريطانية". فيما لا يرى أيٌّ من أعضاء هذه المشاريع أنفسهم على أنهم علماء عرقيون، يمكن القول إنهم يتبعون أساليب مماثلة لعلم الأعراق البالي.

  

كما أن علم الوراثة السكانية قد بدأ يغذي الاتجاه السائد للاختبارات التجارية المتعلّقة بالنَسَب "العرقي". في عام ٢٠١٨، أعلنت شركة "AncestryDNA" أنها قد باعت نحو ١٠ ملايين رزمة اختبار من هذا النوع. تقول عالمة الاجتماع بليس: "تضمّن مشروع تنوع الجينوم البشري خلق فئات العرقية، كما أن جميع شركات اختبار النسب لديها مثل هذه الفئات العرقية… فهي تجمع عيّنات الحمض النووي ولديها مجموعات سكانية مرجعية… أما الطريقة التي تقوم بها بتقديم نتائج فحص النسب ووضعها في خرائط فهي تعكس منظورا عرقيا-إثنيا خالصا".

  

المشكلة هي أن هذه الاختبارات قد تعزّز الاعتقاد لدى جمهور الناس بأن العرق له معنى بيولوجي أعمق. في عام ٢٠١٧، أفادت التقارير أن العنصريين البيض في الولايات المتحدة بدأوا يستخدمون هذه الاختبارات لإثبات هويتهم "البيضاء"، واستعمال النتائج كدليل على أصولهم الأوروبية المشتركة. لكن هذه الاختبارات تعتمد على الإيمان بأنه توجد هناك مجتمعات قديمة متميزة ينحدر منها كل واحد منا، كما تقول بليس، وهذا معتقد خاطئ.

  

ربما يكون الحل هو أن يتوقف الباحثون الوراثيون عن التفكير في الأشخاص على أنهم جزء من مجموعات معيّنة. تقول بليس: "أحد أكثر الافتراضات ضررا التي ما زلنا نتمسك بها عندما يتعلق الأمر بعلم الوراثة وعلم الجينوم البشري هو أن الأعراق المحددة لها جينات محددة أو مواد وراثية محددة فريدة من نوعها وخاصة بها". هذا الافتراض هو افتراض خاطئ. تضيف: "لن نتجاوز أبدا هذه المغالطات إذا ما واصلنا أخذ العينات حسب الفئات العرقية أو الفئات الإثنية اللغوية، وكتابة البيانات من خلال البرامج الحاسوبية، ثم وضع الفئات عليها مرة أخرى بعد ذلك". ففي نهاية المطاف، فإن العرق ليس شيئا حقيقيا.

—————————————————————–

 ترجمة: كريم طرابلسي

هذا المقال مأخوذ عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة