شعار قسم ميدان

تغريدات "باسيل" العنصرية.. هل انتقلت عدوى "مارين لوبان" إلى لبنان؟

ميدان - جبران باسيل

هو لبنان ذاته الذي لُقِّب يوما بـ"سويسرا الشرق" و"واحة الديمقراطية" و"عاصمة الثقافة" و"قبلة المضطهدين"، وهي الجغرافيا ذاتها صغيرة المساحة، واسعة التأثير، التي كانت ملاذا لأصحاب الهموم والقضايا النضالية، وأهل الفن والفكر والسياسة، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وانتماءاتهم، والتي كتب فيها الأدباء ما لم يكتبوا في غيرها، وعلى رأسهم الفلسطينيون والسوريون والمصريون، فغنّى لها الفنان "الشيخ إمام"، وتغزّل بها شاعر الحب نزار قباني، وكتب لها الشاعر المناضل محمود درويش، وشعراء آخرون.
     
إلا أن هذه الجغرافيا شهدت تحوّلات قلبتها رأسا على عقب، وتحوّلت الخطابات العنصرية فيها إلى "وجهة نظر"، حتى انقلبت بيروت على من أحبها يوما، ليتبقَّى منها -كما يرى متابعون- عنصرية تفوح من بعض ساستها، ومن تيار اليمين المُتطرّف الذي بدأت رقعته بالاتساع.

   

في هذا السياق، لم تكن تغريدات وتصريحات وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، والتي وُصفت "بالشعبوية والعنصرية"[1]، سوى تعبير عن هذا التحوّل الذي أصاب لبنان، وهي التصريحات التي أثارت ضجّة واسعة، وأعادت قضية العنصرية والطائفية في لبنان إلى الواجهة من جديد، وإن لم تفارقها طويلا، لا سيما أن خطابه المتكرر حول التفوّق الجيني اللبناني ومعاداة اللاجئين احتوى هذه المرة على جرعة مكثّفة من العنصرية والطائفية، شبّهها عالم الاجتماع السياسي الدكتور سعود المولى[2] والإعلامية اللبنانية ديما صادق[3] بتلك التي صاحبت صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا خلال القرن الماضي. وذلك لما تحمله مضامين تلك الخطابات من تعصّب وطني وطائفي، وعنف سياسي رمزي ومادي يتمثّل حسب بيان "عن العنصرية في بلدنا" الصادر عن مجموعة من المثقفين والفنانين اللبنانيين بالتعسّف والإذلال المتعمّد، والتسبب بالترويع والاعتداءات المباشرة على الأفراد السوريين[4]، فالحملة التي يقودها باسيل من موقعه وزيرا للخارجية ورئيسا لحزب التيّار الوطني الحرّ ذهبت بالفعل إلى ما هو أبعد من التغريدات والتصريحات، وتحوّلت، حسب البيان، إلى ممارسات وإجراءات فعلية طالت اللاجئين، وهذه المرّة تحت غطاء سياسي وأمني.

   

لم تقتصر التغريدات والتصريحات المتتابعة للوزير على الإساءة والإضرار "باللاجئين" السوريين والفلسطينيين في لبنان فقط، بل وصلت حدّ الإساءة المعنوية لفئة لا يُستهان بها من اللبنانيين أنفسهم داخل لبنان، والإضرار المادي والمعنوي بالمقيمين منهم خارجه، وخصوصا في دول الخليج العربي، والذين عبّر كثير منهم عن رفضه بشكل قاطع الخطاب العنصري والطائفي من خلال التغريدات والهاشتاغات على منصّات التواصل الاجتماعي باعتبار أن الانطباع الذي يُصدّره أي تصريح عنصري من جهة رسمية مُمثّلا لتوجه الدولة، ولعموم اللبنانيين، بينما يتركّب المشهد اللبناني من فسيفساء أكثر تعقيدا وتركيبا من تصريحات إعلامية عابرة.

   

   

لبنان.. ما بين جبرانين

"فخر لأمة كان .. جبرانها خليل *** فأصبح .. جبرانها باسيل"[5]

(لافتة تم تعليقها في عدة-مناطق-لبنانية)

   

لكل حقبة رجالها ونجومها، ويبدو أن الحقبة الحالية في لبنان بزغ فيها نجم باسيل بصورة تفوق أقرانه السياسيين، وهو الرجل الذي يفخر به أنصار "التيار الوطني الحرّ" وأعضاء هيئة رأس بعلبك بالتحديد، والتي تُظهر الأبيات السابقة أحد أوجه هذا الافتخار. وبعيدا عن النقاش الجدّي حول تشابهٍ قد لا يعدو حدّ الاسم "جبران"، وبعيدا كذلك عن "الجينات اللبنانية" المشتركة التي تحدث عنها الوزير مؤخرا، فكلاهما بالفعل ذائع الصيت، وله طريقته الخاصة في النظر للأمور. إلا أن الاختلاف الأساسي بين جبران خليل وجبران باسيل يكمن في مجال وطبيعة ومستوى هذه الفلسفة والإنتاج الفكري. الأمر الذي يدعونا لقراءة قصة صعود باسيل في محاولة للتعرف على الأفكار التأسيسية التي شكّلت شخصيته، والتيار الحر من ورائه.

  

فهو "الرجل الذي لا ينام"، كما يحلو لتلفزيون "mtv" اللبناني تسميته، وهو الوزير الذي يتسابق مع الوقت، ويكتب خطاباته "الشهيرة" بنفسه، ويبدّل ملابسه ثلاث مرات يوميا على حدّ قوله[6]، والمولود لعائلة مسيحية مارونية في إحدى قرى قضاء البترون، في محافظة شمال لبنان، عام 1970، والحائز وهو في الثانية والعشرين من عمره على الإجازة في الهندسة المدنية، والتي حصل بعدها في عام 1993 على شهادة الماجستير في المواصلات من الجامعة الأميركية في بيروت[7].

  

وهو كذلك الذي يعدُّ الإيمان أساس الحياة، فلا حياةَ من دونه. بالإضافة إلى اهتمامه بالأدب والثقافة والرياضة منذ طفولته المبكّرة، فقد قرأ و"سطّر" كُتب الروائي والقاص البرازيلي باولو كويلو، كما شكّل الشاعر والأديب جبران خليل جبران مصدر إلهام روحيا له كما يقول، وهو الذي يكاد يرشف عند كل فنجان قهوة صباحا عبارة جبران خليل: "أيها المُراؤون توقفوا عن الدفاع عن الله بقتل الإنسان ودافعوا عن الإنسان كي يتمكّن من التعرّف إلى الله" المطبوعة على كوب النسكافيه الخاص به إلى جانب صورة عمّه الجنرال ميشال عون؛ "مثله الأعلى في السياسة"[8].

    

الأمر اللافت في مسيرة جبران جرجي باسيل، أن صعوده السياسي لم يكن مُرتكزا على ترقٍّ حزبي أو عمل وطني ساهم في بروز اسمه في الشأن العام، بل في مصاهرته الرئيس اللبناني الحاليّ ميشال عون، وارتباطه بابنته شانتال عون، التي تعرّف عليها عام 1993 في مؤتمر لمنظمة "Congrès National Libanais" (CNL) والتي تحولت بعدها – بحسب ما تروي شانتال- إلى ما سُمي لاحقا بـ "التيار الوطني الحرّ"[9]، وقد أنجب منها ثلاثة أولاد هم جورج، وجابرييل، ويارا، وذلك بعد أن كان مهندسا بسيطا يعمل في المشاريع الصغيرة ويستثمر في قطاع العقارات، التي ورث بعضها عن والده.

       

ميشال عون (يمين) وجبران باسيل (رويترز)
ميشال عون (يمين) وجبران باسيل (رويترز)

  

أثار الصعود السياسي السريع لباسيل، ومواقفه، حفيظة الكثير من الإعلاميين وخصومه السياسيين، حيث وُصف الوزير من قِبل عدد من وسائل الإعلام وخصومه السياسيين بعدة ألقاب، من بينها الوزير"المستفِزّ"، و"رئيس الظلّ"، و"الصهر المدلل"، و"كاتم السرّ"، و"رجل المهمات السريّة"[10]، كما يوصف أيضا بالوزير "الشرير"[11]، والوزير ذي "الشخصية المتقلّبة جدّا". على الضفة الأخرى، يصفه أنصاره ومستشاروه ومساعدوه بأنه الوزير "الشغوف"، و"المخّ" العبقري، وصاحب "القلب الطفل"، و"القائد المراهق"، و"خلية النحل" دائمة الحركة، أما والدته "أميمة باسيل" فتصفه بـ"الهنيّ" و"الحنون" و"الديناميكي" الذي لا يهدأ، والذي لا يمكن لأحد "ربطه" بمن فيهم عمه الجنرال عون[12].

   

وبحسب إحدى الصحف اللبنانية، فإن ثروة باسيل تصل إلى مليار دولار، بالإضافة إلى شائعات تتنامى باطّراد حول امتلاك الوزير لأراضٍ شاسعة في لبنان، وفي منطقة البترون على وجه الخصوص، بجانب امتلاكه طائرة خاصة والعديد من المنازل خارج لبنان. وهي التهم التي يُكذبها الوزير وينفيها بشكل مستمر[13]، ويعتبرها بمنزلة محاولات اغتيال سياسي اعتاد عليها خلال مسيرته المستمرة في "محاربة الفساد"[14] من خلال موقعه كوزير ورئيس لما يُسمى بـ "التيار العوني".

   

"التيار العوني" واستعادة الحقوق السياسية المارونية

أما "التيار الوطني الحر" الذي يرأسه الوزير باسيل حاليا، والمعروف لبنانيا "بالتيار العوني" نسبة إلى مؤسسه العماد ميشال عون؛ فهو أكبر الأحزاب المسيحية المارونية في لبنان، والتيّار السياسيّ الذي أسسه الرئيس اللبناني الحالي بعد عودته من المنفى ولجوئه إلى فرنسا الذي دام قرابة 14 عاما (1991-2005). إذ حصل الحزب عام 2006 على ترخيص من وزارة الداخلية اللبنانية لبدء نشاطه السياسي رسميا. ويمكن القول إن أحد أبرز الأسباب التي ساهمت في صعود التيار السياسي هو التحالف الذي أنشأه التيار مع حزب الله، أبرز حلفاء النظام السوري في لبنان وداعميه عسكريا، وهو، "للمصادفة الساخرة"، المتسبب في لجوء آلاف السوريين من قراهم الحدودية مع لبنان. الأمر الذي يشير بطبيعة الحال إلى الدور غير المباشر الذي يلعبه التيار في أزمة اللجوء السوري في لبنان، على الرغم من الموقف السلبي الذي يلعبه التيار تجاه اللاجئين، ودوره الرئيسي في إدارة حملة العنصرية والكراهية ضدّهم، بدعم من أبرز قياداته.

    

يصدّر التيار نفسه باعتباره حاميا لحقوق "المارونية السياسية" ومتمسكا بها وساعيا لعودتها مع تنامي الموجة السنية التي جاءت على أنقاضها كما نُقل عن الوزير[15]، والتي تعني بشكل أساسي استعادة الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية في لبنان، الموقع المسيحي الأبرز والأهم، والعودة إلى صلاحيات ما قبل اتفاق الطائف، باعتبار أن صلاحياته الحالية تُعدُّ شكلية إلى حدٍّ كبير.

     undefined

    

كثيرة هي الحملات المُضادة التي شنَّها ناشطون على التيار، ووصمهم إياه بالتيار العنصري الفاشي الذي يتغطى بعناوين عريضة مثل "الإصلاح"، وبأنه تعبير صارخ لتنامي الموجة الشعبوية والديماغوجية في العصر الحالي، ويرون بأنه يتسم بقدرة فريدة على تحويل أي مناسبة إلى موجة تحريض عنصري ضد "الآخرين"، لا سيما ضد السوريين والفلسطينيين[16]، حتى إن المحلل السياسي الإسرائيلي "تسفي بارئيل" أعاب على اليمين المتطرف الإسرائيلي من خلال مقال نشره منذ أيام عبر صحيفة "هآرتس" عدم استطاعته حتى اليوم تجنيد الوزير باسيل لديه، وتمنى بأن يصبح "التيار الوطني الحرّ" شريكا طبيعيا لليمين المتطرف في إسرائيل، وذلك بسبب تفوق خطابه العنصري تجاه اللاجئين السوريين والعمالة الأجنبية على خطاب أقصى شخصيات اليمين تطرفا في إسرائيل تجاه العرب والعمال الأجانب، مشبّها جبران باسيل بالوزيرة الليكودية المتطرفة "ميري ريغيف" وبمن يؤمنون بمثل ما يؤمن به الوزير اللبناني من "تفوّق جيني"، مثل أولئك الذين يروجون لمقولة "شعب الله المختار"[17]. وهو الخطاب الذي يمثّل الاطلاع عليه وعلى تمثّلاته "التغريدية" بُعدا مهما لفهم هذه الموجة العنصرية في لبنان، والتي تُعدّ الأبرز في الشرق الأوسط.

   

تغريدات "باسيل".. نقلة نوعية وكمية

بالطبع، لم تكن تصريحات "باسيل" التي طالت اللاجئين في المؤتمر السادس للطاقة الاغترابية الذي تنظّمه وزارة الخارجية، والذي أقيم في بيروت في السابع من يونيو/حزيران الماضي، الأولى من نوعها ضد الأجانب واللاجئين، فقد برزت ملامح خطابه بالتشكّل منذ بدايات الحرب في سوريا وبدء موجة النزوح السوري القسري إلى لبنان، وتحديدا بعد عامين من تسلّمه وزارة الطاقة والمياه. وكان أول تلك التصريحات البارزة للوزير أثناء فعاليات يوم النبيذ اللبناني 23 ديسمبر/كانون الأول من عام 2012، حيث صرّح قائلا: "عندما نقول لا نريد نازحين سوريين وفلسطينيين يأخذون مكاننا، هو أمر يجب تكريسه بالفعل وليس بالقول، فبوجودهم وبعملهم وبعيشهم فإنهم يأخذون مكان اللبناني"، وأضاف: "ألا يكفينا وجود الفلسطينيين في لبنان لتأتي بقية المخيمات إلى لبنان أيضا؟ هذا التفكير ليس عنصريا أبدا، بل إنه تفكير وطني ونفتخر به"[18].

     

   

لكن خطابات الوزير في العامين الأخيرين شهدت نقلة نوعية وكميّة على مستوى تركّز جرعة العنصرية فيه وتكراره في المؤتمرات والمقابلات الصحفية واللقاءات السياسية، هذا إلى جانب التغريدات المتتالية على صفحته بموقع تويتر، والتي وصلت حدّ اعتبار اللاجئين السوريين غير الشرعيين "محتلين" للأراضي اللبنانية، واضعا إياهم أمام خيار واحد، هو العودة إلى وطنهم. فيقول في تغريداته:

      

"ما قاومناه عام ٢٠١١ لن نسمح به اليوم بإقامة مخيمات للنازحين السوريين، فأمام المواطن السوري الشقيق طريق واحدة هي طريق العودة إلى وطنه"[19]، ويضيف قائلا: "كل أجنبي قابع على أرضنا من غير إرادتنا هو محتل من أي جهة أتى"[20].

      

ونعرض تاليا مجموعة لأبرز تغريدات الوزير خلال هذا العام:

"تجربة اللاجئ الفلسطيني لن تتكرر مع النازح السوري الممنوع من العودة حتى الآن من عدّة أطراف بسبب عدّة عوامل"[21]

 (جبران باسيل، وزير الخارجية، تغريدة، 2019)

   

"هذه الأرض التي أثمرت أنبياء وقدّيسين لن يحل محلنا فيها لا لاجئ ولا نازح ولا فاسد"[22]

( تغريدة، 2019)

    

"لقد كرّسنا مفهوما لانتمائنا اللبناني هو فوق أي انتماء آخر، وقلنا إنه جينيّ، وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معا، لمرونتنا وصلابتنا معا، لتحملنا وتأقلمنا، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معا من جهة، وعلى رفض اللجوء والنزوح معا من جهة أخرى، كلها تناقضات متكاملة، لا تجدها في أي جنس بشري غير الجنس اللبناني "[23]

 (مؤتمر الطاقة الاغترابية، 2019)

  

"من الطبيعي أن ندافع عن اليد العاملة اللبنانية بوجه أي يد عاملة أخرى أكانت سورية فلسطينية فرنسية سعودية إيرانية أو أميركية، فاللبناني قبل الكل"[24]

(مؤتمر الطاقة الإغترابية، 2019)

  

"لن نقبل وإياكم أن يكون وطننا حلم الوطن البديل لغيرنا، بل نريده أن يبقى حلمنا نحن بالعودة إليه، فلا يحل الفلسطيني مكان ابن الجنوب، ولا يحل السوري مكان ابن البقاع وعكار"[25]

(مؤتمر الطاقة الاغترابية، 2019)

     

undefined

   

"المقامرة السياسية"

لم تكن تصريحات جبران باسيل مقتصرة على اللاجئين، حيث تسببت تصريحاته وتغريداته في عدد من الأزمات التي امتدت إلى دُول الجوار، حيث ردّ عدد من الأمراء ورجال الأعمال الخليجيين والسعوديين على وجه الخصوص على عدد من تصريحات الوزير. ففي رد ساخر، كتب الأمير السعودي عبد الرحمن بن مساعد على صفحته على تويتر غداة تصريح الوزير الذي تحدّث فيه عن العمالة في لبنان من بينها "العمالة السعودية": "مشكلة العمالة السعودية السائبة في لبنان كبيرة، ولا يلام معالي الوزير العبقري على تصريحه، ولا أرى فيه أي عنصرية، بل هو تصريح حكيم وفي محله، فالسعوديون زاحموا اللبنانيين على أعمالهم، واللبنانيون أولى ببلادهم لا سيما أن عدد العمالة السعودية في لبنان يقارب الـ 200 ألف"[26].

    

   

أما الأمير السعودي سطام بن خالد آل سعود فردّ على الوزير عبر تغريدة هو أيضا قائلا له: "أولا لا يوجد سعودي يعمل داخل لبنان. ثانيا عندما نطالب بأن السعودي قبل الكل، كان يوصف حديثنا من قبل البعض بالعنصرية!!!"[27]. وقد ردّ أيضا على تغريدة الوزير الأمير السعودي ورجل الأعمال المعروف خالد آل سعود قائلا: "السعوديون يأتون لبلادك "سُياحا" على نفقتهم الخاصة وليس للبحث عن فرصة عمل.. تأكد معالي الوزير "أولا" ثم غرد كيفما شئت"[28].

  

لم تقتصر الردود على الأمراء السعوديين، فالكتّاب السعوديون أيضا كانت لهم ردودهم على الوزير، فقد وضع الكاتب السعودي سلطان بن بندر ما جاء في تغريدة الوزير في خانة محاولة النائين "بأنفسهم نحو إيران، وبتعكير العلاقات السعودية اللبنانية بتصريحات لا تدل إلا على الجهل الدبلوماسي والمقامرة السياسية"، مضيفا: "ودون أن يتذكر صهر الريّس عون، الذي أوكلت له حقيبة الخارجية، خلال كتابة تغريدته المسيئة التي أقحم فيها السعوديين أن أكثر من 300 ألف مواطن لبناني تركوا وطنهم طمعا في العيش داخل السعودية"[29].

  

ومن الردود الكلامية والتغريدات إلى الإجراءات "العقابية" التي أضرّت بالفعل بالعديد من اللبنانيين المقيمين في الخليج العربي، لا سيما في المملكة العربية السعودية، فقد قام صاحب مجموعة الرشيد، السعودي عبد العزيز الرشيد، بطرد أربعة موظفين لبنانيين، وقد غرّد على حسابه في تويتر قائلا: "أنا أنهيت خدمات 4 لبنانيين وتسفيرهم لبلادهم تضامنا مع طلب الوزير الهمام #جبران_باسيل الذي يطالب بعودة اللبنانيين"[30]. هذا إلى جانب تغريدات أخرى شبيهة من رجال أعمال سعوديين معروفين وغير معروفين أعلنوا فيها عن إنهاء خدمات العديد من الموظفين اللبنانيين في المملكة وطردهم منها.

    

   

أما على الصعيد الداخلي في لبنان، فقد انهالت على الوزير الردود من عدة جهات رسمية، من بينها تغريدة للزعيم الدرزي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، حيث غرّد معقّبا على تصريحات الوزير: "سمعنا أخبار دير الأحمر حول طرد السوريين ونسمع مجددا أخبار عرسال وهدم الخيم والبيوت، ومن قبل أتحفنا وزير بارز بالنظريات العنصرية تجاه الفلسطينيين والسوريين. من الحاكم في هذا البلد؟ وما موقف رئيس الوزراء؟ أم أن كل ما يجري داخل في التسوية المشؤومة؟ هل سنُرحّل هؤلاء إلى التصفية في سوريا؟"[31].

   

أما الردّ الأكثر جرأة فجاء من النائب بولا يعقوبيان، التي دعت الوزير للاعتذار أو الاستقالة، معتبرة أن لبنان يدفع دائما الأثمان الغالية بسبب رعونة سياسييه، وقالت متوجّهة لباسيل: "لكن حضرتك ضاربت على الكل والمؤسف أنك شاعر بالعبقرية بدل أن تشعر بالخجل الذي تُسببه لنا كلبنانيين مقيمين ومغتربين"، وأضافت أيضا: "اللبناني الذي هاجر هربا منكم ومن أمثالكم. وها أنتم تلحقون به إلى بلاد الاغتراب لتخربوله بيته"[32].

  

  

ذلك بالإضافة إلى بروز العديد من الأصوات التي تطالب الوزير بالتوقف عن تصريحاته المماثلة أو تقديم استقالته، هذا إلى جانب إطلاق هاشتاغات أشعلت مواقع التواصل الإجتماعي مثل هاشتاغ #باسيل_لا_يمثّلني، و#ضدّ_خطاب_الكراهية، وهاشتاغ #مطلوب_اقاله_وزير_الخارجيه. وقد قام مجموعة كبيرة من الصحافيين والكتّاب والناشطين والفنانين والحقوقيين والمثقّفين اللبنانيين بإصدار بيان استنكار للحملة العنصرية التي يتعرض لها اللاجئون. وقد نفّذ العديد من الناشطين والحقوقيين والأكاديمين اللبنانيين إلى جانب شخصيات سياسية وحزبية وقفة احتجاجية في ساحة سمير قصير وسط بيروت في الثالث عشر من شهر يونيو/حزيران الماضي رافضين تصريحات الوزير ضد اللاجئين والعمال السوريين، ومؤكدين أن ذلك الخطاب العنصري لا يُمثّل كل اللبنانيين، وبأنهم يتعرضون بدورهم "كلبنانيين" أيضا لكثير من التمييز في بلدهم.

   

من "التغريد" إلى "الترهيب"

"طبعا نريد أن نميز المواطن اللبناني عن غير اللبناني بالعمل والسكن والضريبة وأمور كثيرة، وهذا ليس تمييزا عنصريا بل سيادة الدولة على أرضها. البعض يتهمني أني عنصري وأنا أفهم، لأن الانتماء اللبناني لدى هؤلاء ليس قويا كفاية ليشعروا بما نشعر به، ولأنهم يعتبرون أن هناك انتماء ثانيا قد يكون أهم بالنسبة لهم"[33]

    

هذا ما قاله الوزير "باسيل" في محاولة منه لاستدراك موجة الغضب والسخرية التي خلّفتها تصريحاته الأخيرة، وهو الذي انعكس على وصف بعض وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية لتصريحاته الجديدة باعتبارها تصحيحا لِما تم تحريفه عن لسانه، وبأن لغته "التصحيحية" يمكن وصفها بالتصالحية والودّية. إلا أن المسألة إذا ما نظرنا إلى انعكاساتها الواقعية لم تعد مسألة عنصرية في الخطاب يمكن أن نتجادل في سوء فهمها من عدمه، لأن الحال بات أكثر تعقيدا وخطرا.

     undefined

 

فقد شهد لبنان في الآونة الأخيرة العديد من الحوادث الصادرة عن جهات رسمية وإعلامية وحزبية وشعبية يمكن أن تضاف إلى سلسلة الممارسات العنصرية التي استهدفت اللاجئين السوريين، من بينها الترحيل والطرد من أماكن السكن استنادا إلى قرارات بعض البلديات، هذا إلى جانب منعهم من التجوّل في ساعات محدّدة حتى في مناطق سكنهم، بالإضافة إلى مطاردة عناصر بعض البلديات للأطفال العاملين في الطرقات، الأمر الذي تسبب حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في وفاة الطفل السوري أحمد الزعبي مطلع هذا العام، "إثر مطاردته من قِبل عناصر من بلدية بيروت أثناء عمله بمسح الأحذية في حي تلة الخياط، أحد أحياء العاصمة اللبنانية"[34]. حتى إن الأمر وصل بأحد الأعضاء السابقين في المجلس السياسي للتيار الوطني الحرّ بالمطالبة بقطع التيار الكهربائي نهائيا عن مخيّمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وذلك حينما كَتَبَ ناجي حايك قائلا: "طريقة بسيطة لتخفيض الموازنة، اقطعوا الكهرباء عن المخيمات الفلسطينية التي لم تدفع ما عليها منذ 70 عاما، وعن مخيمات اللاجئين كمان"[35]، في إشارة منه إلى مخيمات اللاجئين السوريين.

  

هذا فضلا عن إطلاق "التيار الوطني الحرّ" منذ عدة أشهر برعاية الوزير باسيل حملة منظّمة تحت شعار "بتحب لبنان وظّف لبناني"، وعلى الرغم مما تُمثّله الحملة من بُعد وطني يُمكن تفهّمه، فإن الحملة تضمّنت سلوكا عنصريا واضحا وفجًّا تجاه لاجئين سوريين عبر إهانات لفظية، ومطالبات بعودتهم من حيث أتوا، بالإضافة إلى عرض مقابلات تلفزيونية مع بعض أصحاب المحال التجارية والمواطنين الذين حرّضوا بشكل مباشر على طردهم من لبنان ومنعهم من العمل فيه. هذا إلى جانب حملات إعلامية كان عرّابها تلفزيون "otv"، التابع للتيار الوطني الحرّ، وقناة "mtv" التي نشرت على موقعها مقالا يُرجع سبب ارتفاع نسب السرطان في لبنان إلى وجود السوريين في البلاد، وكل ذلك في ظل تجاهل يراه البعض مُتعمّدا من قِبل السلطات.

        

      

الأمر الذي دفع المرصد الحقوقي الدولي للتنبيه في بيان صحفي له بعد تصريحات الوزير إلى التداعيات الخطيرة المحتملة "لما يشهده لبنان من تكريس لسياسة عنصرية متصاعدة تجاه اللاجئين في البلاد، بما ينذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة تزيد من التدهور الحاصل أصلا في أوضاع اللاجئين السوريين"[36]. إلا أنه على صعيد آخر تماما، يحمل في قلبه عديدا من التناقضات، ووسط هذه الحملة الشرسة التي تطول اللاجئين وتوظيفهم، فقد كشف تقرير لقناة "الجديد" اللبنانية بأن مشروع "بترونيات" السياحي الذي أسسه باسيل عام 2009 في منطقة البترون يقوم بتشغيل عمال أجانب من عدة جنسيات من بينهم سوريون ومصريون[37]!

    

في السياق ذاته؛ بلغ عدد الذين أُجبِروا على توقيع استمارات "عودة طوعية إلى الوطن" خلال هذا العام فقط 30 سوريًّا على الأقل[38]، على الرغم من عدم وجود حلّ سياسي حتى الآن في سوريا ومن غير وجود ضمانات كافية لأمنهم وحياتهم، الأمر الذي سيعرّض اللاجئين إما للاعتقال أو للتجنيد الإجباري أو حتى التصفية من قِبل قوات النظام، وذلك على الرغم من التزام لبنان بمبدأ القانون الدولي العرفي ومعاهدات قانون الأمم المتعلق بعدم الإعادة القسرية التي قد تُعرّض الأفراد للخطر والاضطهاد.

   

الأمر لا يقف هنا، ففي أبريل/نيسان الماضي، قام المجلس الأعلى للدفاع، وهو هيئة عسكرية يرأسها رئيس الجمهورية ميشال عون بإعطاء مهلة لهدم كل الأبنية والجدران الأسمنتية "شبه الدائمة" التي قام اللاجئون بتشييدها في المخيمات غير الرسمية في بلدة عرسال الحدودية سعيا منهم لاتّقاء حرّ الصيف وبرد الشتاء، وبحسب منظمة العفو الدولية فإن أحد العاملين في المجال الإنساني أكّد أن السلطات اللبنانية تضغط على اللاجئين السوريين من أجل هدم المباني الأسمنتية بأنفسهم، وذلك تجنبا لظهور صور وتسجيلات رسمية تُظهر هدم الأبنية بالقوة.

   

هذا إلى جانب إصدار أمر من قِبل السلطات اللبنانية في الخامس من يونيو/حزيران الماضي بإخلاء مخيّم دير الأحمر، الذي كان يضمّ نحو 600 لاجئ، إثر توترات ومشاجرات بين اللاجئين ورجال الإطفاء وبعض من رجال قرية دير الأحمر الذين هددوا بحسب عمّال منظّمات غير حكومية بحرق اللاجئين في خيامهم، الأمر الذي دفع باللاجئين للفرار نحو البقاع وإقامة مخيم آخر بعد رفضهم من جميع القرى المحيطة بالقرية، لا سيما بعد قرار سلطات البلدية في القرية السابقة بإخلائهم المنطقة ومغادرة دير الأحمر، بحجة أن القرار لصالحهم وحمايتهم[39].

     

هل يُعقَل أن يتحمّل اللاجئون السوريون وحدهم وزر الانهيار التدريجي للاقتصاد ونسب البطالة المرتفعة في لبنان؟
هل يُعقَل أن يتحمّل اللاجئون السوريون وحدهم وزر الانهيار التدريجي للاقتصاد ونسب البطالة المرتفعة في لبنان؟
    

هذا إلى جانب ما يُذكر في بعض الأوساط من وجود شبه إجماع سياسي على ما يمكن تسميته بسياسة الإنماء المناطقي غير المتكافئ والمقصود، عبر تهميش بعض المناطق المتعاطفة مع المعارضة السورية واللاجئين السوريين منذ بداية الأزمة في سوريا، وخصوصا مدينة طرابلس ومناطق أخرى في شمال لبنان وشرقه، وذلك عبر حرمانها من المشاريع التنموية الأساسية وتعطيل تلك المشاريع، والإبطاء في تنفيذ بعضها الآخر، واستهداف أمنها بين الفينة والأخرى.

كبش المحرقة

"إنَّهم يعملون في لبنان، ويأخدون الوظائف من اللبنانيين لأنَّهم يتلقون أجورا أقل ولا يدفعون ضرائب ويتلقون مساعدات إضافية بجانب الأجور التي تُدفع لهم… التوتر يتصاعد في الداخل (في لبنان). اقتصادنا ينهار حقا. كيف يمكنك تحسين اقتصادك وأنت تتحمل هذا العبء"[40]


"لا نستطيع ان ننقذ اقتصادنا وعلى أرضنا مليون ونصف من غير اللبنانيين الذين يعملون مكاننا ويجب أن نواجه هذه الحقيقة[41]"

(جبران باسيل، وزير الخارجية، تغريدة، 2019)


لا شك أن ما يمكن وصفه بـ "التيار العنصري" في لبنان ليس الوحيد الذي يروّج لفكرة تأزم الاقتصاد الوطني الناتج عن أزمة اللجوء التي يستحيل معها معالجة الأزمات الاقتصادية، والشواهد من حولنا كثيرة. ولا شك أيضا أن لأزمات اللجوء والتدفق غير المنظّم للاجئين آثارا سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية أيضا على الدول المستقبلة. لكن السؤال الأهم هو: "هل يُعقَل أن يتحمّل اللاجئون السوريون وحدهم وزر الانهيار التدريجي للاقتصاد ونسب البطالة المرتفعة في لبنان؟".

    undefined

  

انطلاقا من هذا السؤال، لا ينفك سعي الخبراء الاقتصاديين المطّلعين على الشأن الاقتصادي والسياسي في لبنان للإجابة عن هذا السؤال منذ بداية الأزمة. فعند الحديث عن الآثار الاقتصادية للجوء في لبنان، لا بد، بحسب أديب نعمة، المستشار الإقليمي في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا)، من الحديث عن ثلاثة مستويات تحليل متوازية في الأهمية، هي: أولا، الأزمة الهيكلية في لبنان ومشكلاته الخاصة التي تسبق في الأصل الأزمة السورية، ثانيا، تأثير الأزمة السورية بشكل عام على الوضع اللبناني، وثالثا، الآثار الناجمة عن تدفق اللاجئين إلى لبنان.

   

ومما لا بدّ من معرفته أيضا هو أن ما يشهده لبنان منذ بداية الترويج "للرواية الجزئية والمنحازة" حول تداعيات اللجوء في لبنان منذ عام 2013 هو محصّلة نهائية لتلك العوامل الثلاثة مجتمعة، فمن غير الإنصاف أبدا تحميل اللاجئين على وجه الخصوص جميع النتائج والآثار السلبية بمعزل عن العامل الرئيسي الأول، لا سيما أن انعدام الاستقرار السياسي والتجاذبات السياسية وغياب المؤسسات والاستقطاب المستمر في الأزمات الخارجية هو أحد أهم الأسباب الرئيسية خلف التذبذبات الاقتصادية التي يشهدها لبنان بين الحين والآخر حسب نعمة، فهي تتسبب بشكل مباشر في تقويض ركائز التخطيط العام من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية الهيكلية، هذا إلى جانب خلق بيئة طاردة للاستثمارات، وللهبات والقروض والمساعدات[42]، وحتى للسيّاحة والعَمَالة الوطنية في الخارج والتحويلات المالية، لا سيما من المغتربين اللبنانيين في الدول الخليجية.

 

ومع ذلك، فإن التقرير الصادر عن معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركيّة في بيروت يشير إلى العديد من الحقائق والإحصائيات التي تصحح الكثير مما أُشيع حول الآثار الاقتصادية السلبية للجوء السوري في اقتصادات المجتمعات المضيفة، وعلى رأسها لبنان. فعلى سبيل المثال، شكّلت الاستثمارات العقارية من جهة السوريين ميسوري الحال مصدرا مهما للدخل بالنسبة للاقتصاد اللبناني بلغ في عام 2016 وحده ما يُقدّر بـ 78.7 مليون دولار أميركي. هذا إلى جانب 378 مليون دولار دُفِعت خلال ذلك العام لأغراض تتعلق بالإيجارات والمساكن، وخصوصا مع عدم وجود مخيّمات رسمية للاجئين. أما برنامج الأغذية العالمي فقد ضخّ خلال الفترة ما بين 2012 و2017 فقط ما يُقدّر بـ 965.5 مليون دولار في الاقتصاد اللبناني بشكل مباشر على شكل دعم مالي عبر قسائم الأغذية الإلكترونية[43].

    

  

أما على الصعيد الاجتماعي، وعلى الرغم من الحملات المتتالية التي يقودها "التيار الوطني الحرّ" منذ بداية الحرب في سوريا وتفاقم أزمة اللجوء السوري في لبنان، يوضّح تقرير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بناء على استطلاع رأي أجراه المعهد عام 2016 أن 78% من اللبنانيين أجابوا عن الاستطلاع بأن العلاقات التي تجمعهم بالسوريين في بلادهم "طبيعية"، و"جيدة"، و"جيدة جدا"، وأن ما نسبته 18.7% فقط أجابوا بأنه ما من علاقة تجمعهم مع السوريين، مقارنة بنسبة 31% في عام 2015[44].

  

 الأمر الذي يشير بدوره إلى وجود تحسن تدريجي في مسألة التفاعل بين اللبنانيين واللاجئين السوريين خلال السنوات السابقة (2015-2016)، بيد أن التكامل في الأدوار ما بين الحملات العنصرية التي تقودها بعض الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام المحسوبة عليها، وتزايد حدتها وتكثيفها والدعم الشعبي لها، وبالتزامن مع ما يمرّ به الاقتصاد اللبناني من ضعف في النمو وارتفاع في معدل البطالة وتضرر لأغلب القطاعات الاقتصادية وانعكاس ذلك على الظروف المعيشية والنفسية والاجتماعية للفئات الأكثر ضعفا وتهميشا في المجتمع، أو الأكثر قدرة على استحضار السياق التاريخي وربط مسألة اللجوء السوري الإنساني بذاكرة الوجود السوري الأمني والعسكري في لبنان وعدم التمييز بينها، قد يوحي هذا كله بانخفاض نسبة التفاعل "الجيد جدا" على أقل تقدير بين اللبنانيين واللاجئين وارتفاع معدل التوترات الاجتماعية بينهم، الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال عدة حوادث من بينها حادثة "دير الأحمر" كما أوردنا سابقا وحملة "بتحب لبنان وظّف لبناني"، والعديد من الأخبار ثقيلة الوطأة على آذان وأعين الكثير من اللبنانيين، والتي يروّج لها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بوعي أو من غير وعي مثل الحوادث والجنايات التي تلمع بها عبارة "سوري الجنسية" كمعتدٍ أو معتدى عليه.

   

من اللبنانيين إلى اللبنانيين

لكن على الرغم مما يعانيه الاقتصاد اللبناني من "انهيار" تدريجي حسب الشعور اللبناني العام، وحسبما يشاع من قِبل السياسيين ومن بينهم الوزير باسيل، وعلى الرغم كذلك من اقتراب لبنان من نقطة الانفجار، ومع التراجع في الظروف المعيشية للمواطن اللبناني والاختفاء شبه التام للطبقة الوسطى، وفي ظلّ غياب مستمر لدور الدولة في قيامها بواجباتها الأساسية "كدولة"، لا سيما في مجال الرعاية الصحية، وتوفير الكهرباء، ورعاية المسنين والمعدمين، ومعالجة الأزمات البيئية مثل كارثة النفايات وتلوّث المياه، إلى جانب أزمة التعليم الثانوي والجامعي، ومشكلة الاتصالات واحتكارها، ومكافحة الرشوة والهدر والاختلاس والفساد المستشري في المؤسسات، فقد يكون من غير المنطقي أن يُنكر أحد على اللبناني الفقير والمصاب بكل ما سبق طبيعيّة أحقّيته ومشروعية مطالبته بتنظيم اليد العاملة وسوق العمل. إلا أن ذلك عليه أن يكون عبر الجهات المختصة كوزارة العمل، لا عبر حملات عنصرية شعبوية يقودها وزراء ومسؤولون ورؤساء أحزاب، وعبر معالجات عملية لا عبر اعتداءات وتجاوزات إنسانية وأخلاقية، وعبر إجراءات لا تهدف إلى منع العمال الأجانب من العمل بقدر ما تهدف إلى تنظيم مسألة أعمالهم وشرعنتها.

    

والمطلوب في الأساس -حسب الكثير من اللبنانيين المعارضين لهذه الموجة- أن تكّف الطبقة السياسية في لبنان (حتى تلك التي نأت بنفسها عن الأزمة السورية) عن تحميل فشلها المستمر ونتائج الفساد المتجذّر للاجئين في البلاد، وأن تكف عن استخدام ملف اللجوء كأداة للتعبئة السياسية والتغطية على قضايا الفساد وشغل الرأي العام وإلهائه عن جذور الأزمة الاقتصادية، لا سيما أن "التيّار الوطني الحرّ" قائد الحملة ضدّ اللاجئين يعدُّ مشاركا بشكل أو بآخر في صناعة أزمة اللجوء السوري في لبنان. كما يمكن عبر ملاحظة ردود الأفعال المضادة للموجة العنصرية رؤية دعاوى التحلّي بـ "الإيتيكيت" المعروف عن اللبنانيين، وبالأخلاق الإنسانية التي دعت إليها جميع الطوائف والمذاهب، كالاحترام. ومن المهم في هذه المساحة أن يزداد الوعي بجذور الأزمة الاقتصادية-السياسية في لبنان، والمطالبة المستمرة والجدّية بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية ومواجهة الفساد ومحاكمة الفاسدين، هذا إلى جانب المطالبة الجماهيرية باستقالة الشخصيات العنصرية، والتعبير عن رفض هذا الخطاب. فالعنصرية تقتل"الإنسان" النازح من بلاده مرّتين!

المصدر : الجزيرة