شعار قسم ميدان

تجارة الخلاص.. لماذا أصبحنا مهووسين بتناول الأدوية والمسكنات؟

اضغط للاستماع

يستخدم البشر يوميا أربعة عشر مليار حبة من علاجات الألم (1)، رقم ضخم يعكس نوع الثقافة التي أصبحت تسود الحياة، فقد صار "البشر يتعاملون مع الأدوية والمسكنات ليس فقط كحل للألم، لكن أيضا كوسيلة لتحسين الحياة" (2)، ثقافة من الممكن أن يبررها الخوف، فلا يوجد شيء له رهبة كبيرة في نفوس البشر كما الألم. غير أن الألم كما أنه مُخيف فهو معلم ومرشد في معظم الأوقات لحسن الإدراك والتعامل مع المواقف التي تُهدِّد الحياة، فيُعلِّمنا أن نتجنّب النار، ويُنبِّئنا بخطورة السموم، ويُبعدنا عن الأشياء الحادة، والكثير من الأشياء الأخرى التي يمكن أن تُسبِّب لنا الضرر، وفوق ذلك، يعمل منبها للجسم حين يًصاب بالمرض.

رغم ذلك فإنه لا يمكن أن يُعتَبر زائرا مرغوبا في حياة أحد، وهذا يتوقف على شدته والمدة التي يزورنا فيها، فالألم يمكن أن يؤثر جذريا على نوعية الحياة، تقول آلاء في مقابلتها مع "ميدان" (3): "أنا أكره الألم ولا أحب مواجهته، وأشعر أن هذا كان من أسباب تناولي المسكنات طوال السنوات السابقة".

يؤكد كلام آلاء حقيقة الألم وطبيعته، وأنه كان وسيبقى رفيقا دائما للبشر، لذلك يتحتم علينا معرفة أفضل الطرق للتعامل معه، ويجعلنا نتساءل؛ هل إسكات الألم على أي حال باستخدام المسكنات هو الحل الأمثل؟ أم أن علينا التفكير في الألم بشكل أكثر حكمة وبطرق مدروسة تحفظ لنا مع تخفيفه سلامة أجسادنا وصحة نفوسنا؟

الألم.. مَن هو عدو الإنسان الأول؟

الألم

"لم يَعُد من المقبول إدارة الألم فقط، يجب أن نتوقع أنه يمكن علاجه، ويمكن للمرضى تغييره بأنفسهم من خلال التعليم"

(د. ديفيد شيريدان بتلر)

دائما ما كان الألم مُلهِما للبشر في مجال الطب، "فالرغبة في الشفاء يدفعها وجود الألم، أو وجود عيب ما في المظهر أو في وظيفة من وظائف الجسم يختلف تقديرها باختلاف المراحل التاريخية والثقافات والمجتمعات والأديان" (4). فمنذ 6000 عام قبل الميلاد، كان سكان وادي نانتشوك في بيرو يمضغون نبات الكوكا لتسكين آلامهم لاحتوائه على مادة الكوكايين، وكان أطباء قدماء المصريين يستخدمون الأفيون إلى جانب التعاويذ والصلوات. وفيما كانت الكنيسة تَعتَبِر الألم هبة الإله، كان ديكارت يضع كتابا يشرح فيه آلية الألم داخل الجسم، الآلية التي دشّنت سيادة العقل على العالم وبزوغ عصر الأنوار وتطوُّر علم الطب البشري. ومع حلول عام 1804، استخلص الصيدلي الألماني فريدريش سيرتورنر المورفين، وهو المادة الفعالة في الأفيون، ليصنع منه دواء مسكنا (5).

منذ تلك اللحظة تغيَّر وتطوَّر فهم البشر للألم، فديكارت حين وضع نظريته لفهم الألم ركَّز فقط على الجانب الجسدي البيولوجي، ووصف الأمراض بأنها عمليات بيولوجية ميكانيكية بحتة، وتصوَّر هو ومعاصروه تجربة الألم كفعل ورد فعل ميكانيكيين، يُثير المؤثر الخارجي شعور الألم فينتقل مباشرة من الجلد إلى الدماغ، مع إهمال كامل للتفاعل النفسي والاجتماعي اللذين يلعبان دورا في ماهية شعور البشر بالألم (6)، لكن مفهوم الألم وفهم مكنونه قد تطوَّر مع تطوُّر أدوات العلم واكتشافاته، ومع اتساع منظور الأطباء للجسد وآلية عمله، وإدراك الارتباط بين عملية الألم والعوامل الأخرى الكثيرة التي تستوعب الإنسان وتؤثر فيه.

وحين وصلنا إلى سبتمبر/أيلول عام 2016، عرَّفت الرابطة الدولية لدراسة الألم خلال المؤتمر السادس عشر للألم بأنه "تجربة موجعة ومؤرقة تنتج من التلف الحاد الوقتي أو المستمر في خلايا الجسم، وترتبط بعوامل حسية، وشعورية، ومعرفية، واجتماعية" (7). يُخبرنا هذا التعريف أن الألم أوسع من أن يكون مجرد ردة فعل كيميائية عصبية يُبديها الجسد، بل تدخل في تشكيله عوامل اجتماعية وثقافية كتأثير الجو الأسري المحيط بالشخص، وتجارب الآخرين في التعامل مع الألم التي عاينها في حياته، وكيفية تعامل المحيطين به معه خلال تألمه، هل يوفّرون له الدعم الاجتماعي الكافي أم لا، ودرجة تعليمه ومعتقداته الدينية وطبيعة ثقافته.

كما يدخل في صياغة صورة ألم الشخص ودرجته أيضا عدد من العوامل النفسية، كطبيعة الشخصية، وتجارب الألم السابقة التي مرّ بها، والخوف، والقلق، والقدرة على التأقلم. هذا بالطبع إلى جانب العوامل البيولوجية، كالاستعداد الوراثي، وعمر الشخص وجنسه، ونوع ومدى الإصابة التي تعرّض لها، والأمراض الأخرى لديه، وهذا الفهم الواسع للألم من منظور بيولوجي اجتماعي ثقافي قد طوَّره الأطباء سعيا لتعامل أكثر فاعلية وكفاءة في علاج الألم، واستبدلوه بالتعريف القديم الذي كان يُركِّز على الجانب البيولوجي فقط (8).

تزامن التطوُّر في فهم الألم مع التطوُّر في طرق علاجه والتعامل معه، إلا أن هذه الطرق تحتاج إلى مجهود أكبر ووقت أكثر من كلٍّ من الطبيب والمريض، حيث يحتاج المريض إلى التعلُّم والفهم والمحاولة للتعامل مع ألمه بشكل أكثر وعيا، ويحتاج الطبيب إلى متابعة ألصق لتفاصيل الألم عند كل مريض، وهو وقت وجهد أكثر بالتأكيد مما يحتاج إليه تناول حبة من المسكن يشتريها المريض من أقرب صيدلية. ولكن هل يختفي الألم بعد تناول المسكنات؟ يجيب د. جوناثان سيلكوك، محاضر الممارسة الصيدلانية في جامعة برادفورد، بأن الإجراءات غير الدوائية (على سبيل المثال الراحة، وتناول السوائل، والتغيير في الأنشطة) هي مساوية أو أكثر فائدة من مسكنات الألم في كثير من الحالات (9)، فلماذا إذن انتشرت المسكنات إلى درجة أن ينفق الأميركيون وحدهم 17.8 مليار دولار سنويا عليها؟ (10).

المسكنات.. فردوس خالٍ من الألم
"أنا أتألم إذن أنا موجود"

(ميلان كونديرا)

أقراص مسكنة

قطعت الحداثة الغربية على نفسها وعودا كثيرة، كان من بينها استئصال الخوف من العالم، وإخضاعه لإرادة بشرية وعقلانية، وكان ذلك يعني استبعاد لغة القضاء والقدر والبلاء والابتلاء، والتحوُّل إلى لغة الإرادة والاستحقاق، فحاربت المجالات التي تُمثِّل مصدر الخوف للإنسان ومن ضمنها هشاشة الجسد (11)، ونجحت بالفعل في علاج أعراض وأمراض، وداوت آلاما وسكَّنت أخرى، ولكنها حوَّلت الخوف من الألم إلى عداء له، فحرمت البشر من الاستفادة منه.

فالألم يجعل الشخص على دراية بما يجري الآن، سواء كان يتعامل مع صداع سيئ أو يُعاني من ألم عاطفي، فسوف يُركِّز على ما يجري في الوقت الحالي. ورغم أن هذا الوضع لا يبدو جيدا عند النظر له من الخارج، إذ يبدو نوعا من المعاناة الخالصة، فإن الإدراك والتعرُّف على المشكلة الحقيقية هو مهارة مهمة يسعى البشر لتعلُّمها من خلال وسائل تعويضية أخذت في الانتشار مثل التأمل وصفاء العقل واليوغا (12)، وهو ما يُحرم منه الإنسان على مستوى النفس أو الجسد حينما يلجأ لتسكين ألمه بسرعة وبأي وسيلة، فهل حققت المسكنات وعد الحداثة بالتخلُّص من الألم، أم أنها رسَّخت الخوف إلى جانب العداء؟

تقول آلاء في حديثها لـ "ميدان": "خوفي من الألم واستمراره، رغم مداومتي على تناول المسكنات، جعلني أصل إلى مرحلة الإفراط في تناول الأقراص، وكنت على وشك الدخول في مرحلة الاعتماد على الحقن، هذا وأنا أتناولها لعلاج الصداع الناتج من الضعف العام". وعن آثار تناولها للمسكنات طوال عشر سنوات تحكي: "أخافتني فكرة عدم القدرة على الاستغناء عن المسكنات أكثر من الألم نفسه، كما ظهرت لديّ أعراض أخرى أخبرني الطبيب أنها بسبب كثرة استخدام المسكنات، حيث زادت نوبات الألم شدة وعددا وأصبحت أقل استجابة للمسكنات، وأصبحت جروحي أقل قابلية للالتئام"، فالتسكين كما يظهر لنا من كلام آلاء ليس علاجا، وإنما هو إسكات لصوت يُرينا أبعد مما يظهر لنا.

وتُضيف آلاء: "لقد قررت مؤخرا التوقُّف عن تناول المسكنات، أو تنظيم تناولها على الأقل، لأن الألم لم يتوقف، وتركت المسكنات آثارا سلبية على جسدي وحياتي". وحينما قررت آلاء ضبط تناولها للمسكنات، لم تكن التجربة سهلة، بل أبدى جسدها ردود أفعال كما يحصل في حالات الإقلاع عن الإدمان -أيًّا كان نوعه-، فتحكي لـ "ميدان": "كانت الشهور الأولى صعبة، فقد أصبحت نوبات الصداع أقوى، حتى إن حياتي كانت تتوقّف تقريبا، ولم أكن أتناول المسكنات إلا وقت الحاجة حين أكون خارج المنزل أو حين أكون بصدد القيام بعمل مهم، ومع الوقت تحسَّن الأمر كثيرا، فأصبحت النوبات أقل وأكثر استجابة للأقراص المسكنة القليلة مرة أخرى". وعن الأثر النفسي تقول آلاء: "كانت التجربة مفيدة لي، شعرت أني أقدر على المواجهة، وأن الأشياء تتحسَّن مع الوقت حتى وإن بدت كبيرة وصعبة في البداية".

وكما فعلت آلاء حينما حاولت تخفيف ألمها بتناول المسكنات، يسعى البشر بشكل فطري لإيجاد حلول لمشكلاتهم، ومداواة جروحهم وآلامهم، فليس من الطبيعي أن يبقى الإنسان ساكنا بلا فعل ولا محاولة حتى لوقف ألمه، وكلما كانت الحلول أكثر توفرا وأسرع أثرا، أقبل البشر عليها بشكل أكبر، وهذا ما وفّرته المسكنات منذ اكتشفها البشر واستطاعوا تصنيعها في صورة سهلة الاستخدام فعالة الأثر، وازداد مع الوقت اعتمادهم عليها. بيد أن لجوء البشر السريع والسهل للمسكنات ليس طبيعيا ولا عفويا دائما، فهناك مَن يستفيد من رواج المسكنات وتسويقها، ويجني أرباحا فلكية كلما اتسع نطاق استخدامها، ليتجاوز النطاق المحمود وينتهي الأمر بعواقب تُنذر بالسوء.

المسكنات.. تجارة تعزف على أمل الخلاص

أقراص مسكنة

"إنها صورة مُشوَّهة، تلك التي تعرض الجسد البشري على أنه كيان هش مُعرَّض للانحراف والتعطُّل، ويحتاج إلى المراقبة والترقيع في كل وقت، هذا هو التصوُّر الذي يُقدَّم للبشر حاليا وبشكل معتاد.. إن سر الطب العظيم الذي يعلمه الأطباء جيدا ولكنه مخبأ عن الجمهور هو أن كل شيء يتحسَّن من تلقاء نفسه"

الطبيب والعالم الأميركي لويس توماس

بتقدُّم علمي كبير، وبمحاولات لفهم أكثر تعمُّقا لطريقة عمل أجساد البشر، وأبحاث علمية ازدادت توسُّعا يوما بعد يوم، وفي كون أعادت الحداثة تشكيل علاقة البشر معه، أصبح الطب مُنقذا وجدارا يحتمي به البشر من هجمات الأمراض وأعراضها، ويلجأون إليه لتخفيف آلامهم. وقد تزامن تطوُّر الطب في طفراته الأولى واكتشافات الأدوية مع الحروب والاستعمار، فقد حرصت الدول الاستعمارية على تطوير الأدوية وسُبُل العلاج لكي تحافظ على قوة جيوشها، وكانت المسكنات القوية مطلوبة بشدة لتخفيف آلام الجرحى في حالات الحروب.

فخلال الحربين الأهلية الأميركية (1861-1865)، والألمانية-الفرنسية (1870-1871)، أدّى الاستخدام الطبي الخارج عن التحكُّم للمورفين كمسكن للآلام إلى تحوُّل عدد كبير من الجنود إلى حالة من الإدمان عليه، حتى إن تلك الظاهرة أُعطيت اسما في وقتها دلالة على تأثيرها الكبير وهو "مرض الجنود"، ما حدا بالعلماء في وقتها للبحث عن مواد لها أثر مسكن وفي الوقت نفسه لها خطر إدمان أقل (13).

وفي العام 1899، أنتجت شركة باير الألمانية الأسبرين في شكل تجاري للمرة الأولى (14)، والذي استُخدم كمسكن ومضاد للالتهاب وخافض للحرارة، وفي الخمسينيات من القرن العشرين بدأ تداول دواء الباراسيتامول والمشهور حاليا بالاسم التجاري (بانادول) (15)، واستمرت عجلة الأبحاث في الدوران حتى قدَّمت الشركات الديكلوفيناك في السبعينيات والذي اتخذ عدة أسماء تجارية أبرزها "فولتارين" و"كتافلام" واللذان يختلفان جزئيا في التركيب (16)، والأدوية السابقة كلها تباع عالميا بدون الحاجة إلى وصفة طبية، إلى جانب العديد من مشتقات الأفيون وأشباهها والتي تتخذ أسماء تجارية متعددة مثل "الترامادول" وتُصرف بوصفة طبية في بعض البلدان، أو بدونها في بلدان أخرى.

كانت المسكنات التي تحتوي على مواد أفيونية ضمن الأدوية التي تحتاج إلى وصفة طبية للحصول عليها، حتى التسعينيات حين ظهرت دراسات تُقلِّل من خطر الإدمان المحتمَل من استخدام هذه الأدوية
كانت المسكنات التي تحتوي على مواد أفيونية ضمن الأدوية التي تحتاج إلى وصفة طبية للحصول عليها، حتى التسعينيات حين ظهرت دراسات تُقلِّل من خطر الإدمان المحتمَل من استخدام هذه الأدوية

وتُسمى الأدوية التي يمكن شراؤها من الصيدليات بدون الرجوع للطبيب "*OTC "drugs، وتُعرِّف هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) هذه الأدوية بأنها "الأدوية التي يمكنك شراؤها بدون وصفة طبية، وتكون آمنة وفعالة عند اتباع الإرشادات الموجودة على الملصق وحسب توجيهات أخصائي الرعاية الصحية" (17). إلا أن الشرط اللازم للأمان والفاعلية هو نفسه الذي تتلاعب على أساسه شركات الأدوية حين يضغطون على الهيئات الصحية المختصة لإقرار توفير الدواء بدون وصفة طبية، حيث يقولون إن المريض له الحق في الاختيار وتخفيف ألمه عندما يشعر أنه بحاجة إلى ذلك!

وهو ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية فيما يُعرف "بأزمة الأفيون" بداية من العام 1999، حيث كانت المسكنات التي تحتوي على مواد أفيونية ضمن الأدوية التي تحتاج إلى وصفة طبية للحصول عليها، حتى التسعينيات حين ظهرت دراسات تُقلِّل من خطر الإدمان المحتمَل من استخدام هذه الأدوية، وطالبت حينها مؤسسة الألم الأميركية باحترام حق المريض في الحصول على الدواء الذي يُخفِّف ألمه، وتوسَّع الأطباء في وصفها لمرضاهم، وأصبح بعضها يُباع دون الحاجة إلى وصفة طبيب، فتسابقت شركات الأدوية في ضخّ منتجاتها من المسكنات الأفيونية لإدراك حصتها من الأرباح.

    undefined

النتيجة: أزمة قومية أدّت إلى إعلان ترامب حالة الطوارئ في أغسطس/آب 2017 بسبب حالات الإدمان التي تسبّبت فيها هذه المسكنات، وحالات الوفاة الكبيرة بفعل الجرعات الزائدة منها. وبعد التحقيقات توصَّلوا إلى وقوف شركة "بوردو" (purdue) المُنتِجة لمسكن أوكسيكودون وراء حملات الدعاية والتوصيات بإتاحة المسكنات الأفيونية للمرضى بشكل أكثر حرية، كما ثبت تلقّي مؤسسة الألم الأميركية التي شجعت توفير هذه الأدوية تبرعات كبيرة من شركات الأدوية (18)، وغرمت أيضا شركة "جونسون" العملاقة نصف مليار دولار بسبب مساهمة أدويتها المسكنة في أزمة الأفيون (19).

هذا الدور لشركات الأدوية في التلاعب بسوق الدواء على حساب المرضى وطلبا لمراكمة الربح حوَّل المريض من مستفيد من الرعاية الصحية ومستخدم للدواء لعلاج ألمه إلى مستهلك تحشو شركات الأدوية فمه بالمسكنات جنيا للربح (20)، وحوَّل الدواء من وسيلة للشفاء والتخلُّص من الألم إلى سلعة تُنفِق على ترويجها الشركات مليارات الدولارات، وليس ترويجا للأطباء فقط، وإنما إعلانات موجهة للمرضى أيضا، وعملية الترويج هنا إنما "هي عملية اجتماعية تُوسِّع بمقتضاها شركاتُ الأدوية حدودَ التشخيص، لتُوسِّع سوقها وتُقنع العامة بأن أي مشكلة اجتماعية أو مشكلة شخصية معقَّدة هي عبارة عن مرض، من أجل بيع أدويتها" (21)، ومن الأمثلة الواقعية إعلان دواء "نوفادول" الذي يُعرَض في القنوات المصرية، والذي يخاطب النساء من خلال الحديث عن مشاكلهن الاجتماعية.

في حين نجد إعلانا آخر لدواء له المادة الفعالة نفسها ولكن باسم تجاري مختلف يخاطب الجمهور بلغة التحفيز على النجاح، وتنويع لغة الخطاب هي وسيلة فعالة في الإعلانات عن السلع، والتي أصبحت الأدوية نوعا منها.

بذلك، أصبحت الأدوية التي تُباع بدون وصفة طبية (OTC) تشبه السلع الاستهلاكية اليومية، مثل منتجات الأغذية ومستحضرات التجميل، بمعنى أن المستهلكين يختارون ما يريدون ويشترون المنتجات بحرية، إما من الصيدليات أو حتى من محال التسوق أو من المتاجر الإلكترونية في بعض البلدان. لهذا السبب أصبح من المهم لدى الشركات في حالة هذه الأدوية ليس فقط مراعاة المتطلبات الأساسية المتمثِّلة في فعالية الدواء وسلامته وموثوقيته، بل أيضا الاهتمام بقيمة العلامة التجارية للمنتج وقدراته على تحقيق أعلى المبيعات.

وعليه، فقد بلغت قيمة السوق العالمية للأدوية التي تُباع بدون وصفة طبية 114 مليار دولار أميركي في عام 2017، وشكَّلت البلدان المتقدِّمة 57٪ من المجموع، ويُعَدُّ السوق الأميركي هو الأكبر من حيث الحجم الكُلي وعلى أساس الإنفاق للفرد، والذي تتمتع فيه الشركات بحرية أعلى في التسويق (22).

المسكنات.. سلاح ذو حدين

"بمساعدة ألم الشوكة في قدمي، أستطيع أن أقفز أعلى من أي شخص لديه أقدام سليمة"

(سورين كيركجارد)

رغم تحوُّل المسكنات إلى تجارة تجلب المليارات لشركات الأدوية، تبقى الحقيقة بأنها ساعدت وتساعد وستساعد البشر، فما الذي قد يتمناه أي شخص يُعاني من الألم، أيًّا كان موضعه في جسده، أكثر من أن يتناول حبة صغيرة تُخلِّصه من ألمه في أي وقت؟ لكن يبقى التساؤل المهم: ما الذي يحدث بعد تسكين الألم؟ يُشير عدد من الأبحاث أن المسكنات ليست آمنة بشكل كامل كما قد يتصوَّر البعض، فاستخدامها بشكل مستمر، وفي غير أوقات الحاجة الماسة، ودون حساب صحيح للجرعات، قد يؤدي إلى الكثير من الآثار الجانبية التي لا تُحمد عقباها، والتي قد تصل إلى زيادة فترة الألم نفسه!

فقد كشفت دراسة علمية حديثة أُجريت في جامعة كولورادو بولدر الأميركية أن تناول مسكنات الألم المشتقة من الأفيون، مثل المورفين وغيره من الأدوية، يؤدي إلى تزايد الآلام المزمنة لدى فئران التجارب، حيث يؤدي تناول مسكن المورفين لعدة أيام فقط إلى آلام مزمنة تستمر لعدة أشهر، ويرجع السبب في ذلك إلى أن العلاج بهذه النوعية من المسكنات يؤدي إلى انبعاث مؤشرات الألم من خلايا مناعية معينة في الحبل الشوكي. كما تُشير النتائج إلى أن الإفراط في وصف المسكنات المشتقة من الأفيون مؤخرا ربما يكون سببا في انتشار الآلام المزمنة لدى البشر، لما للمسكنات الأفيونية من تأثير سلبي على الشعور بالألم حتى لو استُخدمت لفترة وجيزة فقط من الوقت كما يذكر القائمون على الدراسة (23).

     undefined

أما عن المسكنات التي يروج استخدامها بدون وصفات طبية في عالمنا العربي وتتعدد أسماؤها التجارية، فإن أعراضها الجانبية تبدأ من التهاب وتقرح جدار المعدة وصولا إلى فشل أعضاء الجسم، فدواء الباراسيتامول (البنادول) من أعراض المبالغة في تناوله نوبات صداع ارتدادية، حيث يزداد عدد نوبات الصداع وقوتها، كما قد تُسبِّب الجرعات الزائدة منه فشلا في وظائف الكبد. أما المسكنات غير الستيرويدية كالديكلوفيناك (فولتارين وكتافلام) فإنها تؤدي إلى أعراض جانبية خطيرة عند إساءة استخدامها، فقد تؤدي إلى أضرار بالغة بالجهاز الهضمي مثل قرحة المعدة، كما تؤثر على وظائف الكلى ما قد يصل إلى فشل كلوي، وتؤدي إلى تغيُّر في مستوى الصفائح الدموية وضغط الدم، وفي بعض الحالات ينتج عنها فشل في عضلة القلب! (24)

تقول الدكتورة مارسيا ميلدروم إنه طالما بقيت الأدوية متوفرة وفي متناول الجميع، وفي الوقت ذاته تُشكِّل حلا وقتيا لمشكلاتهم الصحية، فإن مشكلة التعامل مع الألم والآثار الجانبية التي تُسبِّبها الأدوية لن يتم حلها. فالألم مؤثر قوي على حياة البشر، وحينما يوضعون أمامه ويملكون اختيار أن يعتمدوا على الأدوية التي ستُسبِّب لهم الأذى على المدى البعيد، فإنهم يُفضِّلون الراحة الوقتية، مهملين ما ستتعرّض له أجسادهم باستخدام هذه المسكنات (25).

وحتى يجد البشر حلولا أفضل لمشكلات أجسادهم وأفكارهم، فإن النصائح الطبية الموصية بأن يتم تناول المسكنات فقط عند الحاجة المُلِحَّة، وبأقل كمية ولأقل وقت ممكن، مع الانتباه للمخاطر المتوقَّعة والتفاعل بين الأدوية المختلفة، كما يوصي معهد الجودة والكفاءة في الرعاية الصحية الألماني (26) وغيره من المؤسسات الطبية، ترسم سبيلا ممكنا لتقليل الأضرار قدر المستطاع، وتضعنا أمام مسؤوليتنا تجاه أجسادنا حين نشعر بالألم، فهل الحل هو أن نتناول المسكنات؟

المصدر : الجزيرة