شعار قسم ميدان

اكتب يومياتك كأنك شخص آخر.. تعلّم هذه الخطوات لاتخاذ القرارات بصورة أفضل

ميدان - اكتب يومياتك كأنك شخص آخر.. تعلّم هذه الخطوات لاتخاذ القرارات بصورة أفضل
مقدمة المترجمة

كثيرا ما ينصح المعالجون النفسيون مرضاهم بممارسة الكتابة يوميا، لما يُمكن أن تُقدِّمه من مساعدة في تشخيص مواطن الانحدار المعنوي، ومصادر التأزُّم، إلى جانب ميزتها كمجال للتفريغ النفسي. وللكتابة جوانب إبداعية أيضا، حيث تعتبر كتابة الأحلام عاملا أساسيا في اجتياز فترات الفتور الإبداعي لدى الفنانين من رسامين وكُتّاب. كما أن توقيت الكتابة عامل أساسي في رفع مستوى الإبداع، كما أسلفنا في "اختراع الأرق.. كيف كنا ننام قبل الثورة الصناعية؟"، فالكتابة في فترة الفجر المعترض تكاد تكون طقسا مشترَكا للعديد من الرواة والمحررين والشعراء.

   

لكن ماذا عن الكتابة بأسلوب محدد كنهجٍ لاكتساب الحكمة ورفع مستوى الذكاء العاطفي والقدرة على حل الأزمات؟ يستعرض المقال عددا من الدراسات والتجارب العلميّة التي أثبتت أن للكتابة القدرة على مدّنا بالحكمة، والقدرة على تقبُّل الاختلاف، وإيجاد حلول وسط للمشكلات الاستقطابية.

   

نص التقرير

يُنسب إلى سقراط تبصّر يقول: "إنَّ حياة بلا تحديات هي حياة لا تستحق العيش"، وإنّ "معرفة الذات" هي سبيل الحكمة الحقّة. ولكن هل هناك طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لخوض تأمل ذاتي من هذا النوع؟

  

الاجترارُ العاديّ -عملية تهييج المخاوف التي تحوم حول رأسك- ليس الإجابة، بل من المُرجَّح أنه سيغمرك بالهواجس الشخصية والمشاعر المؤذية. وبالتأكيد، فإن الأبحاث أظهرت أن الأشخاص المُعرَّضين للاجترار يغلب عليهم اتخاذ قرارات ضعيفة تحت وطأة الضغط، كما تكون لديهم احتمالية مرتفعة للإصابة بالاكتئاب.

    undefined

  

بدلا من ذلك، يُشير البحث العلمي إلى أن عليك أن تتبنّى أسلوبا بلاغيا قديما كان يُفضِّله مَن هم أمثال يوليوس قيصر ويُعرف بـ "الآخَريّة" (Illesim)، أو التحدث عن نفسك كشخص آخر (وقد سُكَّ المصطلح عام 1809 على يد الشاعر صمويل تايلر كولردج من الأصل اللاتيني "ille" التي تعني "هو، ذلك"). لنفترض أنني أخوض جدالا مع أحد الأصدقاء، على سبيل المثال، عندها قد أقول لنفسي: "دايفيد شعر بالاستياء لأنَّ…". والفكرة هنا هي أنَّ هذا التغيير الطفيف في المنظور يمكن أن يُجلّي ضبابك الانفعاليّ متيحا لك الرؤية بما يتجاوز تحيزاتك الشخصية.

  

وبالفعل تُظهِر وفرة من الأبحاث أن هذا النوع من تفكير الشخص الثالث يمكن له، مؤقتا، أن يُحسِّن عمليّة اتخاذ القرار. وفي هذه الأثناء، توصّلت ورقة بحثيّة أوليّة من "بساي أركايف" إلى أن الأمر يمكن أن يأتي بفوائد بعيدة المدى على التفكير وتنظيم الانفعالات. ويقول الباحثون إن ذلك كان الدليل الأوّل على أن "الإدراك والعمليّات الوجدانية المرتبِطيْن بالحكمة يُمكن التدرّب عليها في الحياة اليومية، وعلى كيفيّة القيام بها". وهذه النتائج هي بنات أفكار عالم النفس إيجور غروسمان، عالم النفس بجامعة واترلو في كندا، والذي كان عمله في علم نفس الحكمة أحد مصادر الإلهام في كتابي الصادر مؤخرا "الذكاء أو كيف نتخذ قرارات أكثر حكمة؟".

    

يهدف غروسمان إلى بناء توطئة تجريبية لدراسة الحكمة، التي لطالما اعتُبر أنها أكثر ضبابية من أن تناسب الاستقصاء العلمي. وفي واحدة من تجاربه المبكّرة، أكَّد إمكانية قياس التفكّر الحكيم وأن الدرجات التي يحققها المرء، كما في قياس معدّل الذكاء، مهمّة. وتمّ ذلك عندما طلب من المشاركين إجراء مناقشة صريحة لمعضلة سياسية أو شخصية ما، وسجّل بناء عليها عناصر متنوّعة للتفكير لطالما اعتُبرت أساسية لتحصيل الحكمة، ومنها: التواضع الفكري، تقمُّص منظور الطرف الآخر، الاعتراف باللا يقين، وامتلاك القدرة على إيجاد حل وسط. ووجد غروسمان أنَّ نتائج التفكّر الحكيم كانت أفضل بكثير من اختبارات الذكاء في التنبؤ بحُسن الحال العاطفي، والرضا عن العلاقات، وهو ما يدعم الفكرة القائلة إن الحكمة، كما تُحدِّدها هذه الصفات، تُشكِّل مفهوما فريدا يُحدِّد مسالكنا في تحديات الحياة.

      undefined

  

بالعمل مع إيثان كروس في جامعة ميتشيغن في الولايات المتحدة، كان غروسمان يبحث أيضا عن طرق لتحسين هذه النتائج، من خلال عدد من التجارب المدهشة التي تُبرهن على قوة "الغيرية". في سلسلة من التجارب المخبرية، وجد غروسمان ورفيقه أن الناس يميلون لأن يكونوا أكثر تواضعا واستعدادا لإفساح المجال لوجهات نظر أخرى عندما يُطلب إليهم وصف أزماتهم ومشكلاتهم بضمير الغائب.

  

تخيَّل، على سبيل المثال، أنك تتجادل مع شريك حياتك، فَتبَنّي منظور الشخص الثالث قد يساعدك على تمييز وجهة نظره أو تقبُّل حدود فهمك الشخصي. أو تخيَّل أنّك تفكّر في تغيير عملك، فالنظرُ من مسافة قد يساعدك على أن تَزِنَ فوائد ومخاطر هذا التغيير بصورة أكبر حيادية. لكن هذا البحث الآنف يتعلَّق بإجراءات قصيرة المدى فحسب، ما يعني أنه لا يزال غير واضح بعد إذا ما كان يمكن للتفكُّر الحكيم أن يصبح عادة طويلة المدى في ظل الممارسة المنتظمة للآخريّة.

  

لمعرفة ذلك، طلب أحدثُ فريق بحثيّ لغروسمان من قرابة 300 مشارك أن يصفوا وضعا اجتماعيا صعبا، في أثناء قيام عالِمَيْ نفس اثنين مستقلّين بتسجيل نتائجهم في نواحٍ مختلفة من التفكُّر الحكيم (التواضع الفكري، إلخ). وكان على المشاركين لاحقا إبقاء دفتر يوميات معهم لمدّة أسبوعين. في كل يوم، كان عليهم أن يصفوا وضعا مَرّوا به في حينه، مثل خلاف مع أحد الزملاء، أو خبر سيئ ما. طُلب من نصف هؤلاء القيام بذلك باستخدام صوت الشخص الأول (أنا)، في حين شُجِّع البقية على وصف تجاربهم باستخدام صوت الشخص الثالث (هو/هي/ذلك). عند انتهاء الدراسة، قام كل المشاركين بإعادة اختبار التأمل الحكيم. وكانت نتائج غروسمان كما أَمَلَ تماما. ففي حين أن مُشاركي الصوت الأوّل لم يُظهِروا أي تغيُّر في نتائج التفكُّر الحكيم، تحسَّن أولئك الذين لجؤوا إلى "الآخريّة" في التواضع الفكري، وتقمص منظور الطرف الآخر، والقدرة على الخروج بحل وسط.

      

أشارت دراسة أن أولئك الذين كتبوا بصوت الشخص الثالث هم أكثر دقة. وكشفت نظرة متفحّصة عن أن مشاعرهم السلبية، ككل، كانت أكثر انكتاما
أشارت دراسة أن أولئك الذين كتبوا بصوت الشخص الثالث هم أكثر دقة. وكشفت نظرة متفحّصة عن أن مشاعرهم السلبية، ككل، كانت أكثر انكتاما
         

وأشارت مرحلة متقدّمة من الدراسة إلى أن هذه الحكمة المكتشفة حديثا تُرجمت أيضا إلى تنظيم انفعالي واستقرار كبيرين. فبعد انتهائهم من إجراء كتابة اليوميات لمدة أربعة أسابيع، طُلِب من المشاركين التنبؤ (بالكتابة) كيف يمكن لمشاعرهم بالثقة أو الإحباط أو الغضب إزاء شخص مقرب من العائلة أن تتغيّر خلال الشهر التالي، ثمَّ بعد انتهاء مهلة ذلك الشهر، كان عليهم الإفصاح عن طريقة سير الأمور كما حدثت بالفعل.

 

في اتساق مع عمل بحثي آخر حول "التنبؤ الوجداني"، ظهر أن الأشخاص الذين كتبوا بصوت الشخص الأول ذهبوا إلى المبالغة في تقدير مشاعرهم الإيجابية والاستهانة بحدّة مشاعرهم السلبية على مدار شهر كامل. وبالعكس، كان أولئك الذين كتبوا بصوت الشخص الثالث أكثر دقة. وكشفت نظرة متفحّصة عن أن مشاعرهم السلبية، ككل، كانت أكثر انكتاما، وأن ذلك هو السبب وراء كون توقعاتهم المتفائلة أكثر دقّة، حيث يبدو أنَّ التفكّر الأكثر حكمة أتاح لهم إيجاد طرق أفضل للتعامل مع الأمر.

  

وأجد أن تأثيرات المشاعر والعلاقات مذهلة بشكل خاص، بالنظر إلى حقيقة أن "الآخريّة" عادة ما تُنسب للأطفال. فقط فكّروا بشخصية "إلمو" من مسلسل "شارع سمسم" أو "جيمي" المزعج جدا في مسلسل الكوميديا اليومية "ساينفيلد"، حيث يصعب اعتبارها نماذج للتفكير المركَّب. على العكس، فمن الممكن اعتبارها مؤشرا على شخصية نرجسية، أو الضد الصارخ للحكمة الشخصية.

  

  

ففي نهاية المطاف، كان كولردج يعتقد أن المكرَ تورية لغرور المرء، فكروا فقط بنقّاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذين يُشيرون إلى أنه عادة ما يُحيل إلى نفسه بصوت الشخص الثالث. من الواضح أنَّ السياسيين قد يستخدمون الآخريّة لأغراض بلاغية محضة، لكنها، عندما تُطبَّق لغايات التدبّر الحقيقي، تبدو أداة مهمّة لتفكير أكثر حكمة. كما يُشير الباحثون، سيكون مثيرا أن نرى ما إذا كانت فوائد هذا الأمر تسري على أشكال أخرى من اتخاذ القرار إلى جانب المعضلات الأكثر شخصيَّة التي تفحّصتها دراسة غروسمان. وهنالك سبب للاعتقاد بإمكانية الأمر، حيث أظهرت تجارب سابقة، على سبيل المثال، أن الاجترار يؤدي إلى خيارات أسوأ في لعبة "البوكر" (ولهذا السبب يكافح اللاعبون المتمرسون في سبيل تحقيق وضعية نفسية منفصلة ونائية)، كما أن ذلك الوعي وتنظيم الانفعالات الأكبر يمكن أن يرفع الأداء في سوق الأسهم.

  

في هذه الأثناء، لا يزال عمل غروسمان يُثبت أن موضوع الحكمة جدير بدراسة تجريبية دقيقة يُمكن أن تعود بالنفع على الجميع. فمن المعروف صعوبة رفع الذكاء العام من خلال تدريب الدماغ، لكن هذه النتائج تُشير إلى أنَّ التفكير الأكثر حكمة والاتخاذ الأمثل للقرار هي قدرات في متناول الجميع.

————————————————-

هذا المقال مأخوذ عن Aeon ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة