شعار قسم ميدان

البلطجة النسائية في مصر.. ضحايا في الخفاء وجناة في العلن

ميدان - البلطجة النسائية في مصر.. ضحايا في الخفاء وجناة في العلن
اضغط للاستماع

في أحياء القاهرة المتهالكة، تلك التي غفت عنها الرعاية وغفل عن زيارتها الأمن، وفي شوارعها الضيقة التي تتلاصق على ضفتيها البيوت، تدور الحكاية؛ حيث يتصارع الناس والحياة، في تلك الأقبية الضيقة المحرومة من الشمس، على فتات من العيش وظلال من الكفاف، في تلك الطرقات التي لا يسهل عليك -كغريب- أن تدلف إلى دروبها الوعِرة غير المُرحِّبة بالغرباء.

في مساكن الغابة[1]، في ربع المسجلين[2]، وفي حواري الجيزة الضيقة[3]، تسرد لنا ثلاث باحثات تجاربهن عن اقتحام هذه المقابر الحيّة لسبر غور مجتمعاتها العشوائية، وكشف عالمها الخفي العامر بالعداء. فما بين المساكين والمُعدَمين، يتنامى الطرف الأكثر تعبيرا عن وجه الفقر القبيح متمثِّلا في مجتمعات البلطجة، تلك التي تقترن صورتها -عفويا- بفحولة الذكور، ولكنها باتت تتسع كثيرا ليسكنها النساء.

الانتخابات السياسية، المظاهرات، نزاعات الظل بين الأثرياء، وحتى طرد المستأجرين وتسديد ديون الفقراء، طيف واسع من الأعمال التي ينأى أصحابها عن الزجّ بأنفسهم إليها، إما خوفا على سمعتهم وإما لعجزهم عن الإتيان بها، فتقوم بها جماعات البلطجة النسائية، كأي جماعة وظيفية[*] تتقن عملها، لتقوم بالمهمة مقابل أجرها المتفق عليه.

      undefined

وفي دراسة الظاهرة، ثمة أسئلة تبرز في صُلب الأمر أو على هامشه، ومن بين هذه أو تلك يتبادر السؤال: لماذا يتحوّل الناس في شريحة معينة من المجتمع إلى بلطجية دون غيرهم؟ نفهم أن يكون الأشرار في كل طيف وفئة، لكن أن يكون الشرير بلطجيا فإننا نتحدث هنا عن فئة بعينها، فهل للأمر علاقة بتهميش هذه الفئة مجتمعيا؟ وهل يلعب التكيف الاجتماعي -لهذه الشريحة- دورا في ذلك؟ وما طبيعة الجماعات الإجرامية للنساء، وما يميزها عن بلطجة الرجال؟ هل الأمر مُنظّم أم عشوائي كبيئته التي نشأ فيها؟ والسؤال الأهم: هل هم جُناة أم ضحايا، أم أن الإجابة أكثر تعقيدا من كلمة واحدة؟

الجماعة والمجتمع.. تفاعلات وتقاطعات

لم تكن لفظة البلطجة -حين بدأت- ذات أصل عربي، كما أنها لم تُشتقّ من الأصل للتعريف عن معناها الحالي، فقد بدأ تداولها ككلمة تركية مُركّبة من مقطعين "بلط-جي" مشتقة من سلاح البلطة، وكانت ترمز في فترات الخلافة العثمانية للقائمين بخدمات السلطنة خارج نطاق القصر، وقد انتقلت الكلمة -مع غيرها- إلى مصر في حقبة الحكم العثماني، إلا أنه ومع أفول نجم الخلافة بدأت وظيفة البلطجي تنحصر في خدمة الوالي العثماني، ومع تراخي الدولة وغياب سلطتها بدأ البلطجية يعيثون في الأرض فسادا، ومن هنا بدأ الأمر[4].

بداهة، لم تكن الجريمة منقطعة قبل ظهور اصطلاح البلطجة على ممارسيها، غير أن الاستقرار على مسماها هذا أدرجها في البحث الاجتماعي بتعريف يمكن حصره في أنها شكل من أشكال العدوان المرتبط بالحياة الاجتماعية، أو إساءة استعمال السلطة المادية والنفسية بغرض خلق مناخ سلبي لإيقاع الأذى والضرر والخوف المزمن على الضحايا من قِبَل البلطجية والفتوات[5].

من هنا انتشرت الظاهرة، ومع تدني المجتمع اقتصاديا وثقافيا تفاقم الأمر وتوارثته الأجيال، فتشكّلت التجمعات والعصابات الإجرامية بشبكاتها المتعددة. في ضوء ذلك، تعرّف الباحثة "أميرة عبد العظيم"[6] البلطجة النسائية على أنها سلوك مهني منحرف ومنظم تقوم به جماعة من النساء، تنتمي إلى عائلات أو جماعات تحترف مهنة البلطجة، وتُعد البلطجة مهنة مأجورة ذات قيم ومعايير سلوكية مميزة لها، وهي بهذا تندرج تحت بند الجريمة المنظمة بما فيها من تفاعل داخلي بين أعضائها لحفظ استقرار الجماعة ونفوذها.

في هذا السياق، نجد نمطا آخر من التفاعل بين هذه الجماعات من جهة وبين الشرطة من جهة أخرى، فتروي "عبد العظيم"[7] أن حالات الدراسة -التي أجرتها- قد أخبرن أن طبيعة هذا التفاعل تتم من خلال مستويين: أولهما التعاون مع ضباط الشرطة بأن تبلغ زعيمة الجماعة عن مجرمين يفيد القبض عليهم في ترقّي الضابط، في مقابل أن يغضّ هذا الأخير الطرف عن أعمال الجماعة. وثانيهما مع أمناء الشرطة الذين قد يكونون وسطاء بين الضباط والجماعة، أو باعتبارهم عملاء للجماعة ينقلون إليهم الأخبار ويتسترون عن جرائمهم أمام الضباط.

كما تتفاعل الجماعة مع المجتمع بشغل دور الجماعة الوظيفية التي تنوب عن أعضائه بممارسة العنف والترهيب لتحقيق أغراض زبائنهم، سواء أكانت سياسية أو تجارية أو غيرهما، غير أن أحد أخطر أنواع هذه التفاعلات تكمن في تفاعل الجماعة مع الجماعات الإجرامية الأخرى، كجماعات المخدرات التي توفر الدعم اللوجيستي لعضوات الجماعة؛ حيث تسيطر الزعيمة عليهن من خلال إدمانهن المخدرات، بالإضافة إلى جماعات السلاح والسرقة، إلخ.

على هامش المجتمع.. تفاعلات لم تتم

كمفارقة مؤسفة، هذا التفاعل الظاهري بين جماعات البلطجة النسائية والمجتمع قد يبدو نتاجا لعزل سابق قطع الصلة بين تفاعل أفراد هذه الجماعات -قبل تشكّلها- وبين المجتمع، مما أدّى إلى تكوّنها وتشكيل تفاعلات أخرى من نوع جديد. فبدلا من رعاية الحكومة والزبائن الأثرياء لهؤلاء المهمشين مجتمعيا واقتصاديا، تُرِكت هذه الجماعات -حسب وصف "جينو جيرماني"[8]– لتكون جماعات مستبعدة من المنبوذين أو المُهجّرين من الريف، من قاطني الأحياء العشوائية غير الآدمية.

وترى "عبد العظيم"[9]، أن كلًّا من الظروف البيئية والاقتصادية، إلى جانب الظروف التعليمية والاجتماعية، تلعب دورا كبيرا في توجيه النساء إلى سُبُل البلطجة الفردية أو المُنظّمة. فحرمان المرأة من التعليم، إلى جانب تدني مستوى معيشتها وتورّطها في كفالة عائلة من بضعة أنفار، قد ينحو بها إلى سبيل لا يحتاج إلى الكثير من القدرات الذهنية، بالإضافة إلى عائده المادي السريع، كالبلطجة، وهو السبيل الذي توفِّر له الظروف السياسية المهترئة بيئة خصبة للاستمرار.

    undefined

يقودنا هذا الواقع إلى التهميش الذي يُميّز تلك الفئة، سواء كان هذا التهميش من المشاركة السياسية، اللهم إلا استعمالهم لإفسادها، أو تهميشهم من أي ممارسة مجتمعية أو ثقافية. تذكر "عبد العظيم"[10] في هذا السياق نظرية الاستبعاد الاجتماعي التي تؤطّر تلك الظاهرة، والتي بدأ استعمالها في فرنسا للإشارة إلى الأفراد الذين تخطاهم نظام الضمان الاجتماعي. وتعبّر النظرية هنا عن أشكال متنوعة للحرمان من المشاركة في صناعة القرار ومن العملية السياسية برمّتها، ومن الوصول إلى مصادر التوظيف والعمل في المجتمع، وكذا الاندماج في العمليات الثقافية في المجتمع.

هذا الاستبعاد هو ما يرتبط، بصورة أو بأخرى، بالشعور العميق لدى تلك الجماعات بالانسحاب من الالتزام بالقواعد والقوانين المنظمة للمجتمع. وترى "عبد العظيم" أن الاستبعاد الاجتماعي يمكن قياسه من خلال مؤشرات أربعة أساسية، أولها وثانيها مؤشران اقتصاديان يتعلقان إما بانخفاض الدخل العام أو عدم توفر وظيفة أو مصدر للكسب، وثالثها مؤشر سياسي يشير إلى خمول المشاركة السياسية تماما، وآخِرا مؤشر نفسي وجداني يتعلق بافتقاد بيئة تدعم المرء حال الاحتياج إليها.

كما تساهم طبيعة الأحياء السكانية، الاقتصادية والإجرامية، في ترسيخ هذا الاستبعاد والتهميش لقاطنيها الذين سقطوا من شبكة الرعاية والتضامن للدولة، مما يؤدي بهذه الجماعات إلى تهديد وحدة الدولة، وذلك -وفقا لـ "جون هيلز" و"جوليان لوغران"[11]– بسبب سلوكهم مسلكا يظهر فيه عداؤهم الشديد للمجتمع، وهو العداء الذي يستمر ويزداد باطّراد مع استمرار تهميشهم في كل شيء أساسي للعيش الطبيعي، فينخلعون عنه كجماعة منحرفة تتميز بالرفض الجماعي للنظام الذي لا ينتمون إليه ولا يشاركونه قيمه أو يعترفون بها.

اللا معيارية والعنف.. كيف يتم الانسحاب؟

في عام 1938م، أخرج عالم الاجتماع "روبرت ميرتون" تطويرا لنظرية اللا معيارية، أو الأنومي، لـ "دوركايم" تحت عنوان "البناء الاجتماعي واللا معيارية"، واللا معيارية هي الحالة التي تقل فيها قدرة المجتمع على التوجيه الأخلاقي لأفراده، غير أن الاختلاف الرئيسي بين طرحي "ميرتون" و"دوركايم" بدا في تحديد التوقيت الذي تنشأ فيه هذه الحالة داخل المجتمع، ومن ثم كيفية التعامل مع التفسيرات والحلول.

عالم الاجتماع
عالم الاجتماع "روبرت ميرتون" (مواقع التواصل)

فـ "دوركايم" رأى أن اللا معيارية تسود المجتمع في ظرف مفاجئ أو أزمة طارئة، كالكساد الاقتصادي مثلا، في حين رأى "ميرتون" أن الاستجابات المنحرفة تظهر بصورة كبيرة عندما ينهار البناء الثقافي (أهداف المجتمع) والبناء الاجتماعي (المعايير والوسائل المشروعة لتحقيق هذه الأهداف)، مما يُحدِث انفصالا بين القيم والمعايير وبين قدرات الأفراد على التوافق معها، أي إن اللا معيارية، ومن ثم الانحراف والعنف، هي أمور تصيب البناء الاجتماعي للمجتمع ولا تحدث بصورة مفاجئة[12].

ويطرح "ميرتون" خمسة أنماط يتكيّف على أساسها الأفراد مع قيم المجتمع (أهدافه) ومعاييره (وسائله)[13]، متضمّنة أنماط انسحابه منه، وأولهم نمط الامتثال؛ حيث يتقبل فيه الأفراد الأهداف الثقافية والمعايير المجتمعية لتحقيقها، ومثال ذلك: تقبل الأفراد لهدف الحصول على دخل مرتفع وتقبلهم لاستكمال تعليمهم كأسلوب لتحقيق ذلك الهدف، فمتى أتاح المجتمع هذه الوسيلة لأفراده من أجل تحقيق تلك الغاية فإن النمط سيستقر، ومتى اعترف المجتمع بالغاية وأعاق الوسيلة لأيٍّ من أفراده فإن الأفراد سيكونون عُرضة للتكيّف حسب أحد الأنماط الأربعة التالية.

وأول هذه الأنماط هو نمط الابتداع، وفيه يتقبل نسبة كبيرة من الناس أهداف المجتمع، ولكنهم يجدون فرص تحقيق هذه الأهداف موصدة أمامهم؛ لأن توزيعها غير متكافئ، فيرفضون الأساليب المشروعة -حسب ثقافة هذا المجتمع- ويبتدعون أساليب أخرى غيرها. وهم في ذلك على العكس من أهل النمط الثالث، الطقوسية، الذين يتخلون عن الإيمان بأهداف المجتمع نفسها، ولكنهم يستمرون في الالتزام بها بصورة شبه قهرية على الرغم من أنها لا تُحقِّق لهم شيئا يُذكر.

أما عن النمطين الأخيرين، فإننا نجد النمط الرابع، الانسحابية، هو أقل الأنماط شيوعا، وفيه ينسحب المرء من المجتمع شعوريا ويتخلّى عن الأهداف والوسائل على حدٍّ سواء. بينما النمط الخامس التمرد فإنه يختلف عن سابقه بأن الأفراد فيه يدينون أهداف المجتمع الثقافية ووسائله المعيارية في تحقيقها، ويسعون -بدلا من ذلك- إلى تغيير البناء الاجتماعي القائم إلى بناء آخر يضم معايير ثقافية مختلفة للنجاح وفرصا أخرى لتحقيقه، وكما يُعَدُّ هذا المعيار مثلا لتشكُّل المعارضة السياسية والاجتماعية في سعيها لتشكيل واقع جديد، فإنها الأسس ذاتها التي يمكن أن تقود لبداية الجريمة المتمردة.

undefined

   

تذهب نظرية "ميرتون" هنا إلى تفسير الانحراف المجتمعي وفقا للصراع الناتج عن أحد هذه الأنماط، غير أن "أميرة عبد العظيم" تذكر نقدا نسويا مقدما إلى النظرية، عن طريق "إيلين ليونارد"، يتمثّل في رؤيتها لعجز النظرية التفسيري للجريمة عند الجنسين معا؛ وذلك لكون الأهداف الواجبة على الرجال أعقد من تلك الواجبة على النساء، والتي يمكن تحقيقها بصورة أبسط، مما يعني أن درجة الإحباط لدى النساء ستكون أقل، ومن ثم لن يتعرضن للصراعات المؤدية إلى ارتكاب الجريمة.

في المقابل، تتبنّى "أليسون موريس" وجهة نظر معارضة لما قدّمته "ليونارد"؛ إذ ترى أن -من حيث الدافعية نحو الإنجاز- النساء أيضا يكافحن من أجل تحقيق أهداف شبيهة بتلك التي يُناط بها الرجال، بل إنها تكون في حالتهن أشد معاناة وقسوة[14]، وهو ما يمكن ملاحظته جيدا في المجتمعات العشوائية التي تنبت فيها الجماعات الإجرامية؛ إذ تفتقد فيها النساء العائلات لأسرهن -غالبا- معايير النجاح التي يتبناها المجتمع -كالتعليم والمهارات المعرفية- مما يعني أن الوسائل الأكثر انحرافا سترتفع حظوظها أمامهن.

وقد حاول "أقنو" توسيع نظرية الأنومي عند "ميرتون" عن طريق الذهاب إلى ما هو أبعد من التعارض بين الأهداف والوسائل والبحث في مصادر الضغط الاجتماعي، والتي صنّفها في ثلاثة مصادر رئيسية: الأول هو الفشل في تحقيق الأهداف، وهو المفهوم التقليدي للأنومي، بينما الثاني هو تغيّر مثيرات إيجابية، كفقدان شخص عزيز أو وظيفة أو تغيير السكن، أما الثالث فهو مواجهة مثيرات سلبية، كالتعرض للاعتداء الجنسي أو الخبرات الأسرية والمدرسية السيئة.

وعلى هذا، تجد نظرية "أقنو" أن الجريمة هي شكل واحد من أشكال كثيرة للتكيّف مع الضغوط، وأن السلوك المنحرف يعتمد على العديد من الضوابط الداخلية والخارجية التي تؤثر في اختيارات الأفراد واستجاباتهم للضغوط الاجتماعية. وبناء على كل هذا، تقول "عبد العظيم" إن نظرية "أقنو" تحتل "مستوى متقدما من النضج الفكري للنظرية اللا معيارية، وخاصة عندما رأت أن مصادر الضغط متنوعة وليست حكرا على طبقة دون أخرى، وهي تختلف من الذكور إلى الإناث".

الحياة من الداخل.. مجتمع الجريمة المنظمة

undefined

استكمالا لنمط التفسيرات، يرى "ألبرت كوهين"، في نظريته عن الثقافة الفرعية للانحراف[15]، أن أنماط السلوك المنحرف تتحدد وفق مصدرين أساسيين: الموقف الذي يحياه الفرد، والإطار المرجعي الذي يشير إلى درجة التزامه الأخلاقي تجاهه. وبوضع التفسيرات جنبا إلى جنب "يتضح أن هناك جماعة من النساء تواجه صعوبات وإحباطات؛ لشعورهن بالعجز عن تحقيق أهدافهن، نظرا لعدم قدرتهن على استخدام الوسائل المقبولة في المجتمع لتحقيق هذه الأهداف"، ويتزامن ذلك مع تهتّك الإطار الأخلاقي المرجعي؛ نظرا لتفتت الحياة الاجتماعية، ومن ثم التربوية، في هذه المجتمعات.

    

وتُشير "عبد العظيم" إلى أنه مع "وجود توحد بين مجموعة من هؤلاء النسوة اللاتي يواجهن الظروف نفسها تتبلور لديهن "ثقافة فرعية تدعم نمط حياتهن الجديد، وتكون جماعة النساء قادرة على اختيار نمط الاستجابة الذي تريده والذي يتمثّل في احتراف مهنة البلطجة كوسيلة غير مشروعة لكسب الرزق"، فـ "تتوافر لديهن مقومات تدعم استجاباتهن وتتحول إلى سمات سلوكية لدى أفرادها كالخشونة والقسوة والدهاء والعنف وهلم جرا"[16].

وفي وصف التكوين الداخلي لهذه الجماعات، تعرّفها الباحثة المصرية بأنها مجموعة من ست إلى ثماني سيدات، "يتصلن ببعضهن خلال فترة زمنية معينة اتصالا مباشرا شخصيا داخل مكان معين -في منطقة تتسم بالإجرام والعشوائية- يُمثّل مقر الاتفاق والتخطيط لممارسة أعمال البلطجة في مختلف المجالات الاجتماعية داخل المجتمع". وبهذا يمكن تعريف البلطجة على أنها نسق سلوكي ينتج عن تفاعل اجتماعي داخل الجماعة، أو بينها وبين جماعات أخرى.

ونظرا لطبيعة الكيان المغلقة، فإن المعايير المحددة للانتماء للجماعة لا تبدو أكثر سعة منه. فحسب الباحثة، فإن دراستها الميدانية قد أظهرت أن زعيمة الجماعة تُحدِّد شروطا معينة للانضمام، وهي المعرفة السابقة بالعضوة، وأن تكون الأخيرة متعاطية للمواد المخدرة حتى يسهل التحكم بها، بالإضافة إلى كونها مسجلة خطر وتحمل صحيفة سوابق جنائية كدليل على خبرتها في المجال، وألّا يتوفر لها مسكن غير "الخرابة" التي تأويهن بها الزعيمة، مع كون العضوة متمرسة على العنف.

undefined

كما يتكوّن البناء الاجتماعي لجماعة البلطجة النسائية من أدوار ورُتب، أولها -بطبيعة الحال- رتبة زعيمة الجماعة المسؤولة عن التخطيط والاتفاق مع الزبائن، أو التنسيق مع الجماعات الأخرى، ودفع الكفالات للعضوات في حال سجنهن، أو التعهد بإيصال النقود والمخدرات لهن في محبسهن. ثم تأتي مساعدتها، أو ما يُصطلح عليها بـ "سنجة"، وهي متخصصة في الجروح العميقة، ثم "بشلة" الماهرة في تشويه الوجه، و"غزالة" -نسبة للمطواة قرن الغزال- وتخصصها في الجروح السطحية، ثم تأتي "العضاضة" وعضوة "رمي البلاء" بإساءة السمعة أو تلفيق المحاضر في ذيل الترتيب قبل عضوتي "كسر العظام" و"الردح والشرشحة"، ليكتمل البناء.

وعن المعايير الجماعية داخل الجماعة، تذكر "عبد العظيم" أن ثمة قواعد تُحدِّد أنماط السلوك المرغوب فيه وغير المرغوب فيه داخل الجماعة، تتكون من خلال الخبرة الجماعية للجماعة ومن خلال التفاعل الاجتماعي بينها وبين الجماعات الأخرى، ويمكن اختصار تلك المعايير في العمل بأمانة وإتقان، وطاعة زعيمة الجماعة، بالإضافة إلى الامتناع التام عن ممارسة أعمال البلطجة للصالح الخاص دون معرفة زعيمة الجماعة بذلك، وألّا يكون التعامل مع الزبون إلا من خلال تلك الأخيرة، وهو ما يتبعه التكتم التام على أسرار المنظومة حتى لا تبطش بها الشرطة، كما تتحدد مكانة العضوات حسب أدائها لدورها دون إحداث مشكلات معهم.

وتتفاوت أساليب الثواب والعقاب في الجماعة، غير أنها أيضا يمكن إجمالها في مكافأة العضوة الملتزمة بجرعة مخدرة زائدة عن حصتها، بينما تُعاقب المخالفة بحرمانها من حصتها أو سكب ماء النار على جسدها، أو ربما ببيع أحد أطفالها دون علمها. وتذكر الباحثة أن العضوات يرين في مهنتهن -رغم هذا- رسالة مجتمعية تسترد حقوق البسطاء ومهنة راقية تساند الأغنياء والبهوات الكبار، مما يعني أن الكثير منهن يستمتعن بممارستها وأن الشفقة لا تعرف لهن خلالها سبيلا، بل إن إحدى العضوات تقول بمنتهى البساطة: "اللي يصعب عليك يفقرك"، فلا مكان للرحمة في سوق البلطجة.

وعند التفرقة بين الرجل والمرأة في عالم البلطجة، فإننا نجد السمة المميزة، على لسان إحدى زعيمات تلك الجماعات، تتبلور في مهارة إصابة الضحية دون التورط في إيذائها بصورة فادحة: "حاكم البلطجة أصلها قرصة ودن والرجالة مش فاهمة كده"[17]، مما يُبرز نوعا أعلى من "الذكاء الإجرامي" يساعد -كثيرا- في الحفاظ على استمرارية الجماعة وحفظ مواردها البشرية بعيدا عن القضبان.

بقي القول إنه لا يكاد يخلو بحث عن الإجرام والجريمة من الحديث عن الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية -كما سبق- وأثرها في تحويل البشر إلى مجرمين عُتاة لا يعرفون الشفقة ولا تستقيم إنسانيتهم على معايير البشر الأسوياء. فدعونا نتخيل امرأة تنشأ في بيئة عشوائية متهتكة، داخل أسرة مفككة لا تجد قوت يومها، ثم هي بعد ذلك لا تجد مفرّا من العنف الذي يُمارس ضدها من أب أو أخ أو حتى من المجتمع، في بيئة تستحسن ثقافتها هذا النوع من العنف، لتجد نفسها بعدها معدمة المهارات والموارد في الوقت ذاته، ثم خلّوا بيننا وبين السؤال: هل يمكن لامرأة كتلك أن تكون مجرمة بمفردها؟

فعلى الرغم من كل التفسيرات الاجتماعية والنفسية لماهية الإجرام وطبيعة المجرمين، فإنها تبقى في النهاية شروحات للظاهرة لا تبريرا لها، مما يعني أن الإجرام سيبقى مرفوضا مهما كانت صبغته ودوافعه، خاصة أن الكثيرين أيضا ينجون من تكالب هذه الظروف ويحافظون على طهارتهم من إيذاء الغير، لكن هل يمكننا الإشارة إلى الجُناة الظاهرين دون إدراك جريمة الجناة الخافيين؟ وهل يمكننا إعفاء المجرم لكونه ضحية دون النظر إلى ضحاياه الذين لم يكونوا -أبدا- مجرمين؟

——————————————————————–

الهوامش

[*]: الجماعة الوظيفية: هي كل فئة بشرية قليلة يوكِل إليها المجتمع وظائف شتى يرى أن أعضاءه لا يقدرون على تحمّلها لأسباب قد تخرم المروءة.

المصدر : الجزيرة