شعار قسم ميدان

بين "نوح" و"أم".. كيف نفهم أفلام أرونوفسكي؟

ميدان - أرنوفسكي

في أواخر التسعينيات، كانت الفترة التي تشكّلت فيها التجارب الأولى لمخرجين قادوا سينما هوليوود بعد ذلك، وباختلافِ تجاربهم، وأنواع السينما والأفلام التي يخرجونها، وحتى تجارب الإنتاج التي خاضوها في مشاريعهم الأولى، فقد كان يجمعهم -إلى جانب التقارب الزمني في خروج أفلامهم البِكر إلى النور- لمحات من البكارة الواضحة في رؤيتهم. ليتعرف العالم في خلال 3 أعوام على بول توماس أندرسون (في "الثمانية الصعبة" (Hard Eight) ثم "ليالٍ عبثية" (Boogie Nights) خلال عامين متتاليين)، نسختا "بوتل روكيت" (Bottle Rocket) القصيرة ثم الطويلة اللتان افتتح بهما ويس أندرسون مسيرته، الشاب الإنجليزي الذي صنع فيلما مميزا بثمانية آلاف دولار فقط(1)، وأخيرا، وفي نفس سنة "فولوينغ" (Following) لنولان وبنفس تجربة الإنتاج والصورة الأبيض والأسود من أجل تقليل الكُلفة، أخرج دارين أرونوفسكي فيلمه الأول "باي" (Pi) عام 1998، لينضم إلى الثلاثة الآخرين ويصبحوا -كل في مساره- ضمن صفوة مخرجي هوليوود خلال العقدين التاليين.
 
ومثل "نولان" أيضا أتيحت لـ "أرونوفسكي" الفرصة ليخرج فيلمه الثاني بعدها بعامين، بأضعاف ميزانية فيلمه الأول، "مرثية حلم" (Requiem for a Dream) أتى ليؤكّد على المكانة المحتملة لمخرجه، قبل أن يغيب 6 سنوات ويخرج فيلمه الثالث بشكل مغاير تماما، ثم ينتقل في تجربتين ينسخان بعضهما بين حلبة مصارعة ومسرح لرقص الباليه، منتقلا منهما لآلاف السنين إلى الوراء من أجل سرد القصة التوراتية الشهيرة عن أحد أنبياء الله، وأخيرا يُعرض فيلمه الأحدث "أم" (Mother) في دور السينما هذا الأسبوع، في إعادة إنتاج لفيلم ستيناتي شهير، وفي كل هذا كانت أفلام "أرونوفسكي" السبعة مهمومة بأشياء متقاربة وتتشابه فيما بينها في الأساليب الفنية، وفي هذا التقرير نتتبع ذلك.
 

الهوس الذي يقود إلى الفناء

من المستحيل ربما التعامل مع العالم السينمائي لأرونوفسكي دون اللجوء إلى بعض الكلمات المُفتاحية، "الهوس" بالتأكيد هي أول كلمة، الخلود كذلك محتملة جدا، وفي خمسة من الأفلام السبعة يكون "الهوس بالخلود" هو الثيمة الرئيسة الحاكمة للفيلم، ثم -وكإكمال للنصف الآخر من الهوس- هناك كلمات أخرى مثل"السقوط" و"الجنون" و"الفناء"، والرحلة الواصلة إلى الشخصيات بين تلك الكلمات هي جوهر كل شيء، ففي أفلام "أرونوفسكي" تكون الشخصية هي المركز الذي تتمحور حوله الحكاية، لا نتابع الحبكة ولا الحدث، لا التواءات غير متوقعة أو مفاجآت تقلب الأمور، بقدر ما تكون "رحلة الشخصية" من نقطة إلى نقيضتها هي روح كل عمل.
 
منذ الفيلم الأول "باي" (PI) يُدرك "أرونوفسكي" كل ما يشغله والذي سيتكرر في عوالمه بعد ذلك، ترتكز شخصيته الرئيسة على عنصري "الجنون والعبقرية" الشهيرين، ولديه بالطبع "هوس" ما، وهوسه هو اعتقاده أن هناك معادلة رقمية ما سيحل من خلالها معضلة الوجود، سواء في الزمن أو المكان، سيصل إلى وسيلة ما تمنح "الخلود"، وتلك القصة التي قدمت بأكثر أشكالها مباشرة هي التي ستتكرر مرارا بعد ذلك في كل الأفلام.
 
شخصيات "مرثية حلم" الأربع لديهم "هوسهم" الخاص، ليست المخدرات هنا هي الحكاية، بقدر ما يكون المركز هو السعي وراء أحلامهم التي يحمل الفيلم اسمها، ومن خلال هذا السعي (كأن تكون العقاقير التي تأخذها الأم هي الوسيلة التي تحاول من خلالها تقليل وزنها للظهور على التلفزيون كوسيلتها الخاصة للـ"خلود") هو نفسه سبب السقوط/الدمار (أن تدمن/تُهَلْوَس/يتسبب ذلك في فنائها). ورغم عدم اكتمال تجربة "النافورة" (The Fountain) في 2006، حتى مع استغراق "أرونوفسكي" 6 سنوات لصناعته، فإن الجوهر الرئيس للفيلم بقي متشابها جدا (وتحديدا مع "باي" (PI)) حيث مرة أخرى هناك عالم يبحث عن عقار ما للحفاظ على حياة زوجته، من خلال 3 حكايات عن الخلود/الهوس/الحب.
 

بين حلبة المصارعة ومسرح الباليه
 أرونوفسكي وبطلة فيلم بلاك سوان (آي أم دي بي)
 أرونوفسكي وبطلة فيلم بلاك سوان (آي أم دي بي)

 
"في لحظة ما، قبل صناعة "المصارع" (The Wrestler)، كان هو و"بلاك سوان" (Black Swan) فيلما واحدا عن العلاقة بين مصارع وراقصة باليه، وحين بدأ العمل في التطور والتشكّل اكتشفت أن عالمَيْ المصارعة والباليه أكبر من احتوائهما في فيلم واحد، فقررت الفصل بينهما، لذلك حلمي أن بعض دور العرض يمكنها مستقبلا أن تعرض الفيلمين كجزئين متتابعين" دارين أرونوفسكي – مقابلة مع (MTV– 2010)
 
بعد الاستقبال المتوسط لـ "النافورة" (The Fountain) وصل "أرونوفسكي" إلى ما يعتبره الكثير من النقاد "قمة نضجه الفني"(2) مع فيلم "المصارع" (The Wrestler 2008) ثم صورته في المرآة "بلاك سوان" (Black Swan 2010)، الفيلمان متشابهان جدا في كل معطياتهما، هناك مصارع وراقصة باليه، كل منهما لا يكتمل بشكل حقيقي إلا بداخل العالم الذي يعرفه: حلبة المصارعة ومسرح الرقص، مرة أخرى تخوض شخصيات "أرونوفسكي" رحلتها وهوسها الخاص بما تفعله، الهوس الذي يقود "نينا" إلى الجنون والتخيُّلات، والهوس الذي يجعل "راندي راي روبنسون" يعود إلى القتال بقلب مُعتل، مع ختامين يبدوان كأنهما أصلا وصورة، حين يصل بطل/بطلة "أرونوفسكي" إلى الفناء الكامل لحظة الخلود الكامل.
 
يقول "أرونوفسكي" إن ما أثاره في الفكرة بهذا الشكل هو "إيجاده ذلك الوصل بين العالمين، وهو تشابه غريب لدرجة مضحكة، لأن المصارعة يعتبرها البعض أقل الفنون شأنا -إذا سُميت فنا من الأساس- بينما الباليه هو أعلاهما منزلة على الإطلاق، ولكن المدهش بالنسبة لي هو مقدار التشابه في العالمين، وأن شخوصهما يفعلون أشياء مدهشة بأجسادهم ليعبروا عن أنفسهم"(3)، ومن خلال ذلك يتكامل الفيلمان ويحملان الهموم الكبرى لمخرجهما.
 

ولم يكن من الغريب أن مخرجا كـ "أرونوفسكي" يقرر أن يتصدى لملحمة إنتاج ضخمة عن النبي "نوح"، في الفيلم الذي حمل نفس الاسم عام 2014، فبعيدا عن البُعد المقدس في الحكاية، ووجود الإله كدافع لرحلة إنقاذ البشرية، وهما عنصران يُحيدهما "أرونوفسكي" للدرجة التي اعتبره فيها البعض أقل الأفلام المقتبسة من الكتاب المقدس تأثرا بالبعد الديني/الألوهي في الحكاية. ومع تجريد "القداسة/الألوهية" سنجد أن الفيلم يتشابه كثيرا مع فيلمه الأول "باي" (PI) في الشخص الذي يحاول إيجاد نجاة وحل لمعضلة الوجود لإنقاذ البشرية، ونتيجة لذلك يعاني، سواء في هوسه بالسفينة والطوفان القادم، أو في قدرته على التعامل مع من حوله، ولهذا السبب -وعلى الرغم من عدم نجاح الفيلم(4)(5)– فإنه ظل منتميا إلى عالم مخرجه، وهو العالم الذي توجد معطياته أيضا في فيلم "طفل روزماري" (Rosemary’s Baby 1968) لرومان بولانسكي، والذي يُعيد "أرونوفسكي" صياغته في فيلمه الأحدث "أم" (Mother!).
 

لغة وأسلوب وهواجس

وبعيدا عن الثيمة الحاضرة دوما والمحكومة بالشخصية وهوسها، فإن عالم "أرونوفسكي" يتشابه أيضا في تكرار بعض التفاصيل والقصص الفرعية، من ضمنها -على المستوى السردي- حكايات البنوة والعلاقة المرتبكة (المُدَمرة أحيانا) بين الآباء/الأمهات وأبنائهم، يمكن تتبع ذلك منذ "مرثية حلم" والتناحر الحاد بين الأم "سارة" والابن "هاري"، وأن جانبا من هواجسها نحو كل شيء يخص التلفزيون والتحقق مرتبط بحضوره معها واحتمالية شعورهما المتبادل بالفخر ببعضهما. هذا التناحر يتكرر بصورة أكثر حِدَّة في العلاقة بين المصارع وابنته في "المصارع" (The Wrestler)، ومحاولة الإحياء العاطفية جدا لعلاقتهما "ورحلت، تركتك، وأنتِ لم تفعلي أي شيء خاطئ" والتي تؤدي هي الأخرى (بعد فشلها) إلى فنائه الأخير، قبل أن تنعكس الصورة في "بلاك سوان" (Black Swan) وتصبح الأم شبحا يتربص بالابنة بحثا عن مزيد من الكمال، تنعكس الطاقة (الطرف المأذي/المؤذي) ولكن مع ذلك يظل هذا التناحر هو السبب في الفناء! حتى في "نوح" يركّز الرجل تماما على علاقته بأبنائه وطريقة سيرها، وبالطبع سيحدث مع فيلم جديد يحمل اسم "أم"!

كذلك فإن شخصيات "أرونوفسكي" تبحث عن حل ما لإنقاذ البشرية ("باي" (Pi) -"النافورة" (The Fountain) – "نوح" (Noah))، أو تتخيل نفسها دوما في عالم موازٍ هو الملاذ الأخير من واقع شديد القسوة يمرون به (مشاهد الفتاة ذات الفستان الأحمر أمام البحر الأيقونية جدا في "مرثية حلم" (Requiem for a Dream) ثم الحيوات الموازية في "النافورة" (The Fountain) ثم استخدام تخيلات "روبنسون" الصوتية و"نينا" البصرية في "المصارع" (The Wrestler) و"بلاك سوان" (Black Swan)).
  

 أرونوفسكي وفيلم مرثية حلم (مواقع التواصل)
 أرونوفسكي وفيلم مرثية حلم (مواقع التواصل)

 
فنيا، من ناحية شكلية، هناك بصمات مميزة ومناسبة جدا للأفلام تتكرر في أفلام "أرونوفسكي"، أولها هو طريقة استخدام الكاميرا كعين للبطل، في كل فيلم من الأفلام الستة (وعلى الأغلب ستتكرر في السابع) هناك لقطة طويلة تتابع بطل الفيلم في ممشى أو ممر، تلتقط الصورة من عينيه، تأكيدا ربما على مركزية الشخصية وعن أن كل شيء من عينيها، يستخدم "أرونوفسكي" الكاميرا المحمولة، المتوترة في الكثير من الأحيان، ويستخدم اهتزازاتها العنيفة في بعض اللحظات لصنع المزيد من التشوش والارتباط في توحد المشاهد مع البطل.
 
المونتاج الحاد هو أيضا بصمة لأرونوفسكي، ولكن النقطة الأوسع في ذلك الجانب لها علاقة باستخدام شريط الصوت، فشكل التقطيع الذي استخدمه مثلا في "مرثية حلم" (الصوت الحاد المتتابع لأخذ جرعة مخدرات وتقطيعه على صور سريعة للخطوات) استُنْسِخ بعد ذلك عشرات المرات في أعمال أخرى، وكانت مركزيته في الحقيقة هي "الصوت" أكثر من قطعات الصورة السريعة. وتلك الحدة الصوتية هي نفسها ما يستخدمها في أول أعماله "باي" (Pi) ويجعلنا نشعر بصداع/جنون ماكسمليان عن طريق الأزيز العنيف الذي نسمعه. أو يستخدم الصوت بشكل مختلف في "المصارع" (The Wrestler) حين نسمع أصوات الحلبة في رأس راندي راي روبنسون وهو يبيع في السوبر ماركت، فيترك أثرا لا يبارحنا عن أن هذا هو فردوسه المفقود، "المكان الذي ينتمي إليه" كما يقول في مشهد الختام.
 
لتكون نتيجة كل هذا عالما سينمائيا متصلا جدا يخص "أرونوفسكي"، بعض أفلامه عظيمة، والبعض الآخر مختلف عليه، ولكن المؤكد أنها موصولة ببعضها عن طريق ثيمات وهموم واحدة، وأشكال فنية متكررة في الأفلام الستة، وبالتأكيد سينضم "أم" (Mother) إليها، نظرا لما نعرفه عن القصة وعن إخلاص دارين أرونوفسكي لعالمه.

المصدر : الجزيرة