شعار قسم ميدان

قصة المدارس الإسلامية.. مشاريع الأيوبيين

ميدان - جامع الأزهر في القاهرة
"لم يُعمّر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة، ولا أحفل بناءً، يُخيَّل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته".

(الرحالة الأندلسي ابن جبير البلنسي في وصفه للمدرسة الصلاحية بالقاهرة)

 

لم يمض على افتتاح المستنصرية في بغداد عشر سنوات حتى فُتحت بمصر أول مدرسة للمذاهب الأربعة سنة (641هـ/1243م) وهي المدرسة الصالحية التي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة، وهو كما يقول المقريزي "أول من عمل بديار مصر دروسًا أربعة في مكان.. ورتّب فيها دروسًا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة"[1] في ذلك التاريخ، فكان التأثير العباسي الأخير في هندسة المدرسة، ثم في تطور المناهج وتنوعها وتصاقبها في مكان واحد هو الحدث الأبرز في تطور نظام (المدارس/الكليات/الجامعات) المشرقية في عالم العصر الوسيط في القرن السابع الهجري، ولدينا عشرات الأمثلة التي تؤكد أن نمط المدارس حتى العصر العثماني سار على هدي من نظام المدرسة المستنصرية.

 

في مصر ظل لمسجد عمرو بن العاص الذي بناه الصحابي الجليل سنة (21هـ/640م) دوره التعليمي حتى ذلك العصر، ولطالما حرصت الأسر والسلالات الحاكمة التي توالت على البلاد بالتعهد بهذا الجامع الكبير دينيًا وتربويًا وتعليميًا، ففي عصر الفاطميين حاولوا إقامة جامع آخر ينافس جامع عمرو في نشاطه التعليمي الشيعي هو الجامع الأزهر، وعندما تولى صلاح الدين بن أيوب قام بإصلاح الجامع وترميمه وإعادة الحلقات العلمية إليه، مع تجميد نشاط الجامع الأزهر وإغلاقه باعتباره مركز التشيع في مصر حينها، وظل إغلاق الأزهر مائة عام كاملة حتى أعاد افتتاحه السلطان المملوكي ركن الدين بيبرس سنة 665هـ[2].

 

مسجد وجامعة الأزهر في مصر (مواقع التواصل)
مسجد وجامعة الأزهر في مصر (مواقع التواصل)

 

مشروع الأيوبيين العلمي

قام مشروع صلاح الدين الأيوبي على خطين متوازيين، الجانب العسكري منه كان لمجابهة القوى الصليبية في الشام، والجانب الثقافي منه كان نشر المذهب السني من خلال الاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس، وكان لذلك أثر بالغ في مناهضة العقائد الإسماعيلية خاصة، وفي هذا يذكر المقريزي "لما انقرضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، أبطل مذاهب الشيعة من ديار مصر، وأقام بها مذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام مالك، واقتدى بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالها عدة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمدينة مصر"[3].

 

ويتضح مما أورده المقريزي تأثر الأيوبيين بالسلاجقة في الإقبال على تشييد المدارس لنشر المذهب السني، ويبدو أن انتشار المذاهب النظامية أواخر القرن الخامس الهجري كان قد بدأ يأتي بثماره في مع منتصف القرن السادس الهجري الأمر الذي استثمره العادل نور الدين محمود والناصر صلاح الدين الأيوبي.

 

وبلغت عدد (المدارس/الكليات) العلمية في العصر الأيوبي في الفسطاط والقاهرة 22 مدرسة علمية، فضلاً عن مدرستين إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية بالفيوم، ويصف الرحالة ابن بطوطة الذي زار مصر في عصر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون النهضة العلمية في مصر قائلاً "وأما المدارس بمصر فلا يُحيط أحد بحصرها لكثرتها"[4].

 

undefined

 

وكانت أول مدرسة أنشأها صلاح الدين قبل وفاة الخليفة الفاطمي الأخير العاضد بعام واحد فقط، كانت المدرسة الناصرية عام (566هـ/1170م)، خدمة للمذهب الشافعي، وكانت تقع بجوار مشهد الإمام الشافعي بالقرافة، وقد درّس في هذه المدرسة عدد من كبار علماء ذلك العصر مثل التبريزي وسيف الدين الأسدي وكمال الدين أحمد بن شيخ الشيوخ وجمال الدين الأصفهاني، وبلغ راتب بعض هؤلاء العلماء 40 دينارًا ذهبيًا كل شهر.

 

وأنشأ صلاح الدين الأيوبي في نفس العام مدرسة للفقهاء المالكية أُطلق عليها المدرسة القمحية بجوار جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، وسُميت بالقمحية نسبة إلى ما كان يُرسل من القمح إلى فقهائها من البلدة التي كانت وقفًا عليها في الفيوم، ومن أكابر فقهاء المالكية الذين درّسوا فيها العلامة ابن خلدون حين استقر به المقام في نهاية عمره بمصر، يقول ابن خلدون حين جلس للتدريس فيها سنة (786هـ/1385م) "وحضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويهًا بذكري، وعناية من السلطان، ومنهم بجانبي"[5].

 

ومن أعظم وأهم المدراس التي أنشأها الناصر صلاح الدين في مصر، المدرسة الصلاحية بجوار قبة الإمام الشافعي سنة (572هـ/1176م)، فقد وصفها السيوطي بأنها "تاج المدارس، وهي أعظم مدارس الدنيا على الإطلاق"[6]، وقد زار الرحّالة الأندلسي ابن جبير البلنسي حين نزل مصر سنة (578هـ/1182م) هذه المدرسة، وأعُجب بعمرانها ونظام التدريس بها قائلاً "لم يُعمّر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة، ولا أحفل بناءً، يُخيَّل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته، بإزائها الحمّام إلى غير ذلك من مرافقها، والبناء فيها حتى الساعة والنفقة عليها لا تُحصى"[7].

 

مدّ القاضي الفاضل هذه المدرسة بأعظم المكتبات حينها، مكتبة الفاطميين
مدّ القاضي الفاضل هذه المدرسة بأعظم المكتبات حينها، مكتبة الفاطميين "دار الحكمة"، لذا صارت المدرسة الفاضلية بانضمام هذه المكتبة العظمى إليها "أعظم مدارس القاهرة وأجلّها" (مواقع التواصل)

 

ولم يقف الأمر عند صلاح الدين فقط، فقد أنشأ وزيره القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني المدرسة الفاضلية في وسط القاهرة، وكان افتتاحها في الأول من محرم سنة (580هـ/1184م)، وكانت لتدريس المذهبين الشافعي والمالكي، وخُصصت إحدى قاعاتها لقراءة القرآن الكريم وتعليم علم القراءات، ودرّس بها إمام القراءات الأشهر أبي محمد القاسم الشاطبي (ت 596هـ/1199م)، وقد مدّ القاضي الفاضل هذه المدرسة بأعظم المكتبات حينها، مكتبة الفاطميين "دار الحكمة"، التي كانت من أعظم مكتبات الحواضر الإسلامية في العصر الوسيط، لذا صارت المدرسة الفاضلية بانضمام هذه المكتبة العظمى إليها "أعظم مدارس القاهرة وأجلّها"[8] كما يصف العلامة المقريزي.

 

وقلما جاء سلطان من سلاطين الأيوبيين في مصر إلا وشرع في إنشاء مدرسة تحمل اسمه، فكما دشّن السلطان صلاح الدين مشروعًا ثقافيًا عملاقًا بالتوسع في إنشاء المدارس السنية في مصر والشام، فقد انتهى العصر الأيوبي بإنشاء السلطان الصالح نجم الدين أيوب آخر سلاطين الأيوبيين في مصر مدرسة حملت اسمه "المدرسة النجمية الصالحية"، أقامها بُخط بين القصرين مكان قصر الفاطميين الشرقي بشارع المعز الآن، وشرع في إنشائها سنة (639هـ/1241م)، مستوحيًا فكرتها من المدرسة المستنصرية ببغداد، حيث وقفها على المذاهب الأربعة، وتأتي أهمية هذه المدرسة أنها أتاحت الفرصة للحنابلة كي يُسهموا بجهودهم في حركة الإحياء السني في مصر، ذلك أنهم حتى تاريخ إنشاء هذه المدرسة كانوا الفئة الوحيدة من بين أهل السنة الذين لم يهتم الأيوبيون الأولون بإنشاء مدراس لها، ويبدو أن السبب وراء ذلك كان يتمثل في أن الحنابلة كانوا قلة في مصر[9].

 

وتشير حركة إنشاء المدارس بمصر الأيوبية إلى الدور الذي لعبته تلك المؤسسات في مواجهة ذلك الخطر من خلال ما أوضحته لنا المصادر التاريخية عن الآثار العلمية لهذه المؤسسات، وذلك عن طريقين أحدهما وهو مساهمتها في الاستفادة من العناصر السنية من المصريين الذين عاشوا في العصر الفاطمي، وأما الثاني فهو مساهمتها في فك العزلة الثقافية التي ضربها الفاطميون على المصريين في عهدهم.

 

لقد كانت الأوقاف تحدد للطلبة المناهج التي كان عليهم أن يدرسوها، وأغلبها سكت عن بيان هذه المناهج بصورة تفصيلية، وكانت رغبة المدرس وأسلوبه هو المعيار في هذا الأمر
لقد كانت الأوقاف تحدد للطلبة المناهج التي كان عليهم أن يدرسوها، وأغلبها سكت عن بيان هذه المناهج بصورة تفصيلية، وكانت رغبة المدرس وأسلوبه هو المعيار في هذا الأمر
 

والحق أن الأيوبيين استفادوا من العناصر غير المصرية القادمة من العراق والشام لإثراء التدريس في هذه المدارس، فمن العراق جاء أولاد صدر الدين بن حموية وكانوا من بيت رياسة وعلم ولهم عند بني أيوب حرمة وافرة وهم من أئمة المدرسين بالمدارس الأيوبية المختلفة، ومثله العلامة العز بن عبد السلام الذي القادم من دمشق، فقد تلقاه السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكرّمه وولاه التدريس في المدرسة الصالحية.

 

الحق أن مدارس مصر في العصر الأيوبي كانت قد أسهمت وبشكل واضح وملموس في إحياء علوم أهل السنة من خلال ما وفرته من تهيئة الجو المناسب للمدرسين والطلبة على حد سواء

وقد كانت الأوقاف تحدد للطلبة المناهج التي كان عليهم أن يدرسوها، وأغلبها سكت عن بيان هذه المناهج بصورة تفصيلية، وكانت رغبة المدرس وأسلوبه هو المعيار في هذا الأمر، فقد ذكر أن ظافر بن الحسين الأزدي مدرس المدرسة القمحية التي خُصصت للمالكية كان يدرس في أول النهار ثم يجيء بعد الظهر للمناظرة إلى العصر، ويأخذ درسًا بعد العصر والمناظرة بعد المغرب[10].

 

أما الشاطبي فقد حكى ابن الجزري عنه في طبقاته "أنه كان يصلي الصبح في المدرسة الفاضلية، ثم يجلس للإقراء فكان الناس يتسابقون في السرى إليه ليلاً، وكان إذا أقعد لا يزيد على قوله: من جاء أولاً فليقرأ ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق[11].

 

والحق أن مدارس مصر في العصر الأيوبي كانت قد أسهمت وبشكل واضح وملموس في إحياء علوم أهل السنة من خلال ما وفرته من تهيئة الجو المناسب للمدرسين والطلبة على حد سواء بقصد الوصول إلى ذلك الغرض، فقد روي عن الإمام المنذري المحدث الشهير ومدرس المدرسة الكاملية بالقاهرة أن ولدا له توفي فصلى عليه الشيخ داخل المدرسة الكاملية، وكان لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة، ولم يخرج في جنازة ولده[12].

 

ومعنى ذلك أن المدارس في ذلك العصر كادت تبلغ حد الخوانق التي خُصصت للصوفية، من ناحية انعزال بعض المدرسين بها بقصد التدريس والتأليف والتصنيف، ومعنى ذلك أنها أصبحت المركز الأول للإشعاع الفكري لأهل السنة[13].

 

كان الطالب يتردد طويلاً قبل أن ينقل نفسه من مجلس التعلم إلى مجلس التعليم، وكان مجلس التعليم يرهب بسبب الأسئلة الكثيرة التي يمطرها الطالب على المدرّسين
كان الطالب يتردد طويلاً قبل أن ينقل نفسه من مجلس التعلم إلى مجلس التعليم، وكان مجلس التعليم يرهب بسبب الأسئلة الكثيرة التي يمطرها الطالب على المدرّسين

 

الشهادة العلمية: الإجازة

إن المتعلمين كانوا يحصلون على "الإجازة"، وتعني في اللغة العربية الإذن والتسويغ، وقد بدأ هذا المصطلح عند علماء الحديث عندما كان يُجيز أحد الرواة لآخر أن يروي الحديث عنه، ثم انتقل المصطلح إلى كافّة العلوم، أما علاقة هذا المصطلح بالمعلمين فتتمثل في أن الإجازة أصبحت أحد الشروط الواجب توافرها فيمن يرغبُ في التدريس في الحلقات العلمية بالمساجد، فقد كان الطالب يتردد طويلاً قبل أن ينقل نفسه من مجلس التعلم إلى مجلس التعليم، وكان مجلس التعليم يرهب بسبب الأسئلة الكثيرة التي يمطرها الطالب على المدرّسين وبخاصّة على أولئك الذين هم حديثو عهد بهذه المنزلة.

 

وقد كانت هناك عدة أنواع للإجازة، منها أن يعهد العالم قبل وفاته إلى أكثر تلاميذه علمًا بأن يتولى التدريس مكانه في الحلقة ومن أمثلة هذا النوع من الإجازات أنه "لما مرض الشافعي مرضه الذي مات فيه جاء محمد بن عبد الحكم يُنازع البويطي في مجلس الشافعي فقال البويطي: أنا أحقّ به منك، وقال ابن عبد الحكم أنا أحقّ بمجلسه منك، فجاء أبو بكر الحميدي وكان في تلك الأيام بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحقّ بمجلسي من يوسف بن يحيى وليس أحد من أصحابي أعلم منه"[14].

 

فهذه الشهادة العلمية من الشافعي لأحد تلاميذه من نوع الإجازات الشفوية التي تسمح للطالب أن يتولى التدريس مكان أستاذه، وقد قام البويطي فعلاً مقام الشافعي في التدريس والفتوى بعد وفاته[15]. وفي مقالنا القادم سنستكمل حديثنا عن تطور نظام المدارس في العصر المملوكي.

المصدر : الجزيرة