صيف الانتقالات.. تمرد وانتماء وأشياء أخرى
وكما هو متوقع، طفت المناظرة الأبدية عن الانتماء والولاء إلى السطح، وبعد سنوات طويلة من الاحترام الشكلي للعقود بين اللاعبين وأنديتهم، والتي لم تمنع أيًا منهم من فسخه حسبما يخبرنا التاريخ، عاد الحديث مجددًا عن مساوئ ما يُعرف بالكرة الحديثة، والتي حوّلت اللعبة الشعبية الأولى إلى تجارة يقودها مجموعة من المستعدين لاستنساخ مشاعرهم وأداءهم أيًا كانت ألوان قمصانهم، بكل ما يستلزمه ذلك من كلاسيكيات تتكرر طيلة الوقت في استهانة حقيقية بذكاء الجمهور؛ كتقبيل الشعار عقب كل هدف والتصريح الدائم بالحب الأبدي والوفاء الصامد أمام أطنان المال.
بقليل من العاطفة، قد تجد تلك النظرية طريقها إلى عقلك، لأن التاريخ لم يشهد جيلًا واحدًا لم يصر على أن عصره كان الأفضل في كل شيء، ولم يشهد جيلًا واحدًا لم يظن أن أروع فترات العالم تزامنت مع سنوات شبابه هو دونًا عمن سبقوه ومن لحقوه، لذا ستسمع الكثير من الحكايات عن كرة القدم التي كانت مختلفة في التسعينيات، واللاعبين الذين فضلوا الموت على ترك أنديتهم، لأن الذين يقصونها استمعوا للحكايات نفسها من آخرين عن كرة قدم الثمانينيات التي لا تضاهيها أي حقبة أخرى، بعد أن جزم لهم الأجداد أن من فاته أياكس وبرازيل السبعينيات قد فاتته كرة القدم كلها.
لا يعني ذلك أن قيمًا كالانتماء والولاء أصبحت وهمًا فجأة، ولكنه يطرح سؤالًا مهمًا عن حدودها في اللعبة التي لم تتحول إلى تجارة مؤخرًا فقط، بل أصبحت كذلك منذ اللحظة التي قرر فيها أول نادي تقاضي المال من مشجعيه لحضور المباريات في الاستاد، أو اللحظة التي قرر فيها أول مقاول تقاضي المال لقاء بنائه.
لذا، فبينما بدا الأمر في كثير من الأحيان كدائرة مفرغة من المسببات لا جدوى من اقتحامها، ظهرت أمثلة تتناقض بوضوح مع هذا الواقع؛ كجنون آلان شيرر غير المنطقي بنيوكاسل، ورفضه العديد من العروض من أندية بحجم إنتر ميلان وبرشلونة ومانشستر يونايتد لأجل تحقيق حلم طفولته بتسجيل الأهداف في ملعب التاينسايد(9)، أو إصرار بوفون على البقاء مع يوفنتوس حتى بعد هبوطه للدرجة الثانية، أو ملحمة زانيتي مع إنتر وجيرارد مع ليفربول، ولكنها تظل استثناءات، ولو لم تكن كذلك لما تذكرناها من الأصل، وهي حقيقة ثابتة منذ فجر اللعبة، عبّر عنها ويليام ماكغريغور مؤسس الدوري الإنجليزي نفسه عندما اعتبر كرة القدم مشروع تجاري كبير قبل أن يمر على نشأتها عقد واحد(10).
يضاف إلى ذلك الطفرة الإعلامية التي يشهدها هذا العصر مقارنة بسابقيه، والتي تستطيع إخبارك أن ميسي قد وعد نيمار بمساعدته للحصول على الكرة الذهبية ليقنعه بالبقاء(11)، وأن سانشيز غرد من باريس ثم ألغى تغريدته سريعًا خوفًا من تأكيد الأخبار التي تتحدث عن مفاوضاته مع نادي العاصمة(6)، وأضافت طرقا جديدة لإطلاق الرغبات المستترة ومغازلة الأندية المستقبلية كإنستغرام وسناب شات وغيرها، وكلها وسائل لم تتوفر للاعبي الكرة من قبل، ومعلومات لم تتوافر لجمهورهم كذلك، ويصعب التخيل بأن أثرها كان ليختلف في السبعينيات أو الثمانينيات.
الآن تُطرح الأسئلة عن مكمن القوة في اللعبة، وهل انتقلت أخيرًا كاملة إلى اللاعبين أم ما زال للأندية نصيب منها، والواقع أن كل تلك الوسائل لم تغير من الأمر الكثير عمليًا، لأن القاعدة الأعم ما زالت هي الاتفاق بين الثنائي، والحقيقة الوحيدة التي تبقى راسخة رغم تغير شكل العلاقة بين اللاعب والنادي وتفاصيلها هي أن الأول لن يبقى رغمًا عنه، والثاني سيستغني عنه في اللحظة التي يتحول فيها لاستثمار خاسر.
لا مجال للمشاعر هنا، أو هذا ما تقوله الحقائق على الأقل، ولكن تلك المعادلة الرقمية عديمة الروح تعاني من مشكلة دائمة، فلو كان جمهور اللعبة يعاملها بنفس المنطق لانصرف عنها منذ زمن بعيد، ببساطة لأنه الطرف الوحيد المستعد لإنفاق ماله في صفقة تجارية فاشلة لا تعود عليه إلا بالشيء الوحيد الذي يحاول باقي الأطراف إخراجه من المعادلة؛ العاطفة.
لعل أبرز دليل على ذلك هو إجراء طلب الانتقال الذي يلجأ إليه كثير من اللاعبين للضغط على أنديتهم، والذي لا يمتلك أي قيمة قانونية في واقع الأمر(12)، ولكنه يمثل نهاية لعلاقتهم مع الجمهور في نفس الوقت، لأنه يقع في قلب المنطقة الرمادية بين العاطفة والمال، فبقاؤه بعد طلب الانتقال يعني أنه قد تحول لاستثمار خاسر، لأن السبب الذي أتى به إلى النادي وهو رغبة الجمهور نفسه في مشاهدته في الملعب، لم يعد قائمًا من الأصل.
يمكنك أن تسميه استثمار العاطفة أو عاطفة الاستثمار أو أي مصطلح آخر يمكنه التعبير عن اجتماع متضادين، لأن كرة القدم تستمد جاذبيتها بالأساس من ارتباطها الوثيق بالواقع، والذي يعج بدوره بالمتناقضات التي تكتسب قيمتها من مجاورتها لبعضها البعض، فلا يوجد تجارة منطقية يُعامل فيها المال بهذا الاستخفاف، ويُنفق فيها 100 مليون من أجل شخص واحد معرض للإصابة أو الموت أو الأزمات النفسية، لذا ربما يكون المصطلح الأنسب الذي نبحث عنه هو المراهنة، لا التجارة.
كل قصة لها عدة روايات، وسانشيز الخائن في نظر المدفعجية قد لا يكون إلا لاعب استنفذ كل جهده مع أرسنال دون أن يصل إلى شيء، وربما يكون من حق نيمار أن يصبح النجم الأول لفريقه حتى لو لم يكن هذا الفريق بقوة وبريق البرسا في أوروبا، وقد لا يكون من حق ساوثامبتون إجبار فان دايك على البقاء طالما أتاهم عرض بضعف قيمته الحقيقية، ولعلك كنتَ ستكرر فعلة ديمبلي لو رفض ناديك تحقيق حلمك، فقط لأنه يريد زيادة ربحه من الصفقة من ستة إلى عشرة أضعاف سعرك الأصلي بعد موسم واحد فقط(13).
الأهم أن جمهور اللعبة نفسه ليس معصومًا من الخطأ، وحتى مع كونه أكبر الخاسرين في المعادلة فإن هذا لا ينفي كونه الأحق باللوم في عدد لا بأس به من الحالات، وكثيرًا ما يغلب عليه التقلب والمزاجية في التعامل مع باقي العناصر وفي مقدمتهم اللاعبين، فيرفع بعضهم إلى عنان السماء لأسباب لا علاقة لها بكرة القدم، وينسف آخرين بعد لقطة واحدة أو مباراة سيئة، يتجنى ويبالغ ولكنه لا يتلقى نصيبه من اللوم أبدًا لأن صوته يظل الأعلى دائمًا، وللسبب نفسه سيظل هو المحدد الرئيسي في المعادلة، فإن كان العصر الحالي هو عصر المادة فالسبب الرئيسي سيكون الجمهور نفسه والعكس بالعكس.
ففي دراسة للنيويورك تايمز الأميركية، كشف كريس هوفمان عن أن متوسط ثمن التذكرة لإحدى مباريات البريميرليغ ينبغي أن يكون نصف قيمتها الحالية بحسابات التضخم ومتوسط الدخل، وحتى حينها ستتمكن الأندية من تحقيق ربح إضافي يبلغ 430 مليون باوند عن آخر عقد وقعته مع سكاي(14)، وقبول الجمهور الإنجليزي بهذه الوضعية هو ما يمنح اللاعبين والأندية أكثر مما يحتاجونه من الأموال، للدرجة التي تجعل لاعبًا مثل يايا توريه أو إدين هازارد يتقاضى راتبًا أسبوعيًا يساوي ما يحصل عليه رئيس الولايات المتحدة الأميركية في عدة أشهر.
الخلاصة أن لا خلاصة هنا، كرة القدم شأن بالغ التعقيد ويصعب الخروج منه بإجابات واضحة مباشرة، فالعصر الحالي قد يكون أكثر عصور كرة القدم مادية فعلًا، ولكن قصر الأمر على خداع اللاعبين أو جشع الوكلاء أو تعنت الأندية سيُعد تسطيحًا مخلًا للأمر، يتجاهل حقيقة أن الممول الرئيسي للعملية برمتها غالبًا ما تغيرت مبادئه حسب موقعه فيها، وأن الجمهور الذي سيهجوا خيانة نيمار وكوتينيو هو نفسه الذي سيثني على طموح ديمبلي وفان دايك، قبل أن ينسى كل ذلك وينفعل صارخًا مع كل قبلة للشعار عقب كل هدف، وكل تصريح عن الوفاء الصامد أمام أطنان المال.