شعار قسم ميدان

سوبر ميسي.. القليل يكفي لأن الكثير يضر

ميدان - ميسي

بالتزامن مع قرعة دور الستة عشر لدوري أبطال أوروبا، كانت إحدى صفحات ريال مدريد الساخرة تشير إلى الحدث بتعبير آخر: "حان الآن موعد التخاذل حسب التوقيت الرسمي لليونيل ميسي". بالطبع، كانت السخرية مقبولة لأنها كانت قبل خروج الريال من البطولة على يد صغار أياكس، ولأنها معتادة بين الغريمين، خاصة في حق اللاعب الذي ساهم في قلب الموازين محليًا لصالح نادي برشلونة.

 

الغريب في الأمر، أن وراء تلك السخرية بعضًا من المنطق. ففي الثلاث نسخ السابقة من بطولة دوري الأبطال، كان ريال مدريد يحتكر المشهد، واضعًا كريستيانو رونالدو في الواجهة مهما كانت جودة موسمه. أما خليفة مارادونا فيكتفي بموسم محلي ناجح، في انتظار أول بطولة دولية يتحمل مسئوليتها بمفرده.

 

ومع اعتراف الجميع بأن ما يقدمه ميسي وصل حد الخزعبلات، فإن ظاهرة انخفاض مستواه في تلك الفترة من الموسم – في دوري الأبطال – تستحق نظرة أخرى. هل يمكننا القول بأن ميسي يقدم أكثر من المطلوب محليًا؟ وهل يفعل ذلك إجبارًا أم اختيارًا؟

   

   

مجبر أخاك الفضائي.. لا بطل

حسنًا، لنبدأ بسرد عدد لا نهائي من كلمات المديح خاصة بعد رؤية هدفه الثالث في مرمى ريال بيتيس، لنصل إلى نفس النتيجة: لا يمكن وصف ليونيل، فقط علينا المشاهدة والاستمتاع. هذا هو الكليشيه المعتاد، والذي مللنا جميعًا منه، حتى ميسي نفسه سيمل منه عن قريب.

  

تكمن المشكلة في محاولة فهم السبب وراء هذا الجوع. منافسة كريستيانو! رونالدو لم يعد موجودًا، الرقم واحد! ميسي يتصدر كل شيء تقريبًا، وما لم يتصدره الآن سيتصدره غدًا. ميسي يشعرنا وكأنه يركض خلف سراب، والغريب أنه  مستمتع بعدم وجود نهاية لما يفعل. يوجد حلقة مفقودة بين أرقام ميسي، وسنحاول العثور عليها بالبحث في مكان آخر.

   

   

لنعد لتعاقدات صيف عام 2018، ولنبدأ البحث. قدم موقع الاحصائيات الشهير Statsbomb تحليلاً أشبه بدراسة جدوى لصفقات الصيف الماضي (1). وذلك بأخذ عينة من اللاعبين وتقسيمها إلى ثلاث مجموعات: الأولى تشمل اللاعبين المنتقلين من نادٍ من المستوى الأعلى إلى نادٍ أقل، الثانية تشمل اللاعبين المنتقلين من نادٍ إلى آخر في نفس المستوى، الثالثة تشمل اللاعبين المنتقلين من نادٍ من المستوى الأقل إلى نادٍ من المستوى الأعلى. ومن ثم مقارنة أرقام اللاعبين في الموسم الحالي بالموسم الماضي.

   

على سبيل المثال، تشير أرقام أندريه غوميز المغضوب عليه في برشلونة، بانخفاض واضح في أدائه مع نادي إيفرتون. أصبح اللاعب البرتغالي اسوأ على مستوى التمرير والمراوغات والضغط. وعلى النقيض، يحقق رياض محرز طفرة هائلة على مستوى الأرقام، على الرغم من عدم دخوله تشكيلة مانشستر سيتي الأساسية إلا قليلاً. حيث ارتفع معدل تسديد اللاعب الجزائري من 2.1 إلى 3.4، ونسبة التمرير الصحيح من 74% إلى 81%، وزاد أيضًا معدل لمسه للكرة داخل منطقة ال18. وبالمثل شهدت أرقام شيردان شاكيري تطورًا في ليفربول.

   

هنالك شبه اتفاق على أن برشلونة لم يعد كما عهده الجميع في حقبة بيب غوارديولا
هنالك شبه اتفاق على أن برشلونة لم يعد كما عهده الجميع في حقبة بيب غوارديولا
   

عن طريق هذه العينة، استنتج التقرير أن الانتقال إلى المستوى الأعلى يحسن من إنتاجية اللاعب، نظرًا لتحسن مستوى من حوله كما في حالتي محرز وشاكيري. أما الانتقال إلى المستوى الأقل فيهبط بأرقام اللاعب كما حدث مع أندريه غوميز، فالتمريرة التي كانت تخرج منه إلى أقدام سواريز أو ميسي، أصبحت تذهب الآن إلى والكوت أو ريتشارلسون، وبالطبع شتان الناتج النهائي.

 

ما علاقة ميسي بهذا؟ سنخبرك؛ هنالك شبه اتفاق على أن برشلونة لم يعد كما عهده الجميع في حقبة بيب غوارديولا. الفريق أصبح أثقل على مستوى نقل الكرة، أقل سلاسة، أقل تنوعًا في الهجوم. أضف إلى ذلك انخفاض جودة لاعبي خط الوسط والهجوم، ومع ذلك فإن ميسي يواصل الإبهار وتقديم نفس الأرقام في كل موسم، وكأن موقع Statsbomb قد أهدروا وقتهم في تلك الاحصائيات دون جدوى. لكن الأكيد أن ذلك يستنزف ميسي بصورة أكبر، كما يحدث في دوري ال NBA مثلاً.

 

الكثير يضر
نجم فريق هيوسطن روكيتس
نجم فريق هيوسطن روكيتس "جيمس هاردن" (رويترز)

  

في منتصف يناير، كان دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين NBA على موعد مع سلسلة استثنائية من نجم فريق هيوسطن روكيتس، "جيمس هاردن". بعد بداية موسم مخيبة، صاحبتها عدة إصابات لنجوم الفريق، قرر "هاردن"  حمل فريقه بمفرده. في هذا التوقيت، استطاع "هاردن" أن يحرز 30 نقطة فأكثر في 17 مباراة متتالية، ليتساءل موقع FiveThirtyEight في تقرير له: هل يحرق هاردن نفسه بهذا الأداء الاستثنائي؟ (2)

    

   

اللاعب الملقب باللحية تصدر قائمة الدوري من حيث عدد دقائق المشاركة، الرميات الثلاثية (بمعدل 13 محاولة في المباراة). أما الرقم الأخطر فكان قيامه ب 691 محاولة للعب منفردًا، أي يذهب لمواجهة واحد ضد واحد دون الاستعانة بزملائه، وانتهاء المحاولة بتسديدة أو مخالفة أو قطع الكرة (2). في الNBA يوجد ما يسمى بالUsage Rate، أي معدل الاستخدام بالترجمة الحرفية. وهي إحصائية تعبر عن نسبة مساهمة اللاعب عند استحواذ الفريق على الكرة (3). حقق "هاردن" في تلك الفترة نسبة %39.9، وهو ثاني أعلى رقم في تاريخ الدوري (أي أن نسبة 39.9% من محاولات الروكيتس الهجومية تنتهي عند هاردن سواء بإحرازه سلة، أو رمية حرة أو فقد الكرة).

   

وهنا تظهر المشكلة الأولى، لم يسبق لأحد أن فاز باللقب، بعد أن حقق معدل استخدام 35% أو أكثر في الموسم المنتظم. بل إن السبعة الأوائل تاريخيًا على لائحة الأعلى من حيث ال usage rate، لم يسبق لهم تجاوز المرحلة الأولى من الأدوار النهائية، بما في ذلك مايكل جوردان نفسه (3)(4). المشكلة الثانية تتمثل في أن "كريس هيرينج" – المحرر بموقع FiveThirtyEight – لم يكن يعلم أن سلسلة جيمس هاردن ستمتد حتى 32 مباراة متتالية، وأن هاردن قد أحرق نفسه بالفعل، إلا لو قرر ضرب الإرث التاريخي عرض الحائط وتحقيق المفاجأة في نهاية الموسم.

   

حالة ميسي تتشابه كثيرًا مع جيمس هاردن، فبرشلونة بقيادة المحنك "إرنستو فالفيردي" لا يخرج من السباق المحلي مبكرًا، وبالتالي لا يحصل ميسي على رفاهية الراحة والاستعداد لمباريات دوري الأبطال. كما أن منظومة برشلونة الحالية، لا تسمح لميسي بألا يكون في يومه إلا قليلاً، لأنه يقوم بالنسبة الأكبر من دور خط الوسط في صناعة اللعب بجانب إحراز الأهداف. لذلك استسلم ميسي لخيار عدم الرفاهية، واستمر في فعل ما يفعله لكن مع محاولة بسيطة للتحايل.

       

    

لا مانع من التمشية

خرج علينا "فالفيردي" منذ مدة بتصريح يفسر فيه استراتيجية لاعبه الأرجنتيني في التعامل مع بداية كل مباراة (5). موضحًا أن ميسي يحاول تجنب الكرة في البداية، مفضلاً المشي بين لاعبي الخصم، يتفحص دفاعهم فردًا فردًا، وتمركز كل منهم؛ لمعرفة نقاط الضعف التي سيركز عليها. وكأن ليو لا يكتفي بما يقدمه الجهاز الفني من معلومات، مفضلاً التأكد بنفسه. كان ينقص ما سبق أن يخبرنا فالفيردي بأن ميسي يستخدم قرون استشعار الفضائيين تلك لفعل ذلك، لكن ما يهم أن قصة ميسي مع المشي بدأت قبل ذلك.

     

   

في كلاسيكو الذهاب بالموسم الماضي، قطع ميسي مسافة قدرها 8 كيلومترات، منها 83% مشيًا (7)، وانتهى اللقاء بفوز برشلونة بثلاثية نظيفة، والكل يتذكر ذلك اللقاء بلقطة "ماتيو كوفاسيتش" عندما ركض خلف ميسي وترك راكيتيتش يتقدم بالكرة. أما في دوري أبطال أوروبا بالموسم الماضي، غطى ليو مسافة أقل من كل مهاجمي الفرق الكبيرة (6).

  

ميسي كسول؟ لا، هو لم يصل بعد لهذه الدرجة، لكنه فعال أيضًا عندما يمشي. عرض الثنائي "لوك بورن" و"خافيير هيرنانديز" بحثًا في مؤتمر التحليل الرياضي التابع لمعهد ماستشوستس لمحاولة تعريف المساحة والحركة في كرة القدم (6). الأول هو نائب رئيس قسم التخطيط والتحليل بنادي ساكرامنتو كينغز، والثاني هو أحد محللي الأداء والبيانات بنادي برشلونة.

     

يبدو ميسي عبقريًا حتى في المشي أو بطريقة أخرى هو يتحايل لتوفير طاقته للحظات الهامة، كي يتجنب مصير جيمس هاردن
يبدو ميسي عبقريًا حتى في المشي أو بطريقة أخرى هو يتحايل لتوفير طاقته للحظات الهامة، كي يتجنب مصير جيمس هاردن
   

كانت محاولة لمعرفة تأثير حركة وتمركز اللاعبين على خلق المساحة واستغلالها. مع الأخذ في الاعتبار أن تقييم المساحة يختلف وفقًا لأهمية كل منها حسب موقع الكرة وتمركز دفاع الخصم. قسّم البحث عملية كسب المساحة إلى نوعين: الأول هو المباشر "Active" ويتم بتحرك اللاعب سريعًا نحو الفراغ، والثاني هو غير المباشر "Passive" ويتم من خلال التمركز بعيدًا عن اللعب في منطقة عرفها البحث باسم "High Value Location". وبتطبيق بعض المعادلات على مباراة برشلونة وفياريال بالليجا في يناير 2017، تم التوصل لمساهمة كل لاعب من تشكيلة البارسا في خلق المساحات واستغلالها.

 

في 66% من المرات التي سيطر فيها ميسي على مساحة قيّمة، كان يمشي. أما عن خلق الفراغ للزميل بالتحرك وجذب مدافعي الخصم، فكان ميسي من أفضل ثلاثة لاعبين في الفريق بهذا الصدد. ولاحظ البحث أيضًا وجود تفاهم كبير بينه وبين سواريز تحديدًا، في خلق المساحة واستغلالها بينهما. وهذه معلومة جانبية لمن ينتظر خروج لويس سواريز من برشلونة.

  

يبدو ميسي عبقريًا حتى في المشي أو بطريقة أخرى هو يتحايل لتوفير طاقته للحظات الهامة، كي يتجنب مصير جيمس هاردن. لكن تبقى المحصلة النهائية هي التعثر في دوري الأبطال ومع منتخب بلاده أيضًا. ما سبق هو فقط محاولة لتوصيف ما يفعله ميسي، أما إيجاد المبررات وعرض فرص هيغوايين الضائعة فسنتركها لمحبيه. وسيبقى السؤال الأهم مطروحًا: إلى متى سيواصل ميسي إبداعاته قبل أن ينهار بدنيًا؟

المصدر : الجزيرة