شعار قسم ميدان

"عقدة منبج".. كيف ترسم مدينة صغيرة مستقبل المنطقة؟

ميدان - منبج

لم تكن آخر جمعة من عام ٢٠١٨ هادئة نسبيا مثل بقية جُمَع آخر عامين في مدينة منبج الصغيرة، إذ عاد شبح الخوف والقلق يسري في أوصال المدينة الصغيرة التي كان الثابت الوحيد بها منذ الأزل هو التغير، واضعا سكانها في حلقات مفرغة من الخوف والقلق وانتظار المجهول، هذه المرة بدا أنها قد تنتهي مجددا من حيث ابتدأت: من النظام السوري وإليه.

    

ففي صبيحة الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني من العام، باغتت "وحدات حماية الشعب"، المكون الأساسي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" المسيطرة على المدينة، باغتت الجميع ببيان رسمي دعت به ما أسمته "الدولة السورية التي ننتمي إليها أرضا وشعبا وحدودا" لإرسال قواتها المسلحة لاستلام هذه النقاط وحماية منطقة منبج، بيان أوضحته لاحقا مسؤولة رسمية بتأكيدها أن هذه الخطوة أتت برعاية روسية، وإن قوات الحكومة لن تدخل مدينة منبج نفسها، بل ستنتشر عند خطوط التماس مع تركيا والفصائل السورية الموالية لها، وهي دعوة قابلها النظام السوري -بسرعة مفاجئة- ببيان عسكري أعلن به "دخول وحدات إلى منطقة منبج ورفع العلم السوري"، مؤكدا "ضمان الأمن الكامل لكل المواطنين وغيرهم في منبج"، رافقه بالفعل -في لحظة صدق نادرة للنظام السوري- تحليق لعلمه داخل منبج. [1]

 

كانت "وحدات حماية الشعب" ثم جيش النظام السوري واضحين تماما بدوافع هذا الإجراء، وهو مثلما أعلنوه جاء "كرد على التهديدات التركية"، التي كانوا يقصدون بها حشد ٨٠٠٠ عنصر من "الجيش الحر" والجيش التركي، تمهيدا لدخول المدينة بحسب ما توعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان [2] ومسؤولوه مرارا خلال الشهر الأخير من عام ٢٠١٨، وقبلها بشكل متفرق على مدى عامين كاملين.

 

     

في نهاية اليوم، بدا أن العلم مجرد إنذار خاطئ رفعه بعض مؤيدي النظام السوري داخلها، بينما حافظت آليات جيش النظام على مواقعها عند خط التماس خارج المدينة[3]، إلا أن هذه الحادثة البسيطة لم تجبر عددا من سكان المدينة على النزوح خوفا من معركة جديدة وحسب، وإنما دفعت أردوغان نفسه للتشكيك بها، واصفا إياها بأنها "حرب نفسية"، كما استفزت قوات التحالف الدولي، الداعمة للأكراد، لنفيها بشكل علني[4]، بانعكاس واضح على السباق المحموم، بين أنقرة وحلفائها من جهة والكرملين وحلفائه من جهة أخرى، على ملء الفراغ الأميركي الذي أطلقته تغريدة[5] الرئيس الأميركي دونالد ترامب معلنًا بها الانسحاب من سوريا، مخلفا فوضى ما زالت إدارته تحاول تداركها حتى اللحظة، كانت أبرز ميادينها مدينة "منبج" الصغيرة، كعب أخيل الأقطاب الإقليمية والقوى الكبرى، والتي لم تستطع بعد، ومنذ أكثر من عامين، حل "عقدة منبج".

 

"لندن الصغيرة"

لا تبدو هذه الظروف المحيطة بمنبج، ذات التكوين العشائري، جديدة على المدينة المنحوسة بموقعها الاستراتيجي على حدود الإمبراطوريات والدول الكبرى، فبوجودها على بُعد ٣٠ كم غربي نهر الفرات ومثلها جنوب الحدود التركية؛ كانت "منبج" المعبر الاقتصادي الأساسي الذي يربط ضفتي الفرات (الشرقي المعروف باسم الجزيرة، والغربي المعروف باسم الشامية)، بحاضرة "حلب" ومنها إلى العالم، كما وضع "عاصمة العواصم" -بحسب ما أسماها هارون الرشيد- في موقع عليها به أن تعصم حكّام سوريا المتعاقبين من كل الغزاة الشماليين الطامعين فيها منذ الأزل، مفقدا هذه المدينة لكل أهميتها تحت وقع الحروب والسلاطين.

 

عشية الثورة السورية؛ كان التقسيم الاجتماعي/السياسي لسوريا شبيها بالتقسيمات المماثلة الواقعة على المحيط والأطراف، معتمدا على شبكات ووسطاء من العملاء المحليين في مختلف أنحاء سوريا[6] من أجل ترسيخ سلطته، فرغم تغيّر الطابع الاجتماعي لـ "منبج" مع مرور الوقت، من خلال تدفق الأسر العربية من مدينة حلب والباب، فضلا عن وصول الأكراد من كوباني، فإن هجرة العشائر من المناطق الريفية إلى المدينة منحت زعماء العشائر سطوة واسعة هناك، فمن خلالهم اكتسب زعماء العشائر الذين مكثوا في قراهم نفوذا في البلدة، وسعى النظام إلى استيعاب هؤلاء المشايخ القبليين عبر عرض مناصب عليهم في مجلس النواب السوري وامتيازات ضمنت ولاءهم للنظام.

 

خلال الحرب في سوريا، سادت انقسامات داخل الهياكل القبلية في منبج مع سيطرة مجموعات سياسية مختلفة عليها. وقد سعت هذه المجموعات لاستبدال الزعماء التقليديين الموالين للنظام بآخرين موالين لها، كي تتمكّن من الوصول إلى عشائر معيّنة. وهي فعلت ذلك من خلال تنظيم هؤلاء القادة في إطار مجالس عشائرية أو هيئات أخرى خاضعة إلى سيطرتها. لكن هذه المجالس، وعلى الرغم من أدائها دورا ناشطا في تسوية النزاع بين فروع العشائر، لم تتمكّن من الحلول مكان زعمائها الذين فضّلوا مساندة النظام. وعلى الرغم من أن الحرب أضعفت تأثير الزعماء القبليين على عشائرهم، فإن سلطتهم لا تزال تتفوّق اليوم على سلطة الشخصيات العشائرية المتحالفة مع الجيش السوري الحر أو قوات سورية الديمقراطية، أو سابقا تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ "داعش".

 

    

لم تتغير سيرة المدينة المتقلبة بعد الثورة أوائل عام ٢٠١١، فقد استطاع "الجيش الحر" تحريرها من سيطرة النظام السوري بعد عام من اندلاع الثورة، ووضعها تحت إدارة مجلس محليّ حافظ عليها لمدة عامين، ضمن سعي المجموعات المختلفة لاستبدال الزعماء التقليديين الموالين للنظام بآخرين موالين لها، سعيا للوصول لعشائرهم، وتنظيمهم ضمن مجالس أو هيئات أخرى تخضع لسيطرتها، نجحت بالمهمة الهامشية المتمثلة بتسوية النزاعات العشائرية، لكنها لم تستطع الحلول مكان زعماء العشائر المقربين من النظام، مما جعل البنية الاجتماعية، وبالتالي السياسية والعسكرية، أكثر هشاشة وعرضة للتغيير من قِبل أطراف الصراع جميعا، وعلى رأسهم "تنظيم الدولة".

 

وفي مطلع عام ٢٠١٤، استطاع "تنظيم الدولة" باستخدام هذه الاستراتيجية السيطرة على المدينة، ووضع سكانها تحت حكم الترهيب، بنشره الجثث مقطوعة الرؤوس في الشوارع، وقتله أو إخفائه لكل من يرفض قواعده اليومية الصارمة مثل منع الدخان وفرض النقاب، في الوقت نفسه الذي كان فيه مقاتلوه الأجانب يتوافدون إلى أول مدينة ستقابلهم بعد الحدود التركية، في رحلتهم من قلب أوروبا إلى قلب "الخلافة"، مكسبين المدينة التي أقام بها ما يقارب ١٠٠ مقاتل بريطاني مع "داعش" لقب "لندن الصغيرة". [7]

 

إلا أن حلقة "داعش" لم تدم طويلا في سيرة المدينة، إذ كانت من أولى المدن التي استهدفها التحالف الدولي لبُعدها النسبي عن معاقله (الرقة والموصل) في سوريا والعراق، فحشد مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطية"، الذين يُشكّل المقاتلون الأكراد عمودهم الفقري، في معركة استمرت شهرين كاملين، استطاعوا بعدها دخول المدينة في أغسطس/آب لعام ٢٠١٦، لتصبح منبج، "لندن الصغيرة" سابقا، بصور نسائها وهن يدخنّ ويخلعن النقاب، رمزا لهزيمة تنظيم الدولة والتحرر من سطوته، ونموذجا لبسط الاستقرار في المناطق التي تم استعادتها من سيطرة تنظيم الدولة، بإدارة تتّسم بالفاعلية الوظيفية من خلال إشراك مختلف المجموعات الإثنية الموجودة فيها[8]، حتى ولو استمرت السيطرة التي يمارسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في إثارة النقمة في أوساط الأكثرية العربية في البلدة، وهو ما دفع الجنود الأميركيين لخطوط الجبهة في وجه القوات التركية لمنعهم من الدخول، وتأسيس قاعدة عسكرية هناك.

    

نساء منبج، وهن يدخنّ ويخلعن النقاب، رمزا لهزيمة تنظيم الدولة والتحرر من سطوته (مواقع التواصل)
نساء منبج، وهن يدخنّ ويخلعن النقاب، رمزا لهزيمة تنظيم الدولة والتحرر من سطوته (مواقع التواصل)

   

"خارطة الطريق"

حالما تمكّنت "قوات سوريا الديمقراطية" من السيطرة على "منبج"؛ دق ناقوس الخطر في "أنقرة"، فأطلقت خلال أيام عملية "درع الفرات" حاشدة ما يقارب ١٥ ألف مقاتل من جنودها ومقاتلي "الجيش السوري الحر" لقطع الطريق على القوات الكردية، المدعومة من التحالف، والتي بات واضحا سعيها لوصل كل من كانتون "عفرين" بكانتون "روجافا"، لاستكمال "الدويلة الكردية" في شمال سوريا. وقد أدت "درع الفرات" غرضها بسيطرتها خلال سبعة أشهر على ما يقارب 700 كيلومترًا، وعززته بتوسيع سيطرتها على كانتون "عفرين" وانتزاعه من "وحدات حماية الشعب" الكردية، مطلع العام الماضي كما ذكرنا؛ فبات يفصل بينها وبين "الفرات" مدينة منبج وحسب، والتي لا تواجه بها مقاتلي تنظيم الدولة أو عناصر "قوات سوريا الديمقراطية"، وإنما جنود التحالف الأميركيين الذين أعلنوا تمسكهم بالمدينة، ناقلين المعركة من ميادين المعارك إلى أروقة السياسة.

 

منذ ذلك الحين، لم تهدأ مطالبات أردوغان بـ"منبج"، كما أنها تعززت بعد عملية عفرين، لا لكونها استعراضا للقوة التركية باستخدام القوة، وإنما لكونها تمت بالاتفاق مع روسيا التي رفعت غطاءها عن "وحدات الحماية الكردية" في عفرين، مما منح أنقرة مزيدا من النفوذ في الشمال السوري، واجهها مزيد من التعنت الأميركي الذي ظهر بعدة تصريحات وزيارات عالية المستوى حول "منبج"، في حزم شهد اضطرابا بالإعلان المبدئي لـ "ترامب" نهاية مارس/آذار من العام الماضي بسعيه الانسحاب من سوريا، قابله سباق تركي وروسي لملء هذا الفراغ[9] في توتر كبير هدأ نسبيا باتفاق أميركي-تركي على "خارطة طريق" حول منبج، مطلع يونيو/حزيران التالي مباشرة.

 

لم تُعلن "خارطة الطريق" بشكل رسمي[10]، لكنها تُمثّل خطوة أولى للتقارب الأميركي-التركي[11] معتمدة على عنصرين رئيسين: تسيير دوريات أميركية-تركية مشتركة في منبج، وتغيير هيكلة الحكم بنقله من "مجلس منبج العسكري" المرتبط بـ"قوات سوريا الديمقراطية"، والتي تعتبر تركيا عمودها الفقري "وحدات حماية الشعب" كيانا إرهابيا، وتسليمه إلى القوات الحليفة لتركيا.

 

ورغم بساطة تطبيق "الخارطة" فإنها شديدة الصعوبة بالنسبة لواشنطن، التي عليها أن توازن بين حليفيها الرئيسين في سوريا، وتتجنب الصراع المباشر بينهما، والذي يستخدمه أردوغان لفرض نفوذه على طاولة المفاوضات، أولا بشكل تكتيكي، بتهديده بإمكانية شن هجوم عسكري بأي لحظة ولو وصل الأمر إلى "مقتل" جنود أميركيين، وثانيا بشكل استراتيجي، بتقربه من موسكو وابتعاده عن البيت الأبيض والبنتاجون الذين يملكان تكتيكا في سوريا دون استراتيجية واضحة، بحسب ما أظهرت "خارطة الطريق" نفسها، وأكده فيما بعد الانسحاب دون خطة سابقة، لصنع واشنطن فراغا سيعقبه مزيد من الفوضى، ومسلمة النفوذ في سوريا لكل من حلفي "موسكو" و"أنقرة".

  

   

السباق نحو ملء الفراغ

بعد قرابة أسبوع ونصف من تغريدة ترامب التي أعلن بها انسحاب قوات بلاده؛ لم يكن الأتراك الذين يحشدون على أطراف منبج الشرقية، أو قوات النظام المدعومة روسيا على أطرافها الغربية، هم الوحيدون الذين يسعون لملء فراغ القوات الأميركية؛ إذ كشفت مجلة "ديبكا" [12] الاستخباراتية الإسرائيلية عن زيارة ضباط مصريين وإماراتيين لمدينة منبج، بالتوازي مع تقارير صحفية [13] كشفت أن هذه الزيارة تمت برفقة قوات أميركية، التقوا خلالها قادة "قوات سوريا الديمقراطية" الأمنيين، وتباحثوا خلالها معهم في كيفية دعم عملهم في منبج، وتمكينهم من "حفظ الأمن" و"منع الاعتداءات الخارجية"، في إشارة إلى فصائل الجيش الحر المدعومة من تركيا، بجانب الحديث عن تقديم دعم لوجستي واسع لهم و"للإدارة المدنية" التابعة لها، من آليات وأجهزة اتصال، في خطوة تالية لـ"الانسحاب الذكي" الذي ألمح إليه ترامب، والمتمثل كما يبدو بتسليم المواقع الأميركية للقوات السعودية والإماراتية، بما يعني التمهيد لصدام تركي-عربي سيُمثّل امتدادا للصراع الصامت بين تركيا وخصومها الإقليميين (السعودية والإمارات ومصر)، ولن تكون نتائجه على الأرجح محمودة بحال.

 

إلا أن هذه الخطوة تبدو منطقية من وجهة نظر التحالف العربي، والذي كشفت صحيفة "ميدل إيست آي" [14] أنه يرى أن التهديد العسكري الأكبر عليه في المنطقة يأتي من تركيا، لا إيران، والذي دفعه كذلك للتقارب مع خصوم تركيا، سواء أكانوا نظام الرئيس السوري بشار الأسد أم المقاتلين الأكراد، الذين يبحثون عن أي تحالف جديد لهم بعد تخلي الأميركيين عنهم، غير مبالين إن كان في دمشق التي عاودوا اجتماعاتهم معها ودعوها للدخول في منبج، أم في الرياض وأبوظبي، أم في التحالف الجديد -الغريب- من كليهما معا، والذي يستبق الخطوات قبل أي اتفاق روسي-تركي على مصير منبج[15]، وهو مصير أخذت به موسكو دور واشنطن بالموازنة بين حليفيها، تركيا والنظام السوري، الذين لن تقف حدود طموحاتهما عند "منبج" وضفة الفرات، متجاوزة إياه إلى الشرق لملء الفراغ الذين سيقسم بينهما[16] والذي يبدو أن أنقرة هي الرابحة الأكبر به حتى الآن، كما بدا بالاتصال الأخير بين الرئيس الأميركي ترامب ونظيره أردوغان، والذي اتفقوا به على تشكيل منطقة عازلة بعمق ٢٠ كم على الحدود التركية-السورية، [17] ستوسع منطقة نفوذ تركيا وتحميها، من أعدائها وحلفائها على السواء.