شعار قسم ميدان

عزلة 27 عاما.. قصة ناسك المستنقع الشمالي

ميدان - نهر
رجل اختبأ في الغابة طيلة 27 سنة، فوجد ما لم يعد أي منا قادرا على استيعابه: العزلة في الطبيعة. طيلة سبع وعشرين عاما قضاها في غابات ولاية "مين" الأميركية، لم ينبس "كريستوفر نايت" سوى بكلمة واحدة. لم يكلّم نفسه أبدًا، وتَفادى البشر بمهارة محارب ساموراي، قضى عقودا دون استعمال صوته.

في مخيمه المخفي في الغابة، ضحك نايت بصمت، وعطس بصمت، في خوف شديد من انكشاف أمره. أما المرة الوحيدة التي تحدث فيها، فكانت في التسعينات، حينما فوجئ بمتجوّل في طريقه. ليُلقَي عليه نايت كلمة "أهلا". لكن المتجول لم يلتفت إليه حتى، لم يكن يدرك أنه في حضرة ناسك المستنقع الشمالي الأسطوري نفسه.

 

لم يقبل نايت إجراء مقابلات صحفية، منذ اعتقاله في (نيسان/أبريل) 2013، إلا مع صحفي واحد. وهو"مايكل فينكل" حيث نشر مقالة عنه بمجلة جي كيو1 عام 2014، وله الآن كتاب بعنوان "الغريب في الغابة"، يجمع بين سرد قصة نايت واستكشاف وافٍ للعزلة والعلاقة الآخذة في التآكل بين الإنسان والطبيعة. ورغم أن نايت هو المقصود من كلمة "الغريب" في عنوان الكتاب، إلا أن القارئ سيشعر وهو يطوي آخر صفحات الكتاب، أن نايت، حاله كحال جميع الحكماء، هو العاقل الوحيد في عالم أصابه الجنون، وأن الحضارة الحديثة قد جعلتنا غرباء عن أنفسنا.

 

تواصل فينكل مع نايت لأول مرة في أثناء احتجاز الأخير بسجن مقاطعة "كينيبيك"، بعدما لاقى خبر القبض عليه اهتماما شعبيا عارما. وعلى أمل تعزيز موقفه، أرسل فينكل عددا من مقالاته إلى نايت، منها واحدة نشرت في مجلة ناشيونال جيوغرافيك عن قبيلة من جماعة "الصيادين القطافين"، تسكن الأخدود الأفريقي العظيم، النائي، في تنزانيا. تجاوب نايت مع خطاب فينكل مستعينا بإحدى أعمال الأخير. فتضمن الرد صورة فوتوغرافية مقتطعة من مقالة تنزانيا، وهي صورة زعيم قبلي يدعى "أونواس"، قضى حياته كلها في الأحراش. رغم تخييم أونواس برفقة عائلته، إلا أنه قضى فترات هائلة في عزلة صامتة، يحصي أيامه بعدّ دورات القمر. على مدار أكثر من مليوني عام، أو على طول التاريخ البشري كله تقريبا، كانت هذه طريقة عيش جنسنا. "هكذا نحن حقا"، كما كتب فينكل. وعلى مسار علاقتهما المتقطعة والمضطربة، ساعد نايت فينكل على استيعاب مستلزمات هذه العبارة. فإذا كنا جميعا، في حقيقتنا، نشبه أونواس، إذن -وليعننا الله- ماذا أصبحنا الآن؟
  

بعد أن استقال نايت من وظيفته، خرج في رحلته، دخل نايت الغابة فيما يشبه الانتحار تاركا كل شيء خلفه (رويترز)
بعد أن استقال نايت من وظيفته، خرج في رحلته، دخل نايت الغابة فيما يشبه الانتحار تاركا كل شيء خلفه (رويترز)

  
يصف فينكل قضية نايت أنها "على الأغلب، أكبر عملية سطو في تاريخ ولاية مين" لكن ذلك قد لا يكون دقيقا. فعلى سبيل المثال، بعد عام من القبض على نايت، سرق شابان في التاسعة عشر من عمرهما، أكثر من 200,000 دولار، من منزل بمدينة فينالهافن التي تقع على إحدى الجزر -حيث يميل صيادو ولاية مين إلى عدم الثقة بالبنوك-. أما نايت، فقد خطط ونفذ 40 عملية اقتحام سنويا، وهي ما تزيد في مجملها عن ألف عملية، وفق تقديراته هو، قبل الإمساك به متلبسا بسرقة حلوى مارشميلو وأكياس بطاطس هامبتي دامبتي، من مخزن مخيم للأطفال ذوي الإعاقات. كانت هذه حالة نموذجية، فقد كانت غنائمه من معظم اقتحاماتِه عبارة عن مكرونة معلبة، وأجبان، ومشروبات غازية، وأنابيب غاز البروبان -يستخدم كوقود وأحيانا للتدفئة-، وقماش مشمع، وروايات. سرق نايت ما يحتاج إليه للبقاء حيا. وجمع 395 دولار، أغلبها عملات من فئة الدولار الواحد، للحالات الطارئة، لكنه لم ينفق دولارا واحدا قط. حتى أن بعض العملات هرمت ولم تعد صالحة للاستخدام.

 

لكن سلسلة اقتحامات نايت الناجحة، هي من بين التفاصيل الأقل إثارة للدهشة في قصته. في سن العشرين، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، وإحدى الدرجات المهنية، استقال نايت من وظيفة فني إنذار، وقام برحلة بالسيارة إلى فلوريدا. وفي طريق العودة، مر إلى جوار منزل طفولته في قرية صغيرة تدعى ألبيون، تقع شمال شرق مدينة أوغستا، ثم واصل القيادة مئة ميل إضافي شمالا، حتى كاد ينفد وقوده على طريق ترابي صغير. دخل نايت الغابة فيما يشبه الانتحار، تاركا مفاتيحه داخل السيارة. لم يكن يملك وجهة محددة، أو خريطة. كان يحمل خيمة، رغم أنه لم يقض ليلة واحدة في خيمة من قبل. افترض معظم أفراد أسرته وأصدقائه وفاته، وهو افتراض يتضمن شيئا من الصحة.

 

سار نايت لأسابيع، باتجاه الجنوب، يسرق الطعام من حدائق الآخرين. وعند عثوره على الموقع المثالي، الذي تحميه صخور وغابات كثيفة، بين مستنقعين، على بعد خطوات من أقرب المنازل الصيفية الصغيرة التي تنتشر في المنطقة بالعشرات، كان على بعد 30 ميلا من منزل والديه، رغم جهله ذلك. كانت شبكة الهاتف المحمول في ذلك الموقع جيدة، وهو ما لاحظه فينكل. لقد كان مهتمّا بالتفاصيل المحيطة التي تعكس شخصية بطل الكتاب؛ فالمصطلح الجيولوجي الذي يطلق على الكتل الضخمة المحيطة بموقع نايت هو "الصخور الضالة". سطور كتاباته في الرسائل "متراصّة كما لو أنها تنشد الدفء". أما السيارة التي تركها على حدود الغابة "صارت جزءا من البرية مثلما هي منتج حضاري، بمرور الوقت".

 

اتخذ نايت احتياطات متطرفة لحماية عزلته. لم يشعل نارا مكشوفة قط، وابتدع مسارات فوق الصخور والجذور لتجنب ترك أي آثار أقدام. استغل خبرته في أنظمة الإنذار، لتعطيلِ كاميرات المراقبة، وتجسس على المنازل أياما، لرصد عادات أصحابها المعيشية، كما تجنب الإغارة صباحا أو في ليالي العطل الأسبوعية، ليقتصر ذلك على الأوقات التي يرجح فيها خلو المنازل من أصحابها. بمجرد دخوله إلى المنزل، يبحث نايت عن المفاتيح الاحتياطية، ويخفيها في بقعة أخرى من المكان، ليضمن نجاح أي اقتحامات مستقبلية. وكان يحرص على نثر أشواك الصنوبر فوق زورق للتجديف إلى المنازل الواقعة على الجانب الآخر من المستنقع بعد إعادتها، للإيحاء بأنه لم يغادر مكانه حينما استعارها.

كريستوفر نايت بعد القبض عليه.
كريستوفر نايت بعد القبض عليه.
   

كانت تحركاته شديدة الخفاء، وغنائمه شديدة التفاهة، بدرجة ظل معها السكان يعتبرون ناسك المستنقع الشمالي مجرد أسطورة. وقد كان هناك تجاهل متعمد من الطرفين. لم يعرف نايت اسم المستنقع الذي يلازمه إلا بعد القبض عليه، ولا اسم أقرب المدن "روما". زعم الناسك أنه يجهل السنة، بل حتى العقد الذي يعيش فيه. كان يراقب مرور الوقت مثلما فعل أونواس. "كان القمر عقرب الدقائق، والمواسم عقرب الساعات" كما قال لفينكل.

 

لم تكن حياة نايت سهلة، فقد اضطر إلى تحمل فصول شتاء ولاية مين، حيث تهبط درجات الحرارة إلى عشرين تحت الصفر، مما اضطره إلى الهرولة في الموقع، في الثانية صباحا، لكسر حدة الصقيع. لكن الغابة منحته الحرية، والخصوصية، والراحة النفسية

أي نوع من الرجال يمكن أن يكون لكي يتصرف ويتحدث بهذا الشكل؟ إنه رجل عصامي التعلم، بكل ما يستلزمه ذلك من خصال، من خطاب شديد الرسمية "عندما سئل عن طريقته للبقاء حيا، أجاب نايت: أنا فني غابات"، وبنرجسية قالها لفينكل "أنت مني بمنزلة بوزويل من صمويل جونسون"، وشعور بانعدام الأمن، ففي نقاش حول الأدب، أخبر نايت فينكل برفضه أن يجبره تنمر ثقافي على قراءة رواية عوليس بأكملها، رغم عدم لقائه مثقفا أو متنمرا واحدا طوال سبع وعشرين عاما. قد يملك المرء استعدادا وراثيا للعزلة، فقد لاحظ فينكل أن نايت ينتمي إلى عائلة تميل إلى العزلة. قال نايت لفينكل إنه يشتاق إلى "بعض" أفراد عائلته "إلى درجة ما".

 

لكن الجينات لا تستطيع تفسير الصرامة الاستثنائية لتنسّك نايت. فحص فينكل بعناية تاريخ النساك السابقين بحثا عن حالة مشابهة، بمن فيهم لاو تسي، ورهبان العصور الوسطى، وأنطونيوس الكبير ساكن المقابر، ورجال الدين الهندوس المقدر عددهم بأربعة ملايين في الهند، الذين يستخرجون شهادات وفاتهم قبل البدء في حياة الترهبن. لا يأتي نايت على ذكر كريستوفر مكاندلز، بطل كتاب "إلى البرية" لجون كراكور، الذي لم يكمل أربعة أشهر حيا بعد اختفائه في غابات التايغا بألاسكا، لكن مكاندلز لم يكن أمامه منازل صيفية يقتحمها. ينهي فينكل روايته للقصة بما بدأ به، ألا وهي النظرية القائلة بأن نايت دخل الغابة لأنه لم يكن ثمة مكان له في المجتمع الحديث. يقول نايت "لم أكن مسرورا". قبل الرحيل، كان نايت خجولا، وغير كفؤ اجتماعيا، وقلقا. أما بعده فيقول "كنت سيد الغابات".

 

لم يكن تنسك نايت نقيا تماما، لقد سرق أغذية مصنعة، ومرتبة تسع شخصين، واستمع إلى الإذاعة -الكثير من برامج الإذاعي راش ليمبو-، واستخدم أجهزة ألعاب الفيديو المحمولة. حتى أنه شاهد تلفاز باناسونيك، صغير الحجم، أحادي اللون، أمده بالكهرباء عبر بطاريات السيارات المسروقة "وهو اعتراف يثير الشكوك حول ادعائه الجهل بالعقد الحالي".

 

لم تكن حياة نايت سهلة، فقد اضطر إلى تحمل فصول شتاء ولاية مين، حيث تهبط درجات الحرارة إلى عشرين تحت الصفر، مما اضطره إلى الهرولة في الموقع، في الثانية صباحا، لكسر حدة الصقيع. لكن الغابة منحته الحرية، والخصوصية، والراحة النفسية. كما كان لها تأثير كبير على دماغه. اكتسب نايت ذاكرة فوتوغرافية، ونزوعا إلى التأمل العميق، ومدة انتباه غير محدودة. كان التجول قبل الفجر حتى شروق الشمس ثم مشاهدة تجمع الضباب في الوادي، أحد وسائله المفضلة لتمضية الوقت.
 

undefined

يقتبس فينكل عبارات من مجموعة دراسات علمية حديثة، للتدليل على أن مخيم نايت "قد يكون الوضع المثالي لتشجيع وظائف الدماغ على تحقيق أعلى مستويات الأداء". في كتابها الجديد "ترياق الطبيعة" الذي يناقش مجال البحوث الصحية البيئية المتنامي، تورد الصحفية فلورنس ويليامز عشرات الدراسات التي تخلص بأن الانفتاح على الطبيعة "يصب في مصلحة الحضارة"؛ فقضاء عدة أيام في الطبيعة يحسن الإبداع بنسبة خمسين بالمئة، ويطيل مدة الانتباه، ويقلل النشاط المفرط والعدوانية. وهناك علاقة بين العيش بالقرب من المحيط وسعادة المرء، كما تنخفض معدلات الوفاة في الأحياء السكنية الأكثر خضرة، وتزيد ضوضاء زحام الطرقات الضغط على القلب. بعبارة أخرى، إن اغترابنا المتزايد عن الطبيعة يقتلنا.

 

تنصح ويليامز برحلة تجديف تدوم أسبوعا، وهو جزء من ألف وأربعمائة جزء من تجربة نايت في البرية. فلقد اعتبر كثير من مصابي الحروب الذين رافقوا ويليامز، أن رحلة التجديف حدث غير في حياتهم

يتفق حدس معظم الناس، على الفائدة الصحية لممارسة التمارين الرياضية في الخارج، وزيارة الحدائق، والسير في الغابة. وقد بشّر الشعراء والفنانون بهذه القيم على مدار ألف عام، مثلما فعل مصممو المناظر الطبيعية بداية من -على أقل تقدير- "فريدريك لو أولمستد"، كما تذكر ويليامز. لكن العلماء الذين تستضيفهم ويليامز لا يرون أن الحدس وحده يكفي. يقول محاضر في هارفارد "علينا إثبات الأفكار علميا باستخدام علم وظائف الأعضاء، وإلا فكأننا لم نغادر بحيرة والدن بعد". تتفق ويليامز معه. وتكتب بعد نزهة في الحديقة الوطنية باليابان "أشعر أني أصغر سنا، وستثبت الاختبارات العلمية ذلك قريبا".

 

وبحثا عن هذا الإثبات، زارت ويليامز باحثين في فنلندا، وكوريا الجنوبية، وإسكتلندا، وولايتيّ يوتا ومين، تجيب على استبيانات تشخيص، وتقدم عينات لعاب، وتخضع لرصد معدل ضربات القلب، ورسم المخ الكهربائي، وترتدي أقطاب الأصابع الكهربائية. تعلمت ويليامز مصطلحات فنية لظاهرة مشابهة. فرائحة الأرض بعد المطر سببها هيدروكربون عطري يسمى جوسمين. وشرحت لها أخصائية في علم النفس البيئي بمدينة آن آربر كيف تضع مشاهدة تساقط الأمطار الشخص في حالة من "الافتتان الناعم".

 

جاءت النتائج التي توصلت إليها ويليامز مطمئنة إلى حد كبير، ودقيقة بصورة غريبة. كتبت ويليامز "لا تقلق، لن أطلب منك إلقاء هاتفك الذكي في شلال". أظهرت الدراسات أن تأمل صورة فوتوغرافية لغابة أفضل من التأمل في حائط من الجبس، وإن كانت النافذة ذات الإطلالة الجميلة أفضل من ذلك، أما التمشية في الخارج فهي الأفضل على الإطلاق. والتحديق في شجرة أوكالبتوس لمدة دقيقة تجعلك أكثر كرما. وبينما ستتحسن صحتك بمجرد السير في الحديقة لخمس دقائق، فإن 30 دقيقة ستفعل بك العجائب. قضاء خمس ساعات وسط الطبيعة شهريا هو كل ما تحتاج إليه، لكن، كما يقول أحد العلماء "لو استطعت جعلها عشر ساعات، فستتحسن نفسيتك بدرجة أكبر وأكبر".

 

وتنصح ويليامز برحلة تجديف تدوم أسبوعا، وهو جزء من ألف وأربعمائة جزء من تجربة نايت في البرية. فلقد اعتبر كثير من مصابي الحروب الذين رافقوا ويليامز، الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، أن رحلة التجديف حدثا غير حياتهم، رغم عدم اقتناع أحد الباحثين. فيقول "نحن لا نملك بيانات، أحتاج إلى رؤية دراسات عشوائية مضبوطة، دراسات أكبر حجما".
 

إنّ كتاب العزلة، مثله مثل كتاب محفّز الطبيعة، هو أكثر تشاؤماً في وصفاته التي يتمّ نقلها بلغة الثقافة التكنولوجيّة التي يحلمُ هاريس باجتنابها والبعد عنها
إنّ كتاب العزلة، مثله مثل كتاب محفّز الطبيعة، هو أكثر تشاؤماً في وصفاته التي يتمّ نقلها بلغة الثقافة التكنولوجيّة التي يحلمُ هاريس باجتنابها والبعد عنها

 

شعر الصحفي مايكل هاريس، مثلما شعرت ويليامز من قبله، أننا فقدنا شيئا ثمينا بخضوعنا للتكنولوجيا الطاغية. كان هذا موضوع كتابه الأول، "نهاية الغياب"، وظل بؤرة الاهتمام في كتابه الثاني. بدأ هاريس تأليف كتابه "العزلة.. السعي وراء حياة فردية في عالم مزدحم"، بعد إدراكه أنه لم يقض يوما واحدا من حياته منفردا، على الأقل دون تواصل إلكتروني مع آخرين. يتعجب هاريس قائلا "لماذا؟ هل أخشى صحبتي الهادئة؟" ليست العزلة موضوع كتابه الرئيسي، بقدر ما هي طرق تدميرها، أعني الموارد الرقمية التي يتجه إليها المرء كي لا يصير وحيدا أبدا، كوسائل التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو مثل كاندي كراش، والوميض والوكزات والتنبيهات التي لا يتوقف الهاتف عن إصدارها، ليعزز بها تعلق المستخدم العاطفي المرضي به. لاحظ هاريس أن ضرر أدوات الإلهاء هذه لا يقف عند إضعاف وظائف الدماغ، وتمييع إحساسنا بهويتنا، وتقليص حياتنا. إذ إنها تجعل الإنسان وحيدا.

 

إنّ كتاب العزلة، مثله مثل كتاب محفّز الطبيعة، هو أكثر تشاؤماً في وصفاته التي يتمّ نقلها بلغة الثقافة التكنولوجيّة التي يحلمُ هاريس باجتنابها والبعد عنها. وحينما يكتب بأنّ اختيار العزلة العقليّة هو "عملٌ تخريبي"، ويتوقّ لـ"يصبح هذا الاختيار منهاجه الخاص"، أو يتصوّر "شبكةً عنكبويتّة مغايرة، وأقلّ نموّاً"، فإنّه يبدو وكأنّه مثل وليامز التي تمجّد فضائل شتّى تطبيقات الطبيعة الجديدة، مثل التطبيق الذي يستعملُ برنامج الإدراك البصريّ لقياس "الإمكانيّة الاستصحاحيّة" للمكان، أو مثل التطبيق الذي يجمع البيانات الشخصيّة للمستخدمين لتحديد ما إذا كان المكانُ المُحدَّد يجعلهم أكثر سعادةً أم لا. تكتب ويليامز عن فضائل التنزه بين الطبيعة، مثل إخفاء هاتفك المحمول، "ولو في أعماق جيبك". وفي تجواله التجريبي الفردي، دفن هاريس هاتفه في جيبه الخلفي. قد تكون هذه خطوات إيجابية. لكن الهواتف -في نهاية الأمر- ما تزال في جيوبهم.
 

undefined


لاحظ كريستوفر نايت، أنه "لم يعد هناك كفاية من اللا شيء في العالم"، حتى لا شيئية السجن كانت أكثر مما يستطيع تحمله. جلس نايت في رعب، وزملائه في الحجز يحاولون إقناعه بعظمة الهاتف المحمول والرسائل النصية. "كانت هذه طريقتهم لإقناعي بالعودة إلى المجتمع" قال ذلك لفينكل. وتعجب كيف لشخص أن يستمتع باستخدام الهاتف كآلة تلغراف؟ "نحن نرجع إلى الخلف" قال نايت.

 

بعد سبعة أشهر في الحجز، حصل نايت على معاملة أكثر تساهلا. فانتقل للعيش مع والدته، ووظفه أخوه الذي يعمل في مجال الخردة، لفك أجزاء السيارات. تجاهل نايت طلبات فينكل المتكررة لإجراء مزيد من المقابلات، لكن الأخير ألح، حتى أنه زاره في منزل والدته. من الواضح أن البيت خال. انتظر فينكل في الخارج. فخرج نايت من بين الأحراش.

 

كان مكتئبا، ومشوشا، ووحيدا. تحدث نايت عن زيارة من سيدة الغابات، وهي تشخيص غاباتي (sylvan) للموت. يبدو أن الموت أفضل من التواصل الاجتماعي القهري. فحتى الوجوه البشرية، بكل ما تنقله من معلومات، سببت له الارتباك. وقبل أن يطلب من فينكل عدم الاتصال به ثانية، قال نايت "أنا أشتاق إلى الغابة".

 

سالت دموع فينكل لرؤية نايت على هذا الحال، مكسورا، ومحاصرا، ومنفيا من بيته الغاباتي. صحيح أن درجة إحساس ناسك المستنقع الشمالي بهذه المأساة تفوق كثيرين ممن سواه، لكنه ليس وحده؛ فقد كتب فينكل "لقد اختبر نايت أمرا أكثر عمقا من كل ذلك، مما يجعل إحساس الفقد هذا لا يحتمل". نحن أيضا، اختبرنا أمرا أكثر عمقا، وصار إحساس الفقد هذا لا يحتمل.

=========================================
 

 المقال مترجم عن: هذا الرابط

المصدر : الجزيرة