شعار قسم ميدان

لماذا يمثل صوت مضغ الطعام كابوسا مزعجا؟

midan - chew food eating

الاستماع إلى بعض الأصوات التي نعتبرها مزعجة وتثير تحفظنا يُعدّ أمرا مكروها لدى الكثيرين منا، مثل: صوت مضغ البعض للطعام، وصوت التنفس والسعال المرتفع، وصوت النقر بالقلم أو قضم الأظافر أو حتى صوت الكتابة على لوحة المفاتيح. هذه الأصوات تُعدّ لدى العديد من البشر أصواتًا غير محبذ سماعها، لكن هناك فئة من الناس تعرّضهم لهذه الأصوات يؤدي إلى حالة من الضيق الشديد والغضب، إذ يظهر عليهم انفعالية سلبية في حالة تعرّضهم لسماع تلك الأصوات. حتى ما قبل عام 2000 كان ينظر البعض إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم حساسون أكثر من اللازم، بينما ينظر إليهم البعض الآخر على أنهم يفتعلون ردة فعلهم ويبالغون فيها.

 

لكن في بدايات عام 2001 تم إطلاق مصطلح الميزوفونيا على هذه الحالة (المتمثلة في ظهور رد فعل عاطفي قوي والغضب والضيق الشديد عند التعرض لبعض الأصوات) لأول مرة على يد العالمين الأميركيين باول جاستروف ومارغريت جاستروف.(1) فكانت الميزوفونيا حالة مثيرة للجدل ولم يتم الاعتراف بها كاضطراب أو حالة طبية مرضية إلا مؤخرا بعد توالى العديد من النظريات ثم الدراسات والأبحاث حتى عامنا هذا، لذا وخلال هذا التقرير سنتجول للتعرف على المزيد حول الميزوفونيا ثم الإجابة عن تساؤلنا الرئيس: لماذا تسبب بعض الأصوات ضيقا وانزعاجا شديدا للبعض؟

 

الميزوفونيا.. اضطراب لكن على استحياء
يظهر اضطراب الميزوفونيا في مرحلة الطفولة المتأخرة ومرحلة ما قبل المراهقة، إذ يعتبر سن الثانية عشر هو العمر الأكثر مثالية لظهور هذا الاضطراب
يظهر اضطراب الميزوفونيا في مرحلة الطفولة المتأخرة ومرحلة ما قبل المراهقة، إذ يعتبر سن الثانية عشر هو العمر الأكثر مثالية لظهور هذا الاضطراب
    
الميزوفونيا عبارة عن اضطراب نفسي عصبي يعني كراهية الصوت، ويطلق على الميزوفونيا -أيضا- مصطلح متلازمة حساسية الصوت الانتقائية، نظرا لأن من يعاني من اضطراب الميزوفونيا يمتلك حساسية انتقائية شديدة تجاه الأصوات. فاضطراب الميزوفونيا (متلازمة حساسية الصوت الانتقائية) يشير إلى كره نوعية محددة من الأصوات، فمن يعاني من هذا الاضطراب يظهر عليه الانزعاج والغضب الشديد، وكذلك رد فعل انفعالي سلبي عند تعرضه لسماع بعض الأصوات -التي قد لا ينتبه إليها الكثيرون ولا تمثل أي مشكلة حقيقية بالنسبة لهم- مثل التنفس والسعال بصوت عالٍ، وصوت مضغ الطعام ورشف المشروبات، وصوت صرير الأقلام وقضم الأظافر، وكذلك صوت الكتابة على لوحة المفاتيح بالإضافة إلى العديد من الأصوات الأخرى.(2)

 

يظهر اضطراب الميزوفونيا في مرحلة الطفولة المتأخرة ومرحلة ما قبل المراهقة، إذ يعتبر سن الثانية عشر هو العمر الأكثر مثالية لظهور هذا الاضطراب. ورغم أن الاعتراف بالميزوفونيا كحالة متواجدة تم منذ بدايات عام 2001 فإن الأبحاث المتعلقة بانتشار الحالة كانت ضئيلة جدا، إذ لا توجد معايير رسمية للميزوفونيا في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، وهو ما يعتبر سببا جوهريا في أن يتم الاستخفاف بمن يعانون منها وألا يؤخذ كلامهم على محمل الجد.

 

اعتقد العلماء في عام 2010 أن الميزوفونيا عبارة عن حالة مرتبطة باضطراب في الجهاز العصبي، فتقول الباحثة في العلوم السلوكية والدماغ بجامعة تكساس آيج مولر إن الأمر غير الطبيعي في المصابين بالميزوفونيا هو أن هناك مُعضلة في معالجة دماغهم للصوت ليس في سماعه، وذلك لأن الأصوات التي ينزعجون منها قد تبدو طبيعية وغير مزعجة للآخرين. فتبني آيج تفسيرها على وجود خلل ما في المعالجة المركزية التي تقوم بها أدمغتنا للصوت، إذ تعتبر الحواس المتقاربة والذكريات والعواطف والإدراك مسؤولة عن ذلك.(3)

 

اضطراب الميزوفونيا ومحفزات محدثة باستمرار
في سياق المحاولات الجاهدة التي تسعى للتعرف إلى الميزوفونيا عن قرب، وبالتحديد في عام 2013 جاء الباحثون في أمستردام بالمعايير التشخيصية التي أدت إلى تصنيف الميزوفونيا كاضطراب نفسي جديد، وذلك اعتمادا على إجراء العديد من المقابلات مع أكثر من 40 شخصا يعاني من حالة الميزوفونيا، إذ توصل الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا يواجهون الإجهاد اليومي من أجل تجنب التعرض لتلك الأصوات المحفزة للميزوفونيا، إذ يتجنبون المواقف الاجتماعية ويلجأون إلى استخدام سماعات الرأس في محاولاتهم لحجب تلك الأصوات التي تصيبهم بالغضب.(4)
 

undefined  

يُطلق على الأصوات المزعجة التي تؤدي إلى الغضب والضيق الشديد عند التعرض لها وسماعها اسم المحفزات أو الأصوات المحفزة، لكونها المسؤولة عن تحفيز ظهور اضطراب الميزوفونيا الذي لا تقتصر أعراضه على الضيق أو الغضب، بل تمتد للأعراض البدنية والاضطرابات الفسيولوجية. فتتسع دائرة محفزات اضطراب الميزوفونيا لتضم فئة ضخمة جدا من الأصوات المحفزة، منها الأصوات المرتبطة بالفم وتناول الطعام، مثل الصوت المرتفع لمضغ الطعام أو العلكة، والتجشؤ وقضم الأظافر، والبصق والتحدث والطعام في الفم، وكذلك صوت الجز على الأسنان، وصوت استخدام فرشاة الأسنان.

 

كذلك الأصوات المرتبطة بالجهاز التنفسي، مثل التنفس بصوت عالٍ والتثاؤب والعطس وصفير الأنف والشخير. كما تلعب الأصوات البيئية التي نتعرض لها يوميا دورا محفزا للميزوفونيا، مثل صوت رنين الهاتف وصوت الرسائل النصية وكذلك صوت الضغط على زر الماوس أو الكتابة على لوحة المفاتيح. بالإضافة إلى أصوات الحيوانات، مثل نباح الكلاب وأصوات الطيور، وصوت محرك السيارة عند التشغيل. إذ لا تقتصر قائمة محفزات الميزوفونيا على تلك الأصوات فقط، بل تشمل العديد من الأصوات الأخرى، فالكثيرون ممن يعانون من الميزوفونيا تتطور الأصوات المحفزة للاضطراب لديهم باستمرار لتضم العديد من المحفزات الجديدة.(5)

 

جهود بحثية مضنية في البحث عن أسباب الاضطراب
قامت العديد من الدراسات البحثية للتعرف على مدى انتشار اضطراب الميزوفونيا بين البشر، فأشارت إحدى الدراسات البحثية التي نشرت عام 2013 إلى أن اضطراب الميزوفونيا ينتشر بنسبة 10% بين إجمالي السكان الأوروبيين، بينما قد تصل هذه النسبة إلى 60% بين الذين يعانون من طنين الأذن. ولم تقف المحاولات عند ذلك، فوفقا لإحدى الدراسات التي نشرت في عام 2014 في مجلة علم النفس السريري، فإن الميزوفونيا تؤثر على ما يصل إلى 20% من إجمالي السكان، مما يعني أن هذا الاضطراب موجود بنسبة ليست بالقليلة.(6)

 

كذلك للوقوف على الأسباب الحقيقية المؤدية إلى ظهور اضطراب الميزوفونيا قام فريق من الباحثين في بريطانيا بدراسة بحثية نشرت نتائجها في (فبراير/شباط) من العام الجاري 2017 في مجلة "كارنت بيولوجي" (Current Biology)، حيث اعتمدت الدراسة على مقارنة الاستجابة العصبية والفسيولوجية بين من يعانون من الميزوفونيا وغيرهم، فقام الباحثون باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي لمسح أدمغة 20 شخصا بالغا يعانون من الميزوفونيا و22 شخصا آخر لا يعانون منها، وذلك بعدما تعرض الفريقان للاستماع إلى ثلاثة أنواع من الأصوات:

  

الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا أصبحوا منزعجين وغاضبين جدا عند سماعهم إلى الأصوات المحفزة، كما ظهرت عليهم بعض التأثيرات الفسيولوجية مثل التوتر والتعرق والارتفاع غير المبرر في معدل ضربات القلب
الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا أصبحوا منزعجين وغاضبين جدا عند سماعهم إلى الأصوات المحفزة، كما ظهرت عليهم بعض التأثيرات الفسيولوجية مثل التوتر والتعرق والارتفاع غير المبرر في معدل ضربات القلب
  

 النوع الأول عبارة عن أصوات لا يحبذ أحد سماعها، مثل صراخ الأطفال والبكاء، والنوع الثاني عبارة عن أصوات محايدة من البيئة، مثل صوت المطر والرياح وصوت موج البحر، بينما النوع الثالث والأخير عبارة عن أصوات محفزة للميزوفونيا، مثل مضغ الطعام والتنفس بصوت مرتفع.

 

فكشفت النتائج الظاهرة أن الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا أصبحوا منزعجين وغاضبين جدا عند سماعهم إلى الأصوات المحفزة، كما ظهرت عليهم بعض التأثيرات الفسيولوجية مثل التوتر والتعرق والارتفاع غير المبرر في معدل ضربات القلب. وذلك على عكس المجموعة الثانية التي لم تتأثر إطلاقا بالأصوات المحفزة للميزوفونيا سواء على المستوى العاطفي والانفعالي أو الفسيولوجي.(7)

 

كيف يتعامل الدماغ مع الميزوفونيا؟
كشفت الدراسة التي تمت بقيادة الباحثين من جامعة نيوكاسل في المملكة المتحدة ونشرت في وقت سابق من هذا العام أن هناك تغيرات في الفص الجبهي بالدماغ تمثل الاستجابة العاطفية الناجمة عن تعرض مرضى اضطراب الميزوفونيا للأصوات المحفزة للاضطراب. فكشف مسح الدماغ الذي تم للمشاركين بواسطة تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي عن وجود فرق ملحوظ في أعصاب المجموعة التي تعاني من الميزوفونيا عن المجموعة الأخرى، إذ ارتبط التعرض للأصوات المحفزة للميزوفونيا بزيادة نشاط العديد من المناطق المختلفة بالدماغ مثل: الفص الجبهي، والحُصين واللوزة العصبية، بالإضافة إلى القشرة الانعزالية الأمامية.

 

فتعتبر القشرة الانعزالية الأمامية هي المسؤولة عن العديد من الوظائف المرتبطة بالعاطفة والوعي والإدراك والاهتمام والخبرة وكذلك الغضب ودمج المدخلات الخارجية وربطها مع مدخلات أجهزة الجسم المختلفة مثل القلب والرئتين. وهو ما يفسر -تماما- سبب ردود الفعل العاطفية السلبية التي تصدر ممن يعانون من الميزوفونيا عند سماعهم للأصوات المحفزة، فعند تعرض مرضى الميزوفونيا إلى الأصوات المحفزة ينشط عمل القشرة الانعزالية الأمامية فتبدأ بالتركيز تلقائيا على تلك الأصوات المزعجة بدلا من تلاشيها، إذ تقوم بدمج مدخلات الانزعاج والغضب وربطها بالمدخلات الفسيولوجية، مما يؤدي إلى ظهور التوتر والتعرق وزيادة معدل ضربات القلب جنبا إلى جنب مع الانزعاج والضيق عند سماع تلك الأصوات.(8)

 

هل من علاج؟
المريض باضطراب الميزوفونيا يلجأ للانسحاب من الحياة الاجتماعية ويبدأ بالابتعاد عن التجمعات من حوله، وتسوء حياته المهنية والوظيفية
المريض باضطراب الميزوفونيا يلجأ للانسحاب من الحياة الاجتماعية ويبدأ بالابتعاد عن التجمعات من حوله، وتسوء حياته المهنية والوظيفية
  


قد يعتقد البعض أن اضطراب الميزوفونيا عبارة عن خلل بسيط ليس كباقي الاضطرابات النفسية التي تؤثر على حياة الفرد بكافة جوانبها، لكن هذا الاعتقاد خاطئ تماما، فتؤثر الميزوفونيا على حياة مرضاها الاجتماعية والعائلية وكذلك المهنية أو الوظيفية، فالمريض باضطراب الميزوفونيا يلجأ للانسحاب من الحياة الاجتماعية ويبدأ بالابتعاد عن التجمعات من حوله، كذلك تسوء حياته المهنية والوظيفية إن كان يقوم بالعمل الجماعي داخل فريق، لأنه يفضل الابتعاد عنهم خوفا من التعرض للأصوات المحفزة لاضطرابه على يديهم.

 

وبما أن الاعتراف بالميزوفونيا كاضطراب نفسي لم يحدث إلا قريبا، فحتى الآن لم تتوصل البحوث إلى حل صارم أو علاج فعلي لمن يعاني من اضطراب الميزوفونيا بالرغم من المساعي الحثيثة والجهود المُضنية التي تبذلها، بل تقتصر العلاجات المتاحة حتى الآن على تدريب المرضى على تحسين قدرتهم على التحكم في الأصوات المحفزة للميزوفونيا عن طريق تحملها والتكيف معها والعمل على تجاهل تلك الأصوات واللجوء إلى الانشغال في شيء آخر، وكذلك الاستماع إلى الضوضاء البيضاء كأصوات المطر والرياح وأمواج البحر.

 

ورغم أن الأدوية لا تستخدم -عادة- لعلاج اضطراب الميزوفونيا فإنه كانت هناك محاولات لتجربة استخدام بعض المكملات الغذائية والأدوية التي تعالج القلق والاكتئاب والعلاجات الدوائية لاضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، لكن كانت نتائجها ضئيلة وغير مرضية. كما قد يمثل العلاج السلوكي المعرفي نهجا علاجيا لاضطراب الميزوفونيا كغيره من الاضطرابات النفسية، إذ ينطوي على التطرق إلى الأفكار والمعتقدات السلبية التي قد تُسهم في معاناة المريض والعمل في تغييرها واستبدالها بالمعتقدات الإيجابية التي تعزز التخلص من الاضطراب.(9)

المصدر : الجزيرة