شعار قسم ميدان

قلق الطفولة.. اضطرابات نفسية تهدد مستقبل الطفل

 

من الطبيعي أن تحفز المواقف غير المألوفة أو الصعبة مشاعر القلق لدى الناس باختلاف أعمارهم، وتتراوح مشاعر القلق تلك من عدم الارتياح وصولا إلى الذعر التام وذلك اعتمادا على الشخص والموقف الذي يمر به، لذا قد لا يختلف القلق عند الأطفال كثيرا عن قلق الكبار في ماهيته، فالقلق في كلتا الحالتين عبارة عن مشاعر بشرية طبيعية، إذ يحفز قدرة الجسم على مواجهة الخطر وحمايتنا كبشر من التهديدات المحيطة.(1)

 

فالقلق عند الأطفال -في مستوياته المعتدلة- عبارة عن عملية طبيعية وجزء لا يتجزأ من حياتهم، كالكبار تماما، إذ يحدث قلق الطفولة عند طفل واحد -على الأقل- من بين كل 4 أطفال بين سن 13 و18 عاما، لكن رغم انتشار قلق الطفولة إلى هذا الحد فإن نسبة انتشار اضطرابات القلق الحاد لدى الأطفال بين 13 و18 عاما حوالي 6%، أي أن اضطرابات قلق الطفولة الشديدة تركت دون علاج في حوالي 6% من الأطفال وهو ما يعتبر مشكلة في غاية الخطورة، ذلك لأن تراكم اضطرابات القلق في الطفولة -نتيجة لعدم قدرة الأطفال على التكيف معها والتغلب عليها- يرتبط ارتباطا وثيقا بحدوث الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب، ومرض الفصام عند البالغين، بالإضافة إلى العديد من الأمراض النفسية والعقلية التي يتعرض لها الأطفال فيما بعد مرحلة البلوغ.(2)

 

عنوان ميدان

صورة ميدان
يظهر قلق الطفولة مع الأطفال الذين لا يمتلكون القدرة على التعبير عن أنفسهم أو مشاعرهم بشكل فعال على صورة خلل في السلوك مثل الانهيار أو المعارضة أو حتى العدوانية

يتسع مفهوم اضطرابات قلق الطفولة ليشمل عدة اضطرابات أخرى مثل: اضطراب القلق العام، والقلق الاجتماعي، وكذلك اضطراب قلق الانفصال، واضطراب الهلع، بالإضافة إلى الخرس (الصمت) الاختياري، والفوبيا (الرهاب) من أشياء محددة بعينها. وفقا للباحثين وخبراء الصحة النفسية فإن 9% من الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة ابتداء من سن الرابعة يعانون من اضطراب قلق الطفولة، كما يعانون من اضطراب قلق الانفصال في سن السادسة، بينما في سن العاشرة يعانون من اضطراب القلق العام، كل ذلك مع غطاء قوي من القلق الاجتماعي خلال فترة الطفولة المتأخرة بداية من سن الثالثة عشر وصولا إلى نهاية مرحلة الطفولة في سن الثمانية عشر.(3)

 

يظهر اضطراب القلق عند الأطفال في الكثير من الحالات عن طريق الانسحاب من المواقف التي تثير المخاوف والتقليص من الأشياء والأفعال التي تحفز الضغوطات، فيظهر سلوك الانسحاب الذي لا يمكن إدارته أو التحكم فيه من قبل الأطفال كاستجابة إلى الحاجة الماسة للخروج من الوضع غير المريح، لكن غالبا ما يُساء فهم هذا السلوك، إذ يتم تفسيره على أنه حالة من العدوانية والمعارضة والغضب. تقول الدكتورة لورا براجر (مديرة خدمة طوارئ الطب النفسي للأطفال في مستشفى ماساتشوستس العام) إن قلق الطفولة يعتبر واحدا من تلك التشخيصات فائقة التخفي التي من الممكن أن تبدو مثل الكثير من التشخيصات الأخرى، خاصة مع الأطفال الذين لا يمتلكون القدرة على التعبير عن أنفسهم أو مشاعرهم بشكل فعال من خلال الكلمات، أو الأطفال الذين لا يستمع إليهم من حولهم، وبالتالي يظهر قلقهم على صورة خلل في السلوك مثل الانهيار أو المعارضة أو حتى العدوانية، وهو ما يفسره من حولهم على أنه نوع من الغضب وليس اضطراب من اضطرابات القلق.(4)

 

عنوان ميدان

يعاني العديد من الأطفال من قلق الانفصال الطبيعي بين سن 18 شهرا و3 سنوات، وهو قلق طبيعي يتعرض له الأطفال عندما يخرج أحد الوالدين من المنزل أو يختفي عن الأنظار أو يتركهم بمفردهم، بينما يتحول هذا القلق الطبيعي إلى اضطراب قلق الانفصال -كجزء أصيل من اضطرابات قلق الطفولة- عندما يحدث في الأطفال الأكبر سنا، إذ يعاني الطفل من القلق المفرط عند الابتعاد عن والديه أو أحد أفراد أسرته، فلا يقوي على الذهاب إلى النوم بمفرده ولا يقدر على ترك المنزل والذهاب إلى المدرسة، فيؤثر اضطراب قلق الانفصال على 4% من الأطفال، إذ يحدث عند الأطفال في سن السادسة، بينما يكون أكثر شيوعا في الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و9 سنوات(5).

اضطراب قلق الانفصال

يعاني العديد من الأطفال -أيضا- من اضطراب القلق العام، وهو القلق المفرط والمستمر بشأن العديد من الأشياء المختلفة مثل: الصحة أو العائلة أو المدرسة أو الاختبارات أو المال أو السفر وغيرها من الأشياء التي تشغل تفكير الطفل خلال حياته اليومية، فيؤثر اضطراب القلق العام في 3.1% من سكان الولايات المتحدة الأميركية، أي ما يصل إلى 10 ملايين شخص بالغ.(6)

بالإضافة إلى اضطراب قلق الانفصال واضطراب القلق العام، يعاني الكثير من الأطفال -بداية من سن الثالثة عشر- من اضطراب القلق الاجتماعي، ووفقا للجمعية الأميركية للقلق والاكتئاب فإن اضطراب القلق الاجتماعي يؤثر في حوالي 15 مليون شخص أميركي بالغ، وهو عبارة عن اضطراب يعاني فيه الفرد من القلق الشديد والتوتر الزائد في المواقف التي يشعر فيها بأنه في بؤرة التركيز، أو عند التحدث أمام الغرباء حيث يشعر بالقلق خوفا من أن يتم الحكم عليه من قبل الآخرين.(7)

عنوان ميدان

لا يوجد سبب أساسي واضح -إلى الآن- مسؤول عن حدوث اضطرابات القلق لدى الأطفال، حيث يعتقد خبراء الصحة النفسية أن القلق نابع من تشابك العديد من المسببات التي يؤدي كل منها دورا في ظهور اضطرابات القلق، فيلعب كل من علم الوراثة والجينات وكيمياء الدماغ الحيوية دورا جوهريا في إثارة اضطرابات القلق -جنبا إلى جنب- مع السلوكيات المكتسبة ونمط المعيشة وأسلوب الحياة المسبب للإجهاد والتوتر. فتؤثر الجينات على كيمياء الدماغ وتنظيم النواقل العصبية، حيث إن الطفل الذي يعاني أحد أفراد عائلته من القلق يكون لديه فرصة أكبر لتطوير اضطرابات القلق في طفولته المبكرة، بالإضافة إلى ذلك فقد تمهد التحولات الرئيسة والظروف المعيشية والاضطرابات الحياتية التي تحدث في حياة الطفل مثل تعرضه للاعتداء أو خسارة أحد أفراد أسرته أو حتى الانتقال من مدينة إلى أخرى إلى الإصابة باضطرابات القلق في مرحلة الطفولة.(8)

صورة ميدان

فيؤثر اضطراب قلق الطفولة على حياة الطفل بكافة جوانبها، ففي الغالب يتجنب الأطفال التحدث عما يمرون به خوفا من عدم تفهم آبائهم وتوجيه النقد لهم أو اتهامهم بالضعف والخوف والجبن، وبالتالي فإنه يمكن التعرف على الأعراض المميزة لاضطرابات القلق من خلال طريقة تفاعل الأطفال مع حياتهم الاجتماعية بشكل عام، حيث يعد سلوك الطفل في المنزل والمدرسة مؤشرا مهما يمكن الاسترشاد به.

 

تتميز أعراض وعلامات اضطرابات قلق الأطفال بانتقائيتها وخصوصيتها حيث تختلف الأعراض باختلاف نوع الاضطراب، لكن يمكن تحديد الأعراض العامة لاضطرابات القلق عند الأطفال في الخوف والقلق المفرط وعدم القدرة على التحكم في المخاوف والسيطرة عليها، وكذلك الغضب وضعف التركيز والتهيج وحدوث الشد العضلي، بالإضافة إلى آلام البطن والإرهاق المستمر والإعياء المتوالي أثناء ساعات النهار، وكذلك الأرق واضطرابات النوم.(9)

 

عنوان ميدان

تشير العديد من الأدلة إلى أن اضطرابات قلق الطفولة مسؤولة بشكل جوهري عن حدوث العديد من الاضطرابات النفسية والعقلية للأطفال بعد المرور بسن البلوغ، ففي إحدى الدراسات المطولة التي تمت بإنجلترا قام الباحثون بدراسة 500 طفل (ذكر) منذ سن الولادة وحتى 18 و21 عاما، خلال هذه الفترة تم توجيه العديد من الأسئلة -لأمهات الأطفال- التي توضح كافة التحولات الجوهرية، والظروف الحياتية والمعيشية التي مر بها الأطفال، وبعد وصول الأطفال إلى مرحلة البلوغ والشباب قام الباحثون بفحص أدمغتهم باستخدام تكنولوجيا التصوير بالرنين المغناطيسي، حيث كشفت الدراسة أن الأطفال الذين تعرضوا لاضطرابات القلق أو مروا بحياة صعبة قبل سن السادسة كانوا أكثر عرضة للانعزال والاكتئاب عند البلوغ.(10)

 صورة ميدان

كما ترتبط اضطرابات قلق الطفولة ارتباطا وثيقا بالاضطراب ثنائي القطب ومرض الفصام، إذ تشير الأدلة أن اضطرابات القلق عند الأطفال تلعب دورا أساسيا في الإصابة بمرض الفصام والاضطراب ثنائي القطب بعد البلوغ، فوفقًا لإحدى الدراسات التي استعرضت الأبحاث التي تمت بين عامي 1966 و2004 فإن ما بين 30% إلى 85% من الأفراد الذين يعانون من اضطرابات طيف الفصام قد مروا باضطرابات القلق في مرحلة ما في سن الطفولة.(11) أما وفقا للجمعية الأميركية للقلق والاكتئاب فإن العديد من الأطفال المصابين بالاضطراب ثنائي القطب يعانون من اضطراب قلق واحد -على الأقل- من اضطرابات قلق الطفولة، وبما أن عمر بداية اضطرابات القلق غالبا ما يسبق سن بداية الاضطراب ثنائي القطب، فإن اضطرابات قلق الطفولة تعتبر عنصرا جوهريا في الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب في مرحلة الطفولة المتأخرة ومرحلة البلوغ.(12)

 

عنوان ميدان

العديد من الآباء والأمهات يرفضون الاعتراف بوجود قلق الطفولة لدى أبنائهم رغم وجود أعراض الاضطراب، بل يجدون في الاعتراف به وصمة اجتماعية، وهو ما يؤدي إلى أن الكثيرين من الأطفال يستمرون في المعاناة من اضطرابات قلق الطفولة لمدة تتراوح بين عامين وسبعة أعوام قبل أن يتقبل الآباء المشكلة، والبدء في رحلة التكيف والعلاج مع أطفالهم، وهو ما يمنع الطفل من القدرة على التعامل مع القلق منذ بدايته، مما يحرم الطفل من فرصة جوهرية لتعلم كيفية إدارة القلق والتكيف معه، بل والتخلص منه بسهوله.

صورة ميدان

فيما يتعلق باضطراب القلق الاجتماعي فإن 36% من الناس الذين يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي لا يسعون إلى طلب المساعدة إلا بعد مرور 10 سنوات أو أكثر على ظهور أعراض الاضطراب، وبالتالي فتعتبر أفضل طريقة للتعامل مع القلق عند الأطفال هي اعتراف الوالدين بوجوده والتيقن بمدى ضرره وتأثيره السلبي فيما بعد مرحلة المراهقة والشباب، ثم البدء في إجراء النقاشات والتحدث مع الأطفال عن الضغوط التي يعانون منها ودعمهم دون الخجل مما يمرون به.

 

فتشمل علاجات اضطرابات قلق الطفولة كلا من العلاج الدوائي والسلوكي، أما عن العلاج الدوائي فلا بد أن يتم تحت إشراف الطبيب المعالج أو أخصائي الصحة العقلية الذي سيحدد نوعية اضطراب القلق الذي يعاني منه الطفل وبناء عليه يتم تحديد العلاج الدوائي المناسب. أما عن العلاج المعرفي السلوكي فهو يعتبر حلا جوهريا لعلاج اضطرابات القلق لدى الأطفال، فوفقا لنوعية القلق الذي يعاني منه الطفل يتم وضع خطة لمساعدته على تعزيز الأفكار والاعتقادات الإيجابية، إذ يجرب الطفل طرقا جديدة للتفكير ويحاول التصرف في الحالات والمواقف التي يمكن أن تسبب القلق بطرق مختلفة، كذلك بتعلمه لمهارات التكيف مع القلق والتعامل مع الإجهاد عبر تقنيات الاسترخاء.(13)

المصدر : الجزيرة