شعار قسم ميدان

"أثبتت الدراسات".. كيف يباع الوهم بقالب علمي؟

midan - منوعات
مقدّمة المترجم
قد يكون مفهوم الهراء مادّة للتندّر، ولكن إذا عرّفناه على أنه تلاعب بالحقيقة، وإذا ما فهمنا أنه ظاهرة موجودة في مجالات غاية في الحساسية، كإعطاء نصائح طبية بقالب علمي، حينها يصبح الهراء مسألة جدّية وخطيرة، قد تؤدّي إلى خداع الناس لأغراض التسلية أو الربح، فيما قد تسبّب لهم أذى كبيرا لهم، بل وحتى وفاتهم!

          

نص التقرير
نحن نعيش في عصر المعلومات، مما يعني أننا نعيش أيضا في عصر المعلومات الكاذبة. في الواقع، أنت على الأغلب عاينت كمية أكبر من الهراء هذا الأسبوع فقط مما يراه شخصُ عاديّ عاش قبل 1000 سنة في حياته بأكملها. وحتى إذا قمنا بجمع عدد كل الكلمات في كل وثيقة علمية تم نشرها قبل عصر التنوير، فإن هذا العدد سوف يتضاءل بالمقارنة مع عدد الكلمات المستخدمة لنشر الهراء على شبكة الإنترنت في القرن الـ 21 وحده.

     

إذا وجدت نفسك بدأت توافقني الرأي، فتوّقف الآن! فما قلته مجرّد هراء! فكيف يمكن لي أن أعرف كميّة الهراء الذي عاينته أنت هذا الأسبوع؟ ماذا لو كنت تقرأ هذه المقالة في يوم الأحد؟ من هو هذا الشخص العادي الذي عاش قبل 1000 سنة؟ وكيف يمكنني أن أعرف كمية الهراء الذي كان يتعامل معه في حياته؟

      

في الحقيقة، كان من السهل جدا كتابة هذا الهراء، فبمجرد أنني سعيت إلى إقناع القارئ بدلا من إعلامه، تم رفع عبء التحقّق من صحّة المعلومات عن كتفيّ ووضعته على كتفيك. قد تكون جملتي الافتتاحية صحيحة تماما، ولكن ليس لدينا أي طريقة للتأكّد من ذلك، وصحّتها من عدمها هي في الحقيقة غير مهمّة بالنسبة لي، أنا، كاتب هذا الهراء.

         

في تغريدات
في تغريدات "ديباك تشوبرا" بطل الروحانيات والطب البديل الشهير، يصعب علينا تحديد ما إذا كانت هراء، فالكلمات التي يختارها معقدة بشكل لا داعي له
      

وفقا للفيلسوف هاري فرانكفورت، وهو بروفسور فخري في جامعة برينستون، فإن الهراء هو شيء يتم نسجه دون أي اكتراث بالحقيقة. وهذا يختلف عن الكذب، الذي عادة ما ينطوي على اكتراث كبير بالحقيقة (بمعنى الاكتراث بقلبها). أما الهراء فهو شيء أكثر خبثا، لأن كاتبه يتبنى موقفا معرفيا يسمح بقدر كبير من المناورة حول الحقيقة. بالنسبة لكاتب الهراء، فإنه لا يهم حقا ما إذا كان على حق أو على باطل. ما يهم هو أنك سوف تولي اهتماما لما يقول. 

   

ولكن كيف يمكننا التحقّق من الهراء عمليا؟ فلنأخذ كمثال حالة بطل الروحانيات والطب البديل الشهير ديباك شوبرا. إليكم بعض تغريداته:

"ميكانيكا التمظهر: النية، والانفصال المتمركزة في الوجود تسمح للاحتمالات المتزامنة بالحدوث #الوعي-الكوني"

"باعتبارنا كائنات من الضوء، نحن في آن محليّون وغير محلّيين، ملزمون بالوقت وغير ملزمين، وفعليون ومحتملون  #الوعي-الكوني"

         

دون معرفة نوايا تشوبرا، فإنه من الصعب إلى حد ما تحديد ما إذا كانت هذه التغريدات هراء. فالكلمات التي اختارها تشوبرا معقدة بشكل لا داعي له، والمعاني المقصودة ليست واضحة بشكل تام. ربما تمت صياغة هذه التغريدات للإقناع بدلا من الإعلام. وربما استخدم "شوبرا" الغموض كأداة لادعاء العمق في المعنى.

    

بطبيعة الحال، يظل هذا رأيي. وهناك بالتأكيد بعض الناس الذين يجدون مثل هذه التصريحات عميقة. فمن أنا لأقول إنها هراء؟ في الحقيقة، لقد قمت ببعض البحوث التجريبية حول الهراء، والنتائج واضحة. لقد قمت والمتعاونون معي مؤخرا بنشر ورقة بحثية حول ما وصفناه بأنه "هراء شبه-عميق". لفهم كيف قمنا بالتحقيق حول الهراء تجريبيا، أنظروا إلى الأمثلة التالية:

"غير المرئي هو أبعد من الخلود الجديد"

"عندما تحقّق ذاتك سوف تدخل في مرحلة التعاطف اللانهائي الذي يتجاوز التفّهم"

     

إن هذه التصريحات هي، بالتأكيد، هراء. أستطيع أن أقول هذا بفم ملآن لأن هذه الجمل تم إنشاؤها باستخدام موقعي: wisdomofchopra.com  (حكم تشوبرا) و New Age Bullshit Generator (موّلد هراء العصر الجديد). يقوم الموقعان باختيار الكلمات الرنانة بشكل عشوائي واستخدامها لتشكيل الجمل. وهي ليس لديها أي معنى مقصود وتستخدم الغموض لإخفاء انعدام المضمون فيها. أي أنها هراء.

           

undefined

            

من خلال أربع دراسات شملت أكثر من 800 مشارك، وجدنا أن الناس يقومون باستمرار بوصف الهراء السافر في مثل هذه الجمل على أنه عميق. والأهم من ذلك، أن هذا الميل – الذي أشرنا إليه على أنه معدّل تقبل الهراء – كان أكثر شيوعا بين الأشخاص الذين لم يحقّقوا نتائج جيّدة في مجموعة متنوعة من الاختبارات المعرفية والقدرة على التفكير، وأيضا من الذين يحملون معتقدات دينية وغيبية. وبعبارة أخرى، كان الأشخاص الأكثر منطقية وتحليلية وشكّا هم الأقل عرضة لاعتبار الهراء على أنّه عميق، تماما كما قد تتوقع.

    

الأهم من ذلك، قمنا أيضا في  دراساتنا بإدماج اقتباسات تحفيزية كتبت بلغة واضحة وكان لها معنى واضح (على سبيل المثال، "يمضي النهر من بين الصخور، ليس بسبب قوته ولكن إصراره"). المثير للدهشة أن أكثر من 20 في المائة من المشاركين وجدوا الجمل التي تتألف من كلمات رنّانة عشوائية على أنّها أكثر عمقا من هذه الجمل ذات المعنى الواضح! وكان لدى هؤلاء الأشخاص بشكل خاص قدرة ضعيفة جدّا على كشف الهراء. هؤلاء الناس أيضا حقّقوا نتائج سيّئة في اختبارات التفكير التي قمنا بها، مما يشير إلى أنهم يتميزون بالتفكير البديهي الطابع ويميلون لأخذ القرارات دون تفكير معمّق.

    

فماذا عن تشوبرا إذن؟ أحد المواقع التي استخدمناها (wisdomofchopra.com) يأخذ في الواقع الكلمات مباشرة من صفحته على تويتر. الخطوة المنطقية التالية كانت تضمين أقواله في أبحاثنا، وتقديمها إلى المشاركين فيها جنبا إلى جنب مع العبارات الرنّانة، من دون ذكر تشوبرا. بطبيعة الحال، ليس كل ما قاله تشوبرا هو من قبيل الهراء، ولكن هذه التغريدات كانت كذلك بكل تأكيد ويمكنكم أن تقرروا بأنفسكم ما إذا كانت هذه التغريدات تمثّل فكره أم لا.

   

على الرغم من أن العديد من الناس قاموا بتصنيف تغريدات تشوبرا على أنها أكثر عمقا بقليل من الجمل العشوائية، فإن ترتيبات "العمق" بين الصنفين من الجمل كانت مترابطة بشدة. على مقياس من 0-1، حيث الـ 0 يشير إلى عدم وجود ارتباط و1 يشير إلى وجود ارتباط كامل، أتت نسبة الارتباط 0.88. وعلاوة على ذلك، فإن  تصنيف كلا النوعين من الجمل ارتبط بنفس العوامل النفسية. وبعبارة أخرى، كانت تغريدات تشوبرا لا يمكن تمييزها نفسيا عن الهراء.

   

يمثل هذا البحث أول تحقيق تجريبي من نوعه حول الهراء، على ما أعرف. ومع ذلك، فهذا فقط غيض من فيض كبير جدا. فنحن نعاين كميّات كبيرة من الهراء كل يوم، في الإعلانات، والسياسة، والصحف، والتلفزيون – فيبدو أن الهراء يطفو على السطح بمجرد أن تبدأ في البحث عنه. إن النتائج التي توصلنا إليها مسلية، ولكن الهراء ليس مسألة للاستهزاء. ففي حين أن شطحات تشوبرا على تويتر قد لا تكون مشكلة كبيرة بحد ذاتها، فإن عدم احترام الحقيقة الذي يصاحب الهراء له عواقب وخيمة جدّا. فلننظر مثلا في دور الهراء في مجالات خطيرة للغاية مثل الطب والصحة العامة. فقد استخدم الدكتور محمد أوز، جرّاح القلب ومقدّم برامج التلفزيون الأميركي، خلفيته الطبية لتسويق "العلاجات المزيّفة … لتحقيق مكاسب مالية شخصية". ووجدت المجلة الطبية البريطانية أن أقل من نصف التوصيات التي قام الدكتور أوز بتقديمها في برنامجه كانت تستند إلى أدلة موثوقة.

        

مقدم برامج التلفزيوني الأميركي
مقدم برامج التلفزيوني الأميركي "محمد أوز" يحتوي برنامجه على الكثير من الهراء، فإرضاء مشاعر مشاهديه هي الأكثر أهمية له من تقديم المعلومات الموثوقة لهم
    

عندما تمت مواجهة أوز حول ادعاءاته بأن العلاجات غير المجرّبة هذه هي "معجزة طبية" من قبل لجنة فرعية في مجلس الشيوخ في عام 2014، أجاب أوز بقوله: "أشعر أن وظيفتي الأساسية هي تشجيع الجمهور". أي باعترافه نفسه، يحتوي برنامجه على الكثير من الهراء وأن إرضاء مشاعر مشاهديه هي أكثر أهمية من تقديم المعلومات الموثوقة لهم. ومع ذلك، يأخذه مشاهدوه على محمل الجدّ عندما يسعون إلى تحسين صحتهم.  لكن عندما تكون صحّة الإنسان على المحك، ينبغي أن تكون الحقيقة هي الهمّ الرئيسي.

    

من الشائع جدا الآن لدعاة الطب البديل التأكيد على ما يسمّونه "التقبّل والانفتاح" على علاجاتهم. ولكن للأسف، يمكن أن يستتبع ذلك تجاهل الأدلة التجريبية حول نجاعة بضاعتهم. على سبيل المثال، لا يبدو أن العديد من معارضي التلقيح الطبّي يكترثون بحقيقة أن ادّعاءات أندرو ويكفيلد السيئ السمعة في مجلة "لانسيت" في عام 1998، والذي قال بوجود رابط بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية وبين مرض التوحد، قد تم دحضها وسحبها من التداول منذ مدّة طويلة. والواقع أن العرض المباشر لهذه الحقيقة لا يفعل شيئا يذكر لثني أولئك الذين سقطوا فريسة لهراء الحركة المناهضة للتلقيح. إن الأمراض مثل الحصبة والنكاف قد عادت الآن إلى الولايات المتحدة، ووفقا لموقع إلكتروني واحد على الأقل، أحصيت أكثر من 9000 حالة وفاة كان يمكن تجنبها نجمت عن الفشل في التلقيح ضدّ هذه الأمراض في الولايات المتحدة منذ عام 2007. في هذه الحالة فإن الهراء قاتل.

    

في كتابه، "عن الهراء On Bullshit) " 2005)، لاحظ فرانكفورت أن "معظم الناس واثقون نوعا ما من قدرتهم على التعرّف على الهراء وتجنّبه". ومع ذلك، فإن أكثر من 98 في المائة من المشاركين في دراستنا صنفوا عنصرا واحدا على الأقل في أمثلتنا في جدول الهراء على أنّه "عميق". نحن لسنا جيّدين في التعرّف على الهراء كما نعتقد.

    

إذا، كيف يمكن لك -أنت القارئ- تطعيم نفسك ضد الهراء؟ بالنسبة إلى غير الروحانيين منّا، قد يكون من السهل نسبيا التعرف على ما إذا كان تشوبرا أو أوز يكترثون للحقيقة أكثر مما يهتمون ببيع الكتب أو تسلية المشاهدين. ولكن عد مرة أخرى إلى فقرتي الافتتاحية. إن كشف الهراء يصبح مسألة أصعب بكثير عندما نريد أن نتفق مع ما يقال. اذن الخطوة الأولى والأهم هي التعرف على حدود الإدراك لدينا. ويجب أن نكون متواضعين بشأن قدرتنا على نقد معتقداتنا. هذه هي المفاتيح للتفكير النقدي- وهو أملنا الوحيد في عالم مليء بالهراء.

 ______________________________________________________

     

مترجم عن: أيون

المصدر : الجزيرة