شعار قسم ميدان

على طريقة دافنشي.. خطوات تقودك للإبداع في العمل

ميدان - إبداع عمل

تخيل أنك في اجتماع غير متوقع مع مديرك وطلب منك أن تطرح عليه أفكارا جديدة لتطوير العمل، لكنه اشترط عليك أن تفكر خارج الصندوق؛ ألم تسمع هذه الجملة كثيرا؟ ألم يُطلَب منك من قبل أن تفكر خارج الصندوق؟ يقف جيوفاني كورازا على مسرح تيدكس ويتساءل: هل فكرنا يوما ما الصندوق؟ وماذا يوجد خارجه؟ هل المقصود أن ننتظر سقوط التفاحة فوق رؤوسنا أم أنها بعض التقنيات التي باستخدامها سنغير طريقتنا في التفكير؟ الأمر ببساطة يتعلق بعبور المساحات المعتادة في التفكير داخل عقولنا لنطأ مساحات جديدة لم نختبرها من قبل، أن نفكر بشكل مختلف عن المعتاد، حينها سنصل إلى طرق جديدة في التفكير وفي النتائج، وهذا هو جوهر التفكير الإبداعي[1].

 

دائما ما يشغلنا سؤال الإبداع، ما الذي يعنيه الإبداع؟ من هو الشخص المبدع؟ كيف نفكر بطريقة إبداعية؟ وهل من الممكن لنا أن نصبح مثل المشاهير من المبدعين؟ دعونا نلقي نظرة على الإبداع لنكتشف معا أنه رقعة متأصلة بداخل كل فرد منا.

"نحن جميعا مبدعون، بعضنا فقط يكسب من قوتنا ليكون مبدعا"

(جون هيجارتي)

      

يمكننا تعريف الإبداع بأنه تعبير الفرد منا عن نفسه من خلال خلق شيء جديد، هكذا ببساطة يرتبط مفهوم الإبداع بالخلق والإنتاج، قد يكون المنتج سيمفونية أو قصيدة شعر أو جرافيتي أو معادلة كيميائية أو منهجية تساعد الناس على التفكير بشكل أفضل. لقد خلق لنا الله عقولا ونحن من يُعيد تشكيلها وترتيب الطرق بداخلها، فإما أن تكون مستقيمة وإما متعرجة وهذا بالتبعية سينعكس على أسلوب تفكيرنا وحياتنا، بأيدينا أن نعيد النظر إلى الأشياء من حولنا بطريقة مختلفة ونمهد لأنفسنا التفكير بطرق أكثر إبداعا[2].

 

  

كيف نعثر على دوافع الإبداع بداخلنا؟

بعد أن تركت وظيفتها الثابتة واتجهت إلى التدوين وفتح مشروع خاص بها أدركت "سارة أرفين" أن تركها للعمل المؤسسي الروتيني لم يقدها كالسحر إلى التفكير بشكل إبداعي، والغريب أنها لاحظت ازدياد كسلها، وفي لحظة حاسمة أدركت أنها لن تتطور خطوة واحدة لو أنها لم تجد لنفسها محفزات جوهرية للإبداع[3]، لكن كيف تسنّى لسارة البحث عن هذه المحفزات؟

 

يضع أمامنا عالم النفس إبراهام ماسلو دوافع واحتياجات الإنسان والتي لخّصها في خمس مراحل متراتبة: احتياجات حيوية (كالماء والهواء والطعام)، احتياجات السلامة (كالشعور بالأمان والصحة وعدم العوز والفقر)، احتياجات الانتماء (أن ينضم الفرد منا إلى مجموعة يشعر تجاهها بالانتماء ويمارس البذل والعطاء)، احتياجات التقدير (أن يتلقى محفزات خارجية كالشعور بالتقدير والاحترام من الآخرين)، احتياجات تحقيق الذات (وهي تحفيز ذاتي يبدأ باكتشاف الموهبة الحقيقية والسعي لتطويرها وتحقيق النجاح فيها)[4]، والإنسان بطبعه لا يقف عند مرحلة واحدة، بل تحركه رغباته إلى التطور لكل مرحلة تالية وصولا للمرحلة الأخيرة، فإما أن يحقق ذاته وإما لا، وعندها سيصل إلى مرحلة الإبداع بتطوير موهبته الخاصة، وبدون هذه المراحل لن يصل إلى الإبداع في نهاية المطاف كمكافأة لتلبية احتياجاته، فقط تعامل مع الإبداع على أنه احتياج حيوي كالماء والهواء ولا تعش حياتك دون موهبة وإبداع، وهذا ما فعلته سارة.

 

ابق على وقود الإبداع مشتعلا

تكمن المشكلة الأكبر في المرحلة الأخيرة (اكتشاف الموهبة وتطويرها)، فكيف إذًا نحفز أنفسنا بشأنها؟ تقول سارة أرفين: "ابق على وقود الإبداع مشتعلا"، فعدم الراحة والمشقة هما أهم وقود للإبداع، تفسر سارة الأمر بأن أسهل طريق لأن تنجز العمل نفسه مرارا وتكرارا هو أن تكون في راحة واعتياد لأدواتك في تنفيذه، أما الصراع ووجود مصاعب فسيقودانك إلى القيام بأعمال جديدة وبطرق مختلفة، وهذا أكبر تحفيز على الابتكار. لذا يجب عليك أن توسع من رؤيتك للعالم من حولك، جرب دائما أن تنظر له في كل مرة بنظرة مختلفة، اذهب إلى معرض أو متحف، اسمع موسيقى جديدة، اخرج للمشي، امش لمسافات طويلة واكتشف أراضي جديدة، احتك بالآخرين وابحث عن أشخاص ملهمين وازرع نفسك في دوائر علاقات جديدة[5]، ومن أكثر الأماكن اختلافا ستجد حينها لذة فتح الأبواب الجديدة لتبدع أعمالا جديدة بطرق مختلفة، حينها ستكتشف نفسك[6].

   

نحن بشكل يومي نمارس التفكير كطقس روتيني معتاد، واعتياده كفعل ينتج عنه أيضا أفكار عادية
نحن بشكل يومي نمارس التفكير كطقس روتيني معتاد، واعتياده كفعل ينتج عنه أيضا أفكار عادية

  

"أحب أن أفكر بنفسي كفنانة، وحياتي هي عملي الفني الأعظم، وكل لحظة فيها هي لحظة إبداع وتحقيق، وكل لحظة تحقيق تحتوي على ما لا نهاية له من الاحتمالات… ما أروع الفن"

شاكتي جاوين

 

نحن بشكل يومي نمارس التفكير كطقس روتيني معتاد، واعتياده كفعل ينتج عنه أيضا أفكار عادية، وتطوير مهاراتنا في التفكير من شأنه أن ينسج أفكارا أكثر اختلافا وإبداعا. في كتابها "استخدام التفكير الإبداعي" تذكر شاكتي جاوين أمرين من شأنهما تطوير عملية التأمل والخيال الإبداعي: "اقرأ كثيرا، احصل على أصدقاء"، وهو ما يساعد بشكل فعال في اكتشاف مساحات جديدة في الحياة بعيدة عن مساحتنا الضيقة، أن نختلط بالأفكار وأشخاص جدد لا نعرفهم، أن نقرأ ونستمع إلى تجارب حياتية جديدة، كل هذا من شأنه أن يقودنا إلى إنتاج أفكار جديدة لم يكن الانعزال ليفجّرها. أوجد لنفسك دائما مساحة اختلاط بالآخرين بعيدا عن نفسك، حينها ستجذب خيوطا عديدة تنسج بها إبداعك. كانت باريس في بدايات القرن التاسع عشر مساحة تجمع مئات الفنانين من مختلف بقاع الأرض، لم تهدأ فيها الموسيقى ولم تغلق المسارح والمتاحف، سافر إليها الفنانون لفتح مساحات أرحب من المشاركات والأحاديث والقراءات التي حوّلت أفكارهم إلى خيوط إبداع نتج عنها أدب وفن ومدارس فنية جديدة، وأصبحت باريس أشبه بالمصنع الذي ينسج فنًّا ما زلنا نحفظ ذكراه إلى الآن.

 

"قد تساعدك مراقبة شخص يعمل بطريقة إبداعية على أن تتعلم بنفسك المزيد من طرق الإبداع"[7]

(أليسون دويول)

     

"لم يلمس ليوناردو دافينشي شيئا إلا وحوّله إلى جمال خالد"

(برنار بيرنسون)

 

على خُطى ليوناردو دافينشي

undefined

  

بعد دراسة متعمقة لسيرته الشخصية وأساليبه الحياتية والإبداعية استطاع مايكل جلب* أن يقتفي أثر الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي، سافر إلى البلدة التي عاش فيها، قرأ كتبه وأبحاثه واطّلع على لوحاته، حمل في جيبه مفكرة للتدوين كعادة دافينشي، ارتدى ثوبه كاملا، وخلص في النهاية إلى سبعة مبادئ تقودنا للتفكير على طريقة دافينشي والتي سنستعرضها الآن[8]:

 

1. الفضول وحب الاستطلاع

من الحب يتولّد شغفنا بمعرفة الحقيقة، وفضولنا تجاه الجمال يجعلنا نتساءل "كيف؟"، ونضع أقدامنا على أول خطوات الإبداع: الفضول. عندما سأل دافينشي نفسه: "لماذا لون السماء أزرق؟"، أجاب: إن اللون اللازوردي ليس هو اللون الطبيعي للهواء، إن هذا اللون هو نتيجة تفاعل الحرارة مع الهواء الساكن والذرات البخارية وأشعة الشمس وأشياء أخرى لا تُرى بالعين المجردة. كان دافينشي يحب المعرفة وأدرك أنها طريقه إلى كل شيء، فتنته أسراب الطيور في السماء باسطة جناحيها في الهواء وتتمايل مع نسمات الهواء، فراح يبحث في الكتب عن الفضاء وطبيعة الطيور، وعلى هوامش أوراقه كان يرسم عشرات الطيور الحبيسة داخل أقفاص إلى أن وصل إلى جوهر الطيران. دوّن في مفكرتك الخاصة مئة سؤال، لا تكترث، اتركهم لفترة قصيرة ثم اقرأهم مرة أخرى، ستكتشف حينها ما الذي يشغل بالك، فتش عنه واجعله شغفك الجديد. إن الريش القادر على جعل الطيور تحلق في السماء قادر على تحفيزك بمئات الأفكار مثل دافينشي.

     

undefined

     

2. البرهان والإثبات

ليس من الطبيعي أن يقلد أحد منا الآخر وإلا اعتُبر حفيد الطبيعة وليس ابنها. إذا مشينا خلف السرب لن نكتشف طرقا جديدة وستضيع هويتنا، وحده استقلال الفكر والهوية يميز الموسيقيين والسينمائيين والرسامين والكتاب، وغيرهم، وعدا ذلك لن يميزهم شيء ولن يذكرهم أحد. لم يستسلم دافينشي للأبواب المغلقة، راح ينبش في المجهول ليثبت حقيقة فرضياته المختلفة، تسلق جبال لومبادي، وشرّح ما يزيد على ثلاثين جثة بشرية ليصل إلى الحقيقة، ليجعل التجربة العملية خير دليل على نظرياته التي حوّلها من كلمات مبعثرة على الورق إلى نتائج ملموسة. كن نفسك، لا تتحول إلى ظل شخص آخر غيرك.

               

3. الإحساس

من داخل غرفتك الصغيرة لن تنتج أي شيء جديد، ولن تختبر الحياة، لماذا نغلق على أنفسنا وننسى براح العالم بالخارج؟ منذ صغره اعتاد دافينشي أن يتأمل الطبيعة والطيور، يستكشف الجمال بنظره، ويطرب للموسيقى بأذنيه، فتربّت حواسه على الرهافة والتأمل لفترات طويلة، كان يراقب حركات الناس في الشوارع وتصرفاتهم وإيماءاتهم العفوية، فاستطاع بحدة نظره أن يُجسّد الأحاسيس البشرية عبر لوحاته. يقول سيرج براملي إن دافينشي اهتم بتقوية حواسه كما اهتم بعضلاته من خلال تقوية قدرته على الملاحظة والتأمل، وفي دفاتره كان يدون تدريبات لحواسه كأن يبصر مغمض العينين. ضع لنفسك خطة جديدة، استطعم، شم، انظر، اسمع، المس كل شيء كأنك تعيد اكتشاف حواسك من جديد.

 

4. الشك والتساؤل

اذهب بتفكيرك بعيدا، فسّر الغموض والتناقضات وكن صديقا لهم. إن استمرار مواجهة عقلك لكل ما هو غير مؤكد وغامض هو سر تحرير قدراتك الإبداعية من مخبئها، والشك هو المفتاح الذهبي لفتح باب الحقيقة. كان دافينشي كلما فك غموض الأشياء وعرف عنها أكثر أصبح أكثر ميلا للتعبير عن أحاسيسه وانفعالاته. انعكس الغموض أيضا في فن دافينشي، ابتسامة الموناليزا وجسد القديس يوحنا المعمدان، هل لاحظت أن هذا الرجل الذي يفتش عن الغموض ترك لنا أسرارا وألغازا؟ فنتساءل ونبحث وننتج أيضا فنًّا. هنا، من أشد الأماكن غموضا وعتمة ينبعث النور ويكمن جوهر الإبداع.

 

5. العلم والفن

هل شاهدت تشريحا للعقل البشري؟ إذا نظرت إلى تصميمه ستجد أنه مكوّن من نصفين، يثبت الطب أن النصف الأيمن يميل للخيال والإبداع، بينما النصف الأيسر هو مركز القرارات العقلانية والمنطقية. لا تعتمد على نصف واحد فقط، وازن في اهتماماتك بين الاثنين، فإذا كان عقلك مصمما لاستيعاب النصفين فكيف لا تستوعبها أنت؟ كان دافينشي فنانا تشكيليا وكان أيضا عالما، وإلى جانب كونه فنانا حقيقيا كانت معرفته العميقة بعلم التشريح مساعده في الرسم والتعبير عن الجمال الإنساني. اجعل الموازنة من عاداتك، تأرجح بين الجد والهزل، التخطيط والارتجال، العلم والفن.

     

undefined

   

6. اللياقة البدنية

من بين التمارين التي حرص دافينشي عليها المشي والسباحة والمبارزة وركوب الخيل. كان يؤمن أن الصحة والسعادة مسؤولية ولها تأثير قوي على مشاعرنا وإبداعنا، كيف إذًا لجسد مثقل بالتعب والخمول أن يبدع طاقة وحيوية؟ حافظ على صحتك، ابتعد عن الهم والكآبة، اهتم بغذائك وابتعد عن العقاقير قدر المستطاع، كان دافينشي طاهيا بارعا والغذاء الصحي هو مفتاحه لحياة صحية ساعدته على الإبداع دون أن ترهقه. تذكّر المثل الشهير: "العقل السليم في الجسم السليم"، هذا المثل صحيح، لا تتجاهله.

  

7. الترابط

هناك ترابط قوي بين كل موجودات العالم، ويؤدي هذا الترابط إلى معنى ما، كالمايسترو أمام فرقته الموسيقية الذي نظم اللحن على آلات مختلفة كان دافينشي يعتمد على التجميع والوصول بين العناصر المختلفة ببعضها ليخلق إبداعا جديدا غير متوقع، طالما انتقده الباحثون على تدوينه لأشياء غير مترابطة أو ذات صلة وانتقال أفكاره من موضوع لآخر ومن نقطة لأخرى أكثر بُعدا، لكنه في النهاية كان يجمع الخيوط المتناثرة ليصل في النهاية إلى نتيجة. راقب بذرة صغيرة في الأرض تتحول بمرور الأيام إلى شجرة، هل تجد رابطا بين حبة صغيرة وشجرة مزهرة ينبت منها فروع وأوراق؟ لا تستسلم، واجمع الخيوط، حرك بيديك المياه الراكدة، ولا تعبأ بالنتيجة الآنية، سيقودك في النهاية خيط لتكوين صورة متكاملة.

  

في النهاية الأمر بيديك، فكّر من جديد، انظر لحياتك بطريقة مختلفة، فتش بداخلك عن الغرف المغلقة، وابتعد عن المعتادة، تأمل كل شيء حولك، وتأمل نفسك بعيدا عن السرب. تخيّل، انطلق بخيالك إلى أبعد حدود ولا تبحث عن الأرض لتهبط إليها، بل ابحث عن مساحة جديدة تخلق فيها أرضك الخاصة.

————————————————————–

هوامش:

*كاتب متخصص في الكتابة الإبداعية ومؤلف كتاب "كيف تفكر على طريقة ليوناردو دافينشي: سبع مراحل للعبقرية الدائمة"

المصدر : الجزيرة