شعار قسم ميدان

لماذا نُفضِّل الاستماع إلى الموسيقى الحزينة عندما نشعر بالحزن؟

ميدان - الموسيقى الحزينة 1111

"أحب الاستماع إلى الموسيقى الحزينة عندما أشعر بالحزن، فهي تبدو صادقة للغاية وقد تدفعني إلى البكاء، وأحيانا يكون البكاء الجيد هو الشيء الوحيد الذي يجعلك تشعر بالتحسن"

(إليزابيث بيرج، روائية أميركية)

   

اليوم يومٌ عصيب، لقد رُفضت في مقابلة وظيفة أحلامك التي انتظرتها طويلا. الآن، تجلس في غرفتك وحيدا، تجتاحك المشاعر السلبية ويعتصر قلبك الحزن، تجد نفسك تلقائيا تمسك بهاتفك وتبدأ بالبحث عن أغنية أو موسيقى حزينة لسماعها. هذا فعل اعتيادي عند أغلبنا، فكثيرا ما نلجأ للأغاني الحزينة عند مرورنا بظروف صعبة أو حالة نفسية سيئة، عند رسوبنا في اختبار ما، أو رفضنا في قبول الجامعة التي تمنيناها، أو فشل إحدى علاقاتنا أو تخلّي أحدٍ عنا، وغيرها الكثير من الأسباب. لكن أليس من المفترض أن نستمع إلى الأغاني السعيدة ذات الإيقاعات المفرحة للتغلب على هذه الحالة الشعورية السيئة؟ فما السبب الذي يجعلنا نختار الأغاني الحزينة إذن؟

  

إستراتيجيات متعددة

في عام 2011، في محاولة اكتشاف الأساس المنطقي لاختيارنا الاستماع إلى الموسيقى الحزينة عندما نشعر بالحزن، أجرى الباحثون في جامعة ليمريك الأيرلندية استطلاعا بحثيا عبر الإنترنت شارك به 65 شخصا بالغا متوسط أعمارهم 26 عاما، من دول مختلفة منها أيرلندا وهولندا وإسبانيا وألمانيا وأميركا. سُئل المشاركون عن الأوقات التي مروا فيها بتجارب سلبية واختاروا الاستماع إلى موسيقى حزينة، لكن لعدم وجود دراسات سابقة تطرّقت إلى هذا الموضوع، اختار الباحثون خلق نهج كيفي جديد واتباعه، حيث قاموا بتحليل أوصاف المشاركين وبحثوا عن الأنماط المتكررة في سبب اختيارهم الاستماع إلى موسيقى حزينة.

   undefined

  

توّصل الباحثون في النتائج التي نُشرت في مجلة "علم نفس الموسيقى" إلى أن أغلبية الإجابات تندرج تحت نمطين رئيسيين لهما صلة مباشرة ببعضهما بعضا، وهما: الإستراتيجيات التي يتبناها الناس في اختيار الموسيقى الحزينة، والوظائف التي تُقدِّمها الموسيقى. تعددت الإجابات، لكن كان أكثرها أهمية هي استماع الناس إلى الموسيقى لرغبتهم في التواصل مع حالتهم المزاجية الحالية، أو استخدام الموسيقى كمحرّك للذاكرة لاستعادة ذكريات تُذكّر بشخص ما أو حدث معين، أو الاستماع إلى الموسيقى بهدف تعزيز حالتهم المزاجية والشعور بالتفاؤل والأمل. (1)

  

تعددت الأسباب التي دفعت المشاركين إلى اختيار الموسيقى الحزينة؛ فمثلا قالت إحدى المشاركات التي تبلع 25 عاما، وكانت قد اختارت الاستماع إلى الموسيقى الحزينة بهدف التواصل مع حالتها الشعورية الحالية: "كنت أشعر بالضيق عندما عدت إلى المنزل بعد انفصال خطيبي عني، وأردت الاستماع إلى بعض الموسيقى التي تعكس وتتطابق مع حالتي الشعورية في تلك اللحظة. لم أكن أرغب في موسيقى من شأنها أن تبهجني، لكنني أردت أن أبقى مع تلك المشاعر لفترة من الوقت حتى أكون مستعدة لتخطيها".

   

في حين قال شاب يبلغ من العمر 19 عاما، كان ضمن المجموعة التى اختارت الاستماع إلى الموسيقى الحزينة بهدف المواساة والشعور بالراحة: "عند الاستماع إلى الموسيقى الحزينة أشعر بتحسّن لأنه من الجيد أنني لست الشخص الوحيد الذي يشعر بالحزن". بينما قالت امرأة تبلغ من العمر 24 عاما من المجموعة ذاتها: "كنت أشعر بالأسى على نفسي ولا أستطيع البكاء، فقررت الاستماع إلى بعض الموسيقى الحزينة لكي أبكي قليلا ثم أشعر بالراحة وأمضي قُدما". (2)

     

يمكن أن تكون الموسيقى وسيلة فعّالة للتواصل مع المشاعر السلبية غير المريحة
يمكن أن تكون الموسيقى وسيلة فعّالة للتواصل مع المشاعر السلبية غير المريحة
  

تُعلِّق على ذلك الدكتورة سونكيونغ يون باحثة علم النفس السريري في جامعة جنوب فلوريدا في حديثها لـ "ميدان": "يعتقد بعض الناس أن الاستماع إلى الموسيقى الحزينة يمكن أن يكون وسيلة فعّالة للتواصل مع مشاعرهم السلبية، لكننا ما زلنا في حاجة إلى دراسة تجريبية للتأكد من صحة ذلك. من الجدير بالذكر أنه خلال دراسة حديثة لنا لم تُنشر بعد، حاولنا التعرف على الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى الاستماع للموسيقى الحزينة عندما يشعرون بالحزن في الحياة اليومية، كان أحد الأسباب الرئيسية هو محاولتهم للتواصل مع المشاعر الموجودة في هذه الموسيقى وتجربتها وفهمها".

   

وأضافت: "رغم كل هذا، هناك العديد من الدراسات السابقة التي تؤكّد باستمرار أن تجنّب وقمع الحالات الداخلية للفرد، بما في ذلك المشاعر السلبية، يعطي نتائج عكسية ويُكثّف تجارب الحالات الداخلية التي يحاول الشخص تجنّبها في المقام الأول. وبهذا المعنى، يمكن أن تكون الموسيقى وسيلة فعّالة للتواصل مع المشاعر السلبية غير المريحة"، وهو ما يتفق بطبيعة الحال مع إفادات الكثيرين ويتّسق مع النتائج النهائية التي توصّل لها الاستطلاع السابق.

   

الأشخاص المصابين بالاكتئاب لا يُفضِّلون الاستماع إلى الموسيقى الحزينة لرغبتهم في زيادة الشعور بالحزن إنما يُفضِّلونها بسبب تأثيراتها الفعّالة بزيادة الاسترخاء
الأشخاص المصابين بالاكتئاب لا يُفضِّلون الاستماع إلى الموسيقى الحزينة لرغبتهم في زيادة الشعور بالحزن إنما يُفضِّلونها بسبب تأثيراتها الفعّالة بزيادة الاسترخاء
   
نتائج مثيرة للجدل

رغم أن الاستطلاع السابق لا يتخطّى كونه تجربة نظرية لم تستطع تقديم أي أدلة علمية دامغة تُثبت صحة الأسباب التي أبلغ عنها المشاركون، فإنه جذب انتباه الكثير من الباحثين، وفتح المجال أمامهم لاكتشاف دور الموسيقى في التأثير على حالتنا الشعورية والعاطفية، خاصة عند مرورنا بالتجارب السلبية، ما نتج عنه اكتشاف دراسة بحثية أُجريت في جامعة ييل والجامعة العبرية في مدينة القدس، ونُشرت في مجلة "علم نفس الموسيقى" عام 2015 تحت عنوان "الحزن كمسألة اختيار: أهداف تنظيم العاطفة في الاكتئاب"، أن الأشخاص الذين تم تشخيصهم بالاكتئاب أكثر ميلا بشكل ملحوظ لاختيار الاستماع إلى الموسيقى الحزينة لتنظيم حالتهم الشعورية بدلا من الموسيقى المفرحة. (3)

  

المثير للجدل في هذه الدراسة هو نمط الاختيارات التي اتخذها المشاركون، فرغم أنهم مصابون بالاكتئاب وبطبيعة الحال يعانون من حالة مزاجية سيئة، وحريٌّ بهم اختيار الاستماع إلى الموسيقى المفرحة التي تعزز حالتهم المزاجية وتجعلهم يشعرون بالتحسن، فإن الدراسة كشفت أنهم كانوا دائما يتعمّدون اللجوء إلى اختيارات قد تحافظ على حالتهم المزاجية المتدنّية لا تحسّنها. (4) هذه الملاحظة التي تعامل معها الباحثون القائمون بالدراسة على أنها شيء طبيعي ولم يعيروها الانتباه الكافي كانت محط اهتمام مجموعة أخرى من الباحثين في جامعة جنوب فلوريدا، لأنه ببساطة ليس من المرجح أن يريد أي شخص الاستمرار في المعاناة، خاصة وإن كان مصابا بالاكتئاب، لأن المصابين بالاكتئاب غارقون في الحزن والمعاناة بطبيعة الحال، بل ويتلقون العلاج في محاولاتهم للتخلص منه. (5)

   

لماذا نُفضِّل الموسيقى الحزينة؟

لهذا السبب، أجرى الباحثون في جامعة جنوب فلوريدا دراسة بحثية للوقوف على مدى صحة النتائج السابقة، نُشرت في مجلة "العاطفة" في فبراير/شباط الماضي تحت عنوان "لماذا يُفضِّل الناس المكتئبون الموسيقى الحزينة؟". شارك في الدراسة مجموعة مكونة من 76 طالبة جامعية، ووقع الاختيار على النساء فقط لسبب وجيه، لأن الاكتئاب أكثر شيوعا لدى النساء البالغات مقارنة بالرجال. كان نصف المجموعة المشاركة معافى من الاضطرابات النفسية، في حين تم تشخيص النصف الآخر سابقا بالاكتئاب، سواء الاكتئاب السريري أو المستمر، ما يعني أنهن كُنّ يعانين من الاكتئاب لمدة عامين على الأقل قبل بداية الدراسة. (6)

    

الفريق البحثي الذي أجرى الدراسة – الباحثة سونكيونغ يون في أقصى يسار الصورة (مواقع التواصل الاجتماعي)
الفريق البحثي الذي أجرى الدراسة – الباحثة سونكيونغ يون في أقصى يسار الصورة (مواقع التواصل الاجتماعي)

  

تقول الدكتورة سونكيونغ يون قائدة الفريق البحثي الذي أجرى هذه الدراسة في حديثها لـ "ميدان": "كان لدينا هدفان رئيسيان خلال هذه الدراسة، أولهما تكرار النتائج التي توصلت إليها الدراسة السابقة التي أُجريت عام 2015، وتشير إلى أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يُفضِّلون الموسيقى الحزينة على غيرها. وإذا كان هذا الاكتشاف صحيحا، فإن هدفنا الثاني كان فهم سبب ذلك"، واستطردت في شرح نهج الدراسة قائلة: "سمع المشاركون ستة مقتطفات مدتها 30 ثانية من مقاطع موسيقية كلاسيكية مختلفة (اثنين منهما موسيقى حزينة، واثنين موسيقى سعيدة، واثنين محايدة) بترتيب عشوائي تماما، وطُلب منهم اختيار مقطع موسيقيّ واحد قد يُفضِّلون الاستماع إليه بالكامل في المستقبل".

   

تستكمل يون حديثها لـ "ميدان": "بعد ذلك طلبنا من المشاركين المصابين بالاكتئاب الإبلاغ بحرية عن أسباب اختيارهم. وكما توقعنا، فإن المشاركين المصابين بالاكتئاب اختاروا الموسيقى الحزينة، لكن تفسيرهم لاختيارها لم يكن مرتبطا برغبتهم في الشعور بالحزن أو السوء أو حتى الحفاظ على تلك المشاعر السلبية كما كشفت الدراسة السابقة. لكن بدلا من ذلك، ذكر الكثيرون منهم أنهم اختاروا هذه الموسيقى لأنها كانت مريحة. وهكذا، توصلنا إلى أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب قد يُفضِّلون الموسيقى الحزينة لرغبتهم في الشعور بالاسترخاء".

   

(من المقاطع الموسيقية الكلاسيكية الحزينة التي اختارها أكثر المشاركين في الدراسة)

  

رغم أن نتائج هذه الدراسة أكّدت أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يُفضِّلون الاستماع إلى الموسيقى الحزينة، وهو ما يتسق تماما مع النصف الأول من نتائج دراسة عام 2015، فإن الجزء المثير للاهتمام هو تفسير المشاركين لأسباب اختيارهم لهذه الموسيقى، الذي جاء مغايرا تماما للنصف الأخير من تلك الدراسة. فقد أوضح المشاركون أنهم لجأوا إلى الموسيقى الحزينة لأنها تجعلهم يشعرون بالمزيد من الهدوء والاسترخاء، ما يتناقض مع الفكرة التي تقول إن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يسعون إلى استمرار مشاعر الحزن لديهم وتدني حالتهم المزاجية. (7)

  

الموسيقى الحزينة قد تجعلنا أكثر راحة

في الجزء الثاني من الدراسة، استخدمت يون وفريقها 48 زوجا من المقاطع الموسيقية الجديدة تبلغ مدة كلٍّ منها نحو 10 ثوانٍ، جميع المقاطع كانت جديدة ومختلفة في مسارات الطاقة والإيقاعات عن المقاطع السابقة. وطُلب أيضا من المشاركين أنفسهم الاستماع إلى هذه المقاطع واختيار المقاطع الموسيقية التي يُفضِّلون الاستماع إليها لاحقا، ثم سُئلوا في النهاية عن تأثير الموسيقى التي اختاروها على عواطفهم ومشاعرهم. وجد الباحثون مرة أخرى أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب لديهم تفضيل أكبر بكثير من غيرهم للموسيقى الحزينة منخفضة الطاقة، وفسّروا سبب ذلك بأنهم اختاروا هذه الموسيقى لأنها ذات إيقاع منخفض ما جعلهم يشعرون بالاسترخاء والمزيد من السعادة. (8)

   

تُعلِّق يون على ذلك في حديثها لـ "ميدان" وتقول: "يعتقد الكثيرون أنهم يستمعون إلى الموسيقى الحزينة لجعل أنفسهم أكثر سوءا، لكننا وجدنا أن العكس هو ما يحدث. فرغم أن أغلب المشاركين المصابين بالاكتئاب اختاروا الاستماع إلى الأغاني الحزينة، فإنهم أبلغوا عن زيادة سعادتهم بعد سماع الأغاني التي اختاروها مقارنة بحالتهم قبل سماعها"، وتضيف: "في رأيي أنه من المهم جدا التمييز بين كيف تبدو الأغاني، سواء كانت حزينة أو سعيدة، وبين شعورنا بعد سماعها. فليس لمجرد أن الشخص يُفضِّل الأغاني الحزينة يمكن افتراض أنه يسمعها ليشعر بالسوء أو الحزن. والدليل على ذلك أن هناك بعض الأدلة التي توصّلت لها دراسات سابقة تشير إلى أنه ليس من الضروري أن تجلب الموسيقى الحزينة المشاعر الحزينة، بل يمكن أن تجلب العديد من المشاعر الإيجابية أيضا مثل الهدوء".

    

يعزز الاستماع إلى الموسيقى الحزينة شعورنا بالهدوء والاسترخاء، وقد يساهم كذلك في تحسين حالتنا المزاجية عندما تجتاحنا المشاعر السلبية أو الحزن
يعزز الاستماع إلى الموسيقى الحزينة شعورنا بالهدوء والاسترخاء، وقد يساهم كذلك في تحسين حالتنا المزاجية عندما تجتاحنا المشاعر السلبية أو الحزن
  

إذا أمعنا النظر في الأمر قليلا فسنجد أن جميع النتائج السابقة تأخذنا إلى نقطة واحدة مهمة هي أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب لا يُفضِّلون الاستماع إلى الموسيقى الحزينة لرغبتهم في زيادة الشعور بالحزن أو الحفاظ عليه أو حتى للشعور بسعادة غامرة، إنما يُفضِّلونها بسبب تأثيراتها الفعّالة في زيادة الاسترخاء والشعور بالهدوء. لكن كان الأمر المثير للتساؤل لنا هو هل هذا التأثير المهدئ للموسيقى الحزينة يسري على الجميع، أم يقتصر على الأشخاص المصابين بالاكتئاب وحسب؟ لذا وجّهنا هذا التساؤل إلى الباحثة سونكيونغ يون خلال حوار "ميدان" معها، فقالت: "في الواقع، خلال دراستنا الأحدث التي ما زالت تحت الإعداد للتقديم إلى النشر، درسنا كيف يشعر الأشخاص المصابون وغير المصابين باضطرابات الاكتئاب بعد الاستماع إلى الأغاني الحزينة والسعيدة". (9)

   

وأضافت: "أظهرت النتائج أنه بغض النظر عما إذا كان الأشخاص يعانون من الاكتئاب أم لا، فإنهم قد يشعرون بسعادة أقل بعد سماع الأغاني الحزينة، لكنهم أيضا سوف يشعرون بالمزيد من الراحة حتما. الجدير بالذكر هنا أن سماع الأغاني الحزينة لم يجعلهم يشعرون بالحزن، كذلك لم تسبب الأغاني السعيدة تغيير المزاج في كلتا المجموعتين". تختم يون حديثها لـ "ميدان" قائلة: "يعزز الاستماع إلى الموسيقى الحزينة شعورنا بالهدوء والاسترخاء، وقد يساهم كذلك في تحسين حالتنا المزاجية عندما تجتاحنا المشاعر السلبية أو الحزن. لكن الأمر قد يكون أكثر تعقيدا من ذلك، إذ تخبرنا النتائج أنه لا يوجد اتصال مباشر بين العاطفة المتصورة في الموسيقى سواء الحزن أو السعادة، وبين استثارة هذه العاطفة لدينا أو تغيّر حالتنا المزاجية بعد سماع تلك الموسيقى".

المصدر : الجزيرة