شعار قسم ميدان

الاعتذار.. استهلاكه بلا داعٍ إشارة إلى ضعف شخصيتك!

midan - رئيسية اعتذار1

"لا تعتذر أبدا عن إظهار مشاعرك، فإن فعلت، فأنت تعتذر عن الحقيقة لا أكثر!"

(خوسيه هاريس، قصة الإيمان، والأمل، والحب)

 

الاعتذار، طريقة للتعبير عن التصالح، والتسامح، والإقرار بالذنب، وهو سلوك جاءت الأديان لتدعيمه، ففي نهاية المطاف، نحن لسنا ملائكة، وكلٌّ منا يمتلك ما يكفي لأن يُخطئ -ولو لمرة واحدة- دون قصد. إلا أن الاعتذار كسلوك ليس محمودا على إطلاقه، فبعض الثقافات المُجتمعية تحاول أن تفرض بعض القوانين التي تبدو غير إنسانية على الإطلاق -في معظم الأحيان-، فهناك مناطق تعدُّ الاعتذار النابع من الرجل دليلا على ضعفه، لتجد الرجل خائفا من قول "أنا آسف" مهما بلغت شدّة الخلاف، وهناك من النساء من يعتبرن الاعتذار -خصوصا من الرجل- ذريعة لفتح باب التنازلات على مصراعيه، وأنها بامتناعها عن الاعتذار ستحمي ما هو حق لها. الكثير من الكتب تُعلّمنا أن نعتذر، أن نتصالح ونتسامح، ولكننا، ورغم أهمية ثقافة التسامح والاعتذار، قد نفرط في قول "آسف" حتى وإن كنا نقصُرها على المساحة اللغوية، أي باعتبارها كلمة تُقال وفقط؛ لأن دراسة في علم الاجتماع تقول إن اعتذارك المتكرر دون سبب يدل على ضعف شخصيتك.

 

  

ما الخطأ في قول أنا آسف؟

"من يعتذر يُتَّهم"

(مثل لاتيني)

 

في إحصائية -غير رسمية- قدمتها "بي بي سي" (BBC) تُشير إلى أن البريطانيين يعتذرون نحو ثماني مرات يوميا، وهناك من يعتذر نحو 20 مرة يوميا، إلى جانب أن النساء يعتذرن أكثر من الرجال (1). وبالتفكير قليلا في سؤال؛ ما الخطأ في تقديم الاعتذار؟ تلوح في الحقيقة إجابة منطقية مفادها أنه ليس هُناك أي خطأ، خصوصا إن كان هُناك سبب منطقي يستدعي ويستلزم اعتذارك. فالأبحاث تُظهر أن النساء والرجال يعتذرون بنسب متساوية تقريبا عندما يرتكبون خطأ أو يؤذون شخصا آخر أو حتى مجرد إزعاجه (2).

 

لكن، وفي صورة مقابلة، تقول مايا يوفانوفيتش في حوار على منصة "تيد" (TED) إنها حينما حضرت مناظرات لأهم الخبراء في مجالاتهم لاحظت أن النساء اللواتي يعتلين المنصة لإلقاء كلمتهن يبدأن بـ: "يا إلهي، لا أدري ما الذي ستُضيفه واحدة مثلي لهذا التجمع الكبير"، وقالت الثانية: "لا أصدق نفسي، لقد ظننتُ أنهم أخطأوا بإرسال الدعوة لي عبر البريد الإلكتروني". بينما -وفي المناظرة نفسها- لم يُقدم أي رجل جملة اعتذارية على وجوده، أو حاول بطريقة أو بأخرى أن يُقلل من علمه وما يملكه من مؤهلات تجعله يعتلي منصة الخبراء بثقة. (3) (4)

 

تُضيف في حوارها أن النساء حين يجلسن في المقاهي، وتهم إحداهن بمناداة النادل لتطلب كوبا من القهوة، فهي تعتذر عن ذلك! وتُعلق: "هي تعتذر لأنها تطلب!"، وتصفها بالعادة السيئة التي يجب أن تكف النساء عن فعلها. وتؤكد حين تقول: "الاعتذارات مهمة، لا تسمح لأي شخص أن يقول لك عكس ذلك"، فالاعتذارات إذا استُخدمت في وقتها ومكانها فهي كفيلة بتضميد الجراح، وتهدئة ما بالأنفس. كما توضح أن استهلاك كلمة آسف في بداية الجملة وختامها سيُشتت انتباه من تتحدث إليهم، إذ إنهم لا يعلمون عن ماذا تتأسف، ما الذنب الذي ارتكبته في طلبك للقهوة؟ وتقول: "آسف، هل يمكنني التحدث. آسف، هل هذا وقت مُناسب. آسف، هل يُمكنني الدخول؟ لا تستغرب في نهاية اليوم إذا لم يتبقَ لك شيء من ثقتك بنفسك لأنك استهلكته بلسانك عن طريق الاعتذار الذي لا طائل منه". فالاعتذار المتكرر بلا داعٍ برأيها وسيلة أخرى تعمل على تقليل قوتنا وحضورنا. أو بمعنى آخر كما تقول راشيل سيمونز في كتاب "لعنة الفتاة الجيدة":

 

"الاعتذار هو وسيلة لجعل نفسك أقل قوة وأقل تهديدا. الاعتذار هو إحدى الوسائل لتكون محبوبا"

 

 

هل من بديل للاعتذار الذي قدمناه بلا داعٍ؟

“لا تقُم أبدا بالدفاع عن نفسك أو الاعتذار إلا لو تمَّ اتهامك"

(الملك تشارلز الأول)

 

في مقال بعنوان "أعتذر عن إزعاجك، ولكنك يجب أن تتوقف عن الاعتذار" (5) تُشاركنا المُدربة المالية وصاحبة كتاب "دعنا نتحدث عن المال" جانيس جولدمان قصتها قائلة: "لقد حاولت الانتباه إلى نفسي أكثر، وقررت بأن أتطوع بنفسي لحساب عدد المرات التي اعتذرت بها في اليوم. لقد كانت صدمة بالنسبة لي أنني قمت بالاعتذار 32 مرة خلال فترة ثلاث ساعات فقط! لقد قُمت بالاعتذار حين هاتفت صديقتي في الوقت الذي اتفقنا عليه أساسا، ولكني اعتذرت عن الوقت إن كان مُزعجا، لقد اعتذرت عن شيء لا يتطلب مني الاعتذار!". الفكرة أن الاعتذار دون سبب يُرسل أحاسيس للآخر بأننا قمنا بارتكاب الخطأ، أو بأننا الطرف المُذنب لسبب مجهول.

 

وفي مقال آخر تحت عنوان "الكلمة الواحدة التي يجب أن تتوقف عن قولها لتعزيز ثقتك" بقلم ريبيكا مولر، حيثُ توضح به ما تُشير إليه الأبحاث من أن تكرار مصطلح ما بشكل اعتيادي يمكنه أن يعرضنا لخطر التعامل مع الآخرين، أو حتى كيف ننظر لأنفسنا. وتُضيف: "أنا شخصية مُعتذرة بشكل مُزمن، أعتذر لأصدقائي ولزملائي في العمل وللغرباء في المصعد، أعتذر حتى للجمادات، نعم! لقد وجدتني في إحدى المرات أعتذر لكرسي اصطدمت به". على الجانب الآخر، وجدت الدراسات (6) أن الطبيعة البشرية تميل لتقديم الاعتذار كوسيلة دفاع عندما تخشى الرفض الاجتماعي، ولكن أوضحت الأبحاث أيضا أن المبالغة في الاعتذار تجعلنا نبدو أكثر خجلا، ويُعرقل طريقنا في التعبير عن ما نريد التعبير عنه فعلا. (7)

 

 

وفي المساحة نفسها يُقدم أصحاب الاختصاص بعض الطُرق التي يُمكنك اتباعها للتقليل من الاعتذار دون سبب، بعض هذه المُقترحات:

استبدل الاعتذار بالشكر: تُشير يوفانوفيتش في حديثها إلى أننا كثيرا ما نُقدم الاعتذار في حال تأخرنا عن موعد ما، وعلى الرغم من وجود وقت ومكان مناسب للاعتذار، فإنها تحثنا على استخدام "شكرا" في اللحظات التي يكون فيها الاعتذار ببساطة غير ضروري. تقول في حديثها في "تيد" (TED) إن إعادة صياغة اعتذاراتك يمكن أن تجعلك تشعر وتبدو أكثر ثقة فيما تقوله. "بدلا من قَول آسف للشكوى أو "آسف للفضفضة"، يمكنك أن تقول فقط شكرا لك على الاستماع أو شكرا لك على وجودك أو شكرا لك لكونك صديقي". فإن لم يكن ما تقوم بفعله يؤذي الآخر، فعلى ماذا تعتذر؟ (8)

 

بيّن عُذرك بدلا من الاعتذار: تأخرت في الرد على المكالمة، أو بالرد على بريد إلكتروني أو رسالة نصية؛ يُفضل أن تقول ما الذي أشغلك فعلا بدلا من تقديم الاعتذارات الصماء. قل بكل بساطة: كنتُ أقرأ، كُنت أكتب، كُنت أقود. حاول أن تكون واضحا بمهامك الأخرى. (9)

 

لا تقل شيئا على الإطلاق: تستشهد يوفانوفيتش بقصة حدثت مع إحدى صديقاتها حين طلبت البيتزا، ولأنها تقطن في منطقة مزدحمة وشوارعها تحتمل أن يتوه الشخص بها، ما كان من رجل البيتزا إلا أن يتأخر. في الوضع الطبيعي كان يجب من رجل توصيل البيتزا أن يعتذر عن تأخره، ولكن بادرت صديقتها بالاعتذار قائلة: "يا إلهي أنا آسفة لأنك تأخرت، أعلم بأن منطقتي صعبة!"، وكان يجب أن لا تُقدم ذاك الاعتذار وأن لا تقول أي شيء! (10)

    

undefined   

أسباب نفسية في اضطراب الاعتذار المُفرط

"نُقدم الاعتذار دون أن نعنيه حقا، نعتذر عن آرائنا، أو نتراجع عنها، وأحيانا نُخففها بدبلوماسية. لأننا نترابط بعمق مع الآخرين ونخشى أحيانا فقدان هذا الشخص، فنلجأ لقول: أنا آسف، دون أي سبب، كمساحة أمان لفظية"

(فيليس تشيسلر، عالم نفس)

 

يمكن أن يكون للاعتذار أكثر من اللازم أو "اضطراب الإفراط في الاعتذار" مجموعة واسعة من التفسيرات الأساسية، يُشار إلى بعضها في سمات الشخصية كما تمت مناقشته أعلاه. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي التنشئة الصعبة، وماضي الإساءة العاطفية ومستوى التعاطف العالي الطبيعي للآخرين إلى قول آسف دائما. ومع ذلك، وبغض النظر عن الفروق الدقيقة في حياتك الشخصية، تُظهِر الدراسات أنه من المحتمل أن يكون هناك سبب جذري للاعتذار المفرط. (11)

 

تُشير الأبحاث التي أُجريت في كلية هارفارد للأعمال إلى أننا نقدم اعتذارات لا لزوم لها بهدف بناء الثقة أو الحفاظ عليها. تُثبت هذه الدراسة بالفعل أننا نثق في الناس (حتى الغرباء) أكثر إذا قدموا اعتذارات غير ضرورية عندما يقتربون منا. لذلك، هناك غرض التكيف لتبرير هذا السلوك. في الواقع، أقل من 10٪ من المشاركين في هذا البحث وافقوا على إعطاء هواتفهم لشخص غريب عندما طلبوه دون تقديم اعتذار لا لزوم له. بينما وافق ما يقرب من 50٪ على إعارة هواتفهم إذا كان الطلب مقدما مع التعليق "أنا آسف حقا لهذا المطر!". (12)

 

 

الاعتذار سمة جميلة في الشخصية، ووفرتها تدل على نقاء وتسامح الشخص وتصالحه مع الظروف المُحيطة. ولكن يبدو أن هُناك حدًّا لكل شيء، فهناك قول شهير مفاده: "ما يزيد عن حده سينقلب ضدك"، وهذا ما يدعو للانتظار قبل التحدث لمدة ثانية إضافية فقط، ثانية لا أكثر لتُحدد ما إذا كان اعتذارك في بداية جملتك عن ذنب ارتكبته أم أن عقلك الباطن دفع لسانك لقول كلمة اعتدت عليها مثلا، وهذه دعوى لاختبار نفسك لمدة لا تتجاوز الـ 30 ثانية لتكتشف ما إذا كان عقلك الباطن يتحكم بك أم أنك تحت سيطرة وعيك! وإن لم تكُن تملك تلك الثواني فلا تعتذر، فهذا لم ولن يؤذي أحدا.

المصدر : الجزيرة