شعار قسم ميدان

طفلك ليس أداة حرب.. أشياء لا يفعلها الآباء الأسوياء نفسيا

ميدان - تربية الأبناء

في سن الثالثة عشرة، كان "شون جونستون" يعاني من زيادة الوزن قليلا ولم يكن قد وصل إلى سن البلوغ بعد، وكان والده يشجع شقيقيه الصغار على السخرية منه. يقول: "لقد ضحكوا جميعا، كان ذلك من أجل المتعة فقط، لكنه لم يكن ممتعا بالنسبة لي. كانوا يستمرون لساعات حتى يتوصلوا إلى نكات حول السِّمنة أو النكات المتعلقة بتأخر البلوغ". يكمل جونستون الذي يبلغ الآن 40 ربيعا ويدير وكالة مختصة بإستراتيجيات الويب: "كان والدي غير لطيف دائما، كان يقول لي كثيرا بأني مخيب للآمال وأنه ليس فخورا بي. بعد أكثر من 27 عاما، ما زلت أكافح مع شعوري بعدم الجدارة". يسرد "ديف مكجين" هذه الحكاية في مقاله عن الآثار المدمرة طويلة الأمد للإساءة العاطفية.

  

ما تعرّض له شون هو أحد أوجه الإساءة العاطفية التي يتعرض لها واحد من بين كل 14 طفلا في المملكة المتحدة وحدها. يمكن أن تُلْحِق الإساءة العاطفية أضرارا دائمة بمزاج الطفل وصحته العقلية وسلوكه، ويندرج تحت مظلتها أفعال عدة تبدأ بالصراخ والتسلط والابتزاز حتى الاعتداء البدني والجنسي. لذا فإن تربية أطفال أسوياء نفسيا مجهزين لمواجهة تحديات العالم الواقعي الذي يزداد تعقيدا يوما بعد يوم تتطلب من الآباء التخلي عن الممارسات السلبية التي تحرم أطفالهم من تطوير قدراتهم العقلية والعاطفية وتنمية المهارات التي يحتاجون إليها للتعامل مع التحديات في حياتهم اليومية. خلال هذا التقرير سوف نستعرض مجموعة من الأفعال التي لا يقوم بها الآباء الأسوياء نفسيا عند تنشئة أطفالهم.

    undefined

  

"إذا كان الإيذاء النفسي جريمة يعاقب عليها القانون، لقضى كثير من الآباء عقوبة السجن لفترة طويلة"

(مادي مالهوترا – مؤلف هندي)

  

تنشئة أطفالهم على أنهم مركز الكون

undefined

  

يكرس بعض الآباء جُلّ حياتهم لأطفالهم، لا لمنحهم الرعاية والحب أو حتى لخدمتهم وتلبية احتياجاتهم وحسب، بل يتخذون من أطفالهم مركزا وحيدا تدور حوله حياتهم، لدرجة أنهم يفعلون كل شيء من أجلهم، حتى إن كان ذلك على حساب أزواجهم وعائلاتهم أو أصدقائهم أو حتى حياتهم الوظيفية أو التعليمية. فمثلا، يسمح بعض الآباء بتعدي أطفالهم على أوقاتهم الخاصة دون داعٍ، ويقوم البعض بمساعدة أطفالهم في أداء الأشياء التي ينبغي لهم القيام بها بأنفسهم، في حين يمنح البعض الآخر متطلبات أطفالهم أولوية قصوى حتى لو لم تكن على هذا القدر من الأهمية.

   

لا شك أن الأطفال في المراحل المبكرة يكونون في حاجة ماسة إلى الحب والاهتمام والعطاء بكافة أشكاله، لكن عند التركيز على العطاء المادي ومنحهم مزيدا من الهدايا والألعاب والأشياء المادية الأخرى في وقت مبكر للغاية، سينشؤون على أن لهم الأفضلية على كل شيء آخر، وأن طلباتهم مجابة دائما دون استثناءات، ما يجعلهم يعتقدون أنهم مركز الكون، وأن الحياة تهدف دائما إلى خدمتهم. وهو ما ينعكس بشكل جليّ على الآباء والأطفال على حدٍّ سواء، فيهمل الآباء ذواتهم وحياتهم واحتياجاتهم الخاصة مما يؤدي إلى إصابتهم بالاكتئاب وعدم الرضا عن حياتهم، على الجانب الآخر يكبر الأطفال ليكونوا شخصيات متطلبة تشعر دائما بالاستحقاق وينظرون إلى غيرهم نظرة دونية، ولا يشعرون بالرضا أو الامتنان.

  

أجرت عالمة النفس في جامعة ماري واشنطن بفرجينيا ميريام ليس دراسة بحثية نُشرت في مجلة دراسات الطفل والأسرة تحت عنوان "الأبوة والأمومة المكثفة: هل لها التأثير المنشود على نتائج الطفل؟"، حيث قامت باستطلاع آراء 240 شخصا من الآباء والأمهات الذين لديهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 2 و5 سنوات، بهدف تقييم معتقدات الأبوة المكثفة ومعرفة مدى صحة افتراض أن التمركز حول حياة الطفل بشكل مبالغ فيه يحسّن نتائج الطفل من عدمه. كشفت نتائج الدراسة أن النساء اللاتي اعتقدن أن الأمومة يجب أن تتمحور حول الطفل قد تقلص رضاهن عن الحياة، وأوضحت أن محاولة الأمهات لجعل حياتهن تتمحور حول أطفالهم أدت إلى إصابتهن بالاكتئاب. [1]

     

تحقيق التوازن بين رغبة الآباء في إرضاء أطفالهم وبين مساعدتهم على التطور العقلي والخروج إلى العالم تعتبر من أكثر الأمور التربوية صعوبة
تحقيق التوازن بين رغبة الآباء في إرضاء أطفالهم وبين مساعدتهم على التطور العقلي والخروج إلى العالم تعتبر من أكثر الأمور التربوية صعوبة
   

يقول كلٌّ من ريتشارد وليندا اير في كتابهما "فخ الاستحقاق": "ينمو الأطفال في عالم شبيه بالعرض التلفزيوني الواقعي، يفكرون في أنفسهم على أنهم الشخصية المحورية على المسرح. لديهم صفحة على فيسبوك، ومشهورون في عقولهم الخاصة مثل نجوم موسيقى الروك. بالنسبة لهم، لا مجال -أو حاجة- إلى المسؤولية الشخصية أو العطف الحقيقي والمشاركة الوجدانية لغيرهم، ولا ثمة دافع أو حافز لتعلّم ذلك. فهم يعتقدون أنهم فوق أي حدود أو قيود أو انضباط". [2] هذا تطور خطير رغم ذلك، فغالبا يقوم الآباء بالتمركز حول أطفالهم بحسن نية ظنا منهم أن تكريس حياتهم لأطفالهم سوف يجعلهم بالضرورة أطفالا سعداء ذوي صحة عقلية قويمة.

  

لذا فإن تحقيق التوازن بين رغبة الآباء في إرضاء أطفالهم وبين مساعدتهم على التطور العقلي والخروج إلى العالم وتعلّم التعامل مع خيبات الأمل تعتبر من أكثر الأمور التربوية صعوبة في تحقيقها رغم ضرورتها. وهو ما يميز الآباء الأسوياء نفسيا وعقليا عن غيرهم، حيث يحرص هؤلاء الآباء على تحقيق التوازن بين إرضاء أطفالهم وتعليمهم التركيز على ما يجب أن يقدموه إلى العالم بدلا من التركيز على ما يستحقون، وهو ما يساعدهم على التطور العقلي والنفسي للانتقال إلى العالم الحقيقي شديد التعقيد الذي يعتمد على السعي والعمل الجاد، ولا يهتم بخدمتهم بأي شكل من الأشكال. [3]

  

ابتزاز أطفالهم عاطفيا

"يأتي الحب عندما يتوقف التلاعب، عندما تفكر في الشخص الآخر أكثر من التفكير في رد فعله تجاهك، وعندما تجرؤ على الكشف عن نفسك تماما. يأتي عندما تجرؤ على أن تكون غير حصين"

(جويس براذرز – عالمة نفس أميركية)

    undefined

  

لا يوجد إنكار للدور الأساسي الذي يلعبه الآباء في التطور النفسي والاجتماعي لأطفالهم وحمايتهم من اضطرابات الصحة العقلية، فهم دائما يمتلكون أفضل الخطط والنيّات لأطفالهم، يريدونهم أن يُحسنوا التصرف، ويتعلمون ويعيشون ويأكلون جيدا، لكن في المقابل وخاصة في مراحل الطفولة المبكرة يكون وعي الطفل ما زال في طور التشكّل ولا يستطيع تحديد الأمور التي تصب في صالحه، فعادة لا يريد القيام بواجباته المدرسية أو تناول الطعام الصحي أو يظل مستيقظا طوال الليل وما إلى ذلك من سلوكيات. في هذه الحالة يقع الآباء في معضلة كبيرة تتطلب الوصول إلى حل يجعل أطفالهم يطيعونهم دون احتجاج.

  

الآباء غير الأسوياء نفسيا عادة يلجؤون إلى طريق مختصر ويعتمدون على الابتزاز العاطفي كإستراتيجية مُحكمة لضبط سلوك أطفالهم، فيستخدمون العاطفة أو الشعور بالذنب والخوف أو الترهيب والتهديد في التلاعب بأطفالهم، لجعلهم يفعلون ما يريدون. على سبيل المثال، قد يستخدم بعض الآباء الابتزاز العاطفي لحث أطفالهم على الأداء الدراسي الجيد، أو إحسان التصرف أو حتى ترتيب غرف نومهم جيدا، كأن يقول أحد الآباء لطفله: "إذا لم تحصل على درجات جيدة، فلن نحبك بعد الآن"، أو: "إذا كنت شقيا، فلن تحصل على أي هدايا في عيد ميلادك"، أو حتى: "إذا لم ترتب غرفتك، فلن تحصل على المزيد من الألعاب"، وهكذا.

  

تعلق المؤلفة وأخصائية العلاج النفسي الدكتورة سوزان فوروارد على آلية الابتزاز العاطفي التي يلجأ إليها الآباء قائلة: "إن الابتزاز العاطفي هو شكل قوي من أشكال التلاعب يهدد فيه المقربون منا -بشكل مباشر أو غير مباشر- بمعاقبتنا إذا لم نفعل ما يريدون، فيستخدمون الخوف والالتزام والشعور بالذنب لعرقلة نظرتنا عن الحقيقة، حيث يعتمدون على عواطفنا السلبية حين نطفئ منطقنا". غالبا ما يكون سلوك الابتزاز العاطفي نتاجا طبيعيا لتكريس بعض الآباء حياتهم حول أطفالهم، فعندما يجعلون أطفالهم محور حياتهم ويحرصون كل الحرص على تلبية احتياجاتهم وطلباتهم، يعتقدون أنه يحق لهم استخدام الابتزاز والتلاعب بأطفالهم لضبط سلوكهم، لكن حقيقة الأمر أن العديد من الآباء لا يدركون عواقب هذه الأساليب على أطفالهم أو على العلاقة التي تربطهم بهم. [4]

    

الأطفال والمراهقين الذين يشعرون بأن السيطرة النفسية لآبائهم مرتفعة يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية وسلوكية أكثر من غيرهم
الأطفال والمراهقين الذين يشعرون بأن السيطرة النفسية لآبائهم مرتفعة يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية وسلوكية أكثر من غيرهم
   

رغم أن استخدام الابتزاز العاطفي يُسهّل الأمور على الآباء، ويمنحهم السيطرة على أي موقف مع أطفالهم عندما لا يرون طريقة أخرى مناسبة للسيطرة عليه، بل وحتى يجعل أطفالهم يطيعونهم دون الاحتجاج أو الاعتراض، فإنه للأسف إخبار الأطفال بما يجب فعله وتوجيه تهديدات بعدم منحهم الهدايا والألعاب أو العقاب وما إلى ذلك يغرس الخوف في قلوبهم ويضعهم في مأزق لا يترك لهم أي خيار أو مجال للاعتراض أو إبداء الرأي، فيقومون بتلبية ما يمليه عليهم آباؤهم مضطرين، مما يقلل تلقائيا من قدراتهم على اتخاذ القرارات السليمة في المستقبل ويخلق أرضا خصبة بداخلهم ليكونوا غير أسوياء نفسيا وعقليا فيما بعد. [5]

  

في السياق ذاته، للوقوف على العلاقة بين السيطرة النفسية والعاطفية للآباء وبين الاضطرابات العاطفية والسلوكية للأبناء، أجرى الباحثون في قسم علم النفس بكلية تدريب المعلمين في جامعة إكستريمادورا الإسبانية دراسة بحثية استطلاعية بعنوان "الرقابة النفسية للوالدين والاضطرابات العاطفية والسلوكية لدى المراهقين الإسبان"، شارك فيها 762 طالبا وطالبة تتراوح أعمارهم بين 12 و23 عاما، طلب منهم الباحثون الإبلاغ عن السيطرة النفسية لآبائهم وتحديد مشكلاتهم واضطراباتهم العاطفية والسلوكية. كشفت نتائج الدراسة التي نُشرت في منتصف فبراير/شباط الماضي أن الأطفال والمراهقين الذين يشعرون بأن السيطرة النفسية لآبائهم مرتفعة يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية وسلوكية أكثر من غيرهم بستة أضعاف. [6]

  

تنشئة أطفالهم على عقلية الضحية

يرغب جميع الآباء في تنشئة أطفالهم تنشئة سوية ليكونوا أشخاصا بالغين مسؤولين قادرين على التحكم في زمام أمور حياتهم، لكن في بعض الأحيان لا تسير الأمور على ما يرام ويصبح الأطفال غير آمنين نفسيا وعاطفيا، وفي كثير من الأحيان يكتسبون عقلية الضحية منذ الصغر، فيحولون أي حدث أو مشكلة مهما كانت عابرة على أنه تآمر ضدهم وأنهم ضحية لغيرهم. للأطفال مشكلاتهم الخاصة مع بعضهم البعض، هذا أمر طبيعي في مثل هذا العمر، لكن إقصاء طفلك من فريق كرة القدم المدرسي أو إخفاقه في الاختبار الشهري أو ضياع بعض أدواته، لا يجعله ضحية لتآمر زملائه أو مُدرّسيه بأي شكل من الأشكال.

    

لا تقتصر عواقب تنشئة الطفل بعقلية الضحية على شعوره الدائم بالاستحقاق وحسب، بل يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك داخل جذوره النفسية والعقلية
لا تقتصر عواقب تنشئة الطفل بعقلية الضحية على شعوره الدائم بالاستحقاق وحسب، بل يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك داخل جذوره النفسية والعقلية
     

تنشئة الأطفال على عقلية الضحية لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يحدث نتيجة لتراكمات كثيرة وأسلوب تربية غير سوي يعتمده الآباء. لكن للأسف مثل أغلبية السلوكيات السلبية التي يتبعها الآباء غير الأسوياء نفسيا مع أطفالهم، فإن تأثير عقلية الضحية على الطفل تأثير مدمر على كافة المستويات من طفولته المبكرة حتى بعد مرحلة البلوغ. عندما ينشأ الطفل على عقلية الضحية ينضج وهو مؤمن تماما بأنه دائما على حق، فهو ليس مسؤولا عن أفعاله لذا يوجه اللوم إلى الآخرين على مشكلاته، ويرى أنه أحق باكتساب تعاطف الآخرين ومواساتهم. ثم يكبر وهو مقتنع أنه لا يمتلك أدنى سيطرة على حياته، ويشعر بأن الجميع أكثر سعادة منه، بل في بعض الحالات قد يشعر بالمتعة المستمدة من الشعور بالأسف على نفسه أو من تعاطف الآخرين معه.

  

لا تقتصر عواقب تنشئة الطفل بعقلية الضحية على شعوره الدائم بالاستحقاق وحسب، بل يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك داخل جذوره النفسية والعقلية، ليُشكّل في النهاية شخصا يعاني من تدني احترام الذات وعدم الثقة بالنفس أو بالآخرين، مرورا بعدد لا يحصى من المشكلات الاجتماعية مع الشعور بالعجز وقلة الحيلة، وعدم القدرة على تحديد نقاط قوته. [7] تعلق الطبيبة النفسية بولا دورلوفسكي في إحدى تدويناتها على تطوير عقلية الضحية لدى بعض الأشخاص قائلة: "إن الأشخاص الذين يطورون عقلية الضحية يخدعون أنفسهم بأنفسهم بسبب تدني احترامهم لذواتهم وضعفهم واكتئابهم، فتنتج التقييمات الذاتية السلبية المزمنة مشاعر اليأس والعجز التي تُعتبر بمنزلة حلقة مفرغة تخلّد عقلية الضحية وتدعمها". [8]

  

وتضيف: "في نهاية المطاف، قد يحافظ الأفراد على عقلية الضحية لأنهم يخشون تحمل مسؤولية متطلباتهم ورغباتهم، ولديهم خوف شديد من الفشل، حيث يعتقدون دون وعي أنهم لا يستحقون الحصول على الأشياء الجيدة في الحياة". ما يفعله الآباء الأسوياء نفسيا، على نقيض غيرهم من الآباء، هو أنهم يساعدون أطفالهم على التطور العقلي والنفسي، فبدلا من مساعدتهم في الشفقة على حالهم وتهويل مشكلاتهم والمبالغة فيها وتضخيم شعورهم بأنهم ضحايا مضطهدون يتآمر الجميع ضدهم، وبدلا من تعزيز اعتقادهم بأنهم في عالم مثالي ويُعاملون بظلم رغم استحقاقهم معاملة عادلة، يقومون بتربيتهم على أن الرفض والفشل والظلم جزء أصيل لا يتجزأ من الحياة، لأن الحياة ليست مثالية ولا عادلة. ويساعدونهم على تحديد الطرق التي يمكنهم من خلالها اتخاذ إجراءات إيجابية وتحويل نضالهم إلى نقاط قوة حقيقية بغض النظر عن ظروفهم. [9]

  

يتوقعون الكمال من أطفالهم

undefined

 

عندما يتعلق الأمر بالتربية والدراسة، يتحول الأطفال إلى أدوات في حرب افتراضية بين أولياء الأمور، فيستغل الآباء والأمهات غير الأسوياء نفسيا نجاح أطفالهم، مثل: تحقيق درجة مرتفعة في الاختبارات المدرسية أو الفوز في مسابقة رياضية أو إنجاز شيء ما، ليحظوا بإعجاب الآخرين وينالوا تقديرهم لأنهما الوالدان المثاليان. رغم أن هذا السلوك يعزز ثقة الآباء بأنفسهم ويحسن تصوراتهم الذاتية عن أنفسهم، فإنه ينعكس بشكل غاية في السوء على الأطفال. فيتوقع الآباء من أطفالهم نتائج مثالية في كل شيء، لا يهم مدى اهتمام الأطفال بهذه الأشياء لكن كل ما يهم هو تحقيق إنجازات تميزهم عن غيرهم، مما يضع الأطفال تحت ضغط كبير، حيث يحاولون بكل جهد تلبية رغبات آبائهم والوصول إلى الكمال والتفوق على جميع أقرانهم. يؤدي هذا الضغط إلى طغيان الشعور بالفشل على الأطفال حتى عند تحقيقهم لنتائج جيدة، لكنهم ببساطة يشعرون بأنهم لم يبلغوا الهدف المنشود منهم.

  

هذا ما يفعله الكثير من الآباء بأريحية تامة، دون قصد أو إدراك منهم لتأثير سلوك توقع الكمال هذا على رفاه أطفالهم وصحتهم النفسية والعقلية في المستقبل. على سبيل المثال، قد يكون الطفل موهوبا ومميزا في الموسيقى أو العزف على البيانو، لكنه يعاني بعض الصعوبات في تعلّم الرياضيات، فيسعى والداه إلى توفير أفضل معلم ممكن، وإن لم يصل الطفل إلى المستوى المثالي، يتم نقله من معلم إلى آخر، وهكذا. عادة لا يكتفون بذلك، بل يعقدون المقارنات بينه وبين زملائه وأصدقائه، ويتوقعون منه التفوق عليهم والوصول إلى مستوى ممتاز دون إدراك حقيقي بأن الطفل مميز في العزف على البيانو أو من الممكن أنه يرغب في أن يغدو موسيقيا وليس محاسبا.

     undefined

  

الضغط الذي يتعرض له الأطفال عند توقع آبائهم الكمال في كل شيء يسلبهم ثقتهم بنفسهم وقدرتهم على وضع أهداف واقعية وقابلة للتحقيق. كما أنه قد يرسل رسالة خاطئة إلى الأطفال، مفادها أن الإنجاز أهم من الصدق أو الأمانة والسلوكيات الحميدة الأخرى، وبالتالي قد يغش الطفل في اختباراته المدرسية مثلا للحصول على درجات جيدة، أو يكذب لتحقيق إنجاز ما، إلخ. إضافة إلى ذلك، قد يؤدي توقع الكمال والمثالية من الأطفال إلى جعلهم أكثر عرضة لمشكلات الصحة العقلية بداية من التوتر والقلق واضطرابات الأكل وليس انتهاء بالاكتئاب بحسب الكثير من الدراسات البحثية. [10]

     

للوقوف على تأثير الكمال على رفاه الطفل وصحته النفسية والعقلية أجرى الباحثون في قسم علم النفس بجامعة سنغافورة الوطنية دراسة بحثية استمرت لمدة 5 سنوات، شارك فيها عينة عشوائية مكونة من 302 طفل في سن 7 سنوات مع آبائهم. حققت الدراسة في درجة توقع الكمال الاجتماعي لدى الأطفال، حيث قامت بإجراء تقييمات لمتابعة الأطفال على مدار 4 سنوات على التوالي. خلال التجربة طلب الباحثون من الأطفال ممارسة لعبة تنطوي على حل بعض الألغاز خلال فترة زمنية محددة وهم برفقة آبائهم، وتم إبلاغ الآباء أن بإمكانهم مساعدة أطفالهم عندما يرون ضرورة لذلك. كان الهدف من اللعبة هو ملاحظة ما إذا كان الآباء يتدخلون في محاولات أطفالهم لحل الألغاز بغض النظر عن احتياجاتهم الفعلية أم لا. [11]

  

كشفت نتائج الدراسة التي نُشرت في فبراير/شباط عام 2016 أن 78% من الأطفال المشاركين في الدراسة لديهم درجة عالية من توقع الكمال الاجتماعي، بمعنى آخر، يعتقدون أن آباءهم يتوقعون منهم الكمال. أوضحت الدراسة أيضا أن الأطفال الذين لديهم آباء يتوقون إلى توقع الكمال غالبا ما يكونون أكثر عرضة للقلق والاكتئاب مقارنة بغيرهم. يعلق الأستاذ المساعد ريان هونغ، المؤلف الرئيسي للدراسة، على النتائج قائلا: "عندما يحوم الآباء فوق حياة أطفالهم، قد يكون ذلك إشارة إلى الأطفال بأن ما يفعلونه ليس جيدا بما يكفي. ونتيجة لذلك يخاف الأطفال من ارتكاب أي خطأ مهما كانت ضآلته، ويبدؤون بإلقاء اللوم على أنفسهم لكونهم غير مثالين. وبمرور الوقت، قد تكون هذه المثالية غير المواتية للمجتمع ضارة برفاه الشاب لأنها تزيد من خطر ظهور أعراض القلق والاكتئاب وحتى الانتحار في الحالات الشديدة".

  undefined    

يدرك الآباء الأسوياء نفسيا العواقب الكارثية التي يسببها توقع المثالية والكمال من أطفالهم جيدا، لذا فهم قادرون على إدارة توقعاتهم فيما يتعلق بقدرات أطفالهم إدارة جيدة للغاية، ولا يتوقعون من أطفالهم الكمال والمثالية في أي شيء، لأنهم يدركون تماما أن قدرة أطفالهم على العمل الجاد والسعي نحو أن يكونوا أفضل أكثر أهمية من بلوغ الكمال في أي شيء آخر. وبالتالي يجعلون أطفالهم ينظرون إلى المهام الصعبة على أنها تحديات تشجع عقولهم على التفكير والنمو، مع معرفة أن الفشل لا يزال خيارا مطروحا على الطاولة لأنهم يدركون أن عدم الفشل من حين لآخر يعني أنهم لا يتقدمون بقوة كافية.

  

ثمة الكثير من الأشياء والأساليب التربوية الخاطئة التي يدرك الآباء الأسوياء تأثيرها الضار وعواقبها الوخيمة على رفاه أطفالهم وصحتهم العقلية والنفسية فيما بعد، ولكن لم يتسع المجال لذكرها، أبرز هذه الأشياء: السماح لخوفهم على أطفالهم بتشكيل قراراتهم وخياراتهم، وإبعاد أطفالهم عن تحمل المسؤولية حتى مسؤوليتهم الشخصية، ناهيك بمنع أطفالهم من ارتكاب الأخطاء مهما كانت ضآلتها، بل وتشجيعهم على عدم الإحساس بالمسؤولية عن مشاعرهم وعواطفهم. لذا إن كنت ترغب بتنشئة أطفال أسوياء نفسيا تجنب هذه السلوكيات المدمرة.

المصدر : الجزيرة