شعار قسم ميدان

هل يمكن أن تصاب بالجنون بعد أن ولدت عاقلا؟

ميدان - الجنون فقدان العقل

"الجنون في بعض الأحيان هو الاستجابة المُناسبة للواقع"

(فيليب ك. ديك، فاليس)

   

دينيريس تارجيريان، أميرة في المنفى، أحبّها المتابعون منذ بداية "صراع العروش"، والتي تتوق لاستعادة عرش عائلتها المغتصب. خلال هذه الرحلة، كانت دينيريس تتبع بوصلتها الأخلاقية، تُحرر العبيد وتعاقب آسريهم وتُحرر المدن، وما إلى ذلك. لكن الحلقات الأخيرة من المسلسل، أظهرت دينيريس ميلا تجاه عدم الاستقرار الانفعالي، الذي يقرب من الجنون. وإثر نوبات متتالية من الخسارة، ذبحت الآلاف من الأبرياء في نوبة غضب أفقدتها عقلها، وأصبحت الطاغية التي كرست قُواها من قبل للإطاحة به، ألا يُذكرنا جنونها هذا بأبيها؟(1)

   

في مكان آخر داخل عالمنا الواقعي، وبجانب منشر صغير للغسيل، تتراقص أصابع فتاة في مقتبل عمرها بين ملاقطه، تُعاني وسواسا قهريا يدفعها لغسل قطعتين من الثياب، وعصرهما ونشرهما، والتقاطهما وغسلهما من جديد، هكذا دون توقف. وفي الغرفة نفسها بمحاذاة الباب، شباك صغير، تسرحُ عبر قضبانه عينا فتاة في السابعة عشرة من عمرها صامتة، بعد أن علمت أنها لقيطة؛ الأمر الذي صدمها وأفقدها أي جزء عاقل في رأسها. وامرأة ثالثة تُحدث نفسها وتُذكر جميع من في المصحة النفسية وكل مار من أمامها أن بطنها مليء بالعمليات والخيوط وتتساءل: ما الذي دفعه للزواج بغيري؟ أما "أماني"؛ فتاة في السادسة والعشرين من عمرها، شخّصها الطبيب بالذهان الحاد بعد ظهور بعض العلامات الجديدة على سلوكها الذي لم يمتد لأكثر من شهر.

    

undefined

    

في حوار مع "ميدان" تقول (م.ح) شقيقة أماني: "كانت أختي فتاة طبيعية مثلنا، أكملت دراستها الثانوية، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي سمعنا به صوت صراخ الجيران في الحي؛ لنعلم أن فتاة من جيراننا قامت بالانتحار بحرق نفسها، تلك الرائحة التي لن أنساها يوما. كانت أماني تبكي دون توقف، وظلت تبكي طوال الليل إلى ظهيرة اليوم التالي دون توقف. حاولنا تهدئتها واعتقدنا أن هذا كله حزن على جارتنا، ولكن عبث، لقد خط الدمع خطين على خديها وتغيرت من بعد ذاك اليوم. بدأت بالنسيان، والعنف، والسباب، وتخيل حيوانات وأجسام لا نراها. لم يأخذ الموضوع مع أماني أكثر من ثلاثة أسابيع لتُشخص بالذهان الحاد في سن الحادية والعشرين".

   

بين ترحال من بيتها إلى مصحة نفسية، تعيش أماني بين عائلتها اليوم بعقل طفلة في السابعة من عمرها، مُلتزمة بعدد كبير من الأدوية والمُهدئات، فاقدة أي ذكرى تُخبرها أنها قبل خمس سنوات من الآن كانت فتاة طبيعية تملك عائلة تحبها ويحبونها. والسؤال الذي لمع في رأسك الآن، كيف يُمكن للعاقل أن يلتقط الذهان، ويعيش فاقدا للعقل بعد أن تمتع بعقله لسنوات طوال؟

   

الجنون كلمة فضفاضة

"لا يوجد أي عقل كبير دون مسحة من الجنون"

(أرسطو)

   

في حوار مع "ميدان" وللإجابة عن هذه الأسئلة التي تفتح أبوابا للاحتمالات الغريبة التي تقلب حياة المرء بين ليلة وضحاها، يُجيب الدكتور "همّام يحيى"، الأستاذ المساعد في الطب النفسي في جامعة نيومكسيكو بالولايات المُتحدة، عن سؤالنا فيما لو كان التقاط الجنون بهذه السهولة، وكأنه فيروس يطير في الجو، فيقول: "بداية؛ الجنون أو فقدان العقل هما مصطلحان فضفاضان للغاية لدرجة تجعل من الصعب فهم وتحديد الحالات التي تندرج تحتهما، حيث إن كلمة "الجنون" لا يُمكن وضعها في سياق طبي أو نفسي، إلا أنها شائعة في الأدب وفي كلام الناس. أما لوضع هذين المصطلحين في سياق طبي ونفسي فيُمكننا ذكر بعض الحالات التي يُعرفها الطب والتي يصل بها المرء إلى حالات تُشبه مُصطلح "الجنون وفقدان العقل" الشائع وصفه بين الناس".

      

الدكتور
الدكتور "همّام يحيى" الأستاذ المساعد في الطب النفسي بجامعة نيومكسيكو. (مواقع التواصل)

    

ويُكمل لـ"ميدان" بأنها ليست حالة واحدة دقيقة ومُحددة، ولكنها حالات عديدة تتباين بين مسبباتها وأعراضها وأشكالها، إلا أنها جميعا قد تتشارك بنتيجة يمكن تقريبها لما يوصف بالجنون. ويوضح الدكتور همام أهم صفات الذهان التي يُمكن اختصارها بأن المريض يفقد اتصاله بالواقع أو بالحقيقة، وعلى هذا الأساس يضرب أمثلة لبعض الأمراض التي قد يصل المريض بها إلى هذه الحالة، فيقول: "في مرض الفصام (السكيزوفرينيا) يمر المريض بنوبات ذهان، خلال هذه النوبات يستمع الشخص لهلاوس لا وجود لها، يُؤمن بأشياء غير حقيقية كأن يكون نبيا أو إلها، أو بأنه شخص آخر، أو أن يؤمن بأنه ميت ولا وجود له وأشكال أخرى مختلفة من المعتقدات غير الصحيحة ولكن المريض يؤمن بها تماما وكأنها حقائق مؤكدة".

   

كما يُصيب الفصام 1% من سكان الولايات المُتحدة (3 ملايين شخص)، ويُصيب الرجال والنساء بنسب مُتساوية، ولكن قد يكون له بداية مبكرة عند الذكور. لا يوجد علاج شافٍ تماما، إلا أن المُهدئات تعمل على وقف تطور الحالة، ومن المرجح أن يموت الأشخاص المصابون بالفصام بسن أصغر من عامة الناس. (1)(2) لا يزال سبب الفصام غير واضح، فبعض النظريات حول سبب هذا المرض تشمل: علم الوراثة (مُكون وراثي قوي)، علم الأحياء (تشوهات في كيمياء أو بنية الدماغ)، و/أو العدوى الفيروسية المحتملة والاضطرابات المناعية. (3)

  

   

يُتابع الدكتور همام يحيى مع "ميدان" وينتقل للحالة الأخرى التي يُسجل بها المرء وصوله لحالة فقدان العقل أو الذهان وهي حالة الخرف (5)، كالمصاب بالزهايمر (6) في مرحلة متأخرة من المرض. يفقد تدريجيا صلته بالمحيط، ويفقد قدرته على الاعتناء بنفسه، إلى جانب نسيانه لذكرياته المهمة أو الأناس الذين من المُفترض أنهم الأقرب إليه، وينسى مكان بيته وتفاصيله التي تُكسبه الهوية، وهي حالة من فقدان العقل. حالة الخرف تظهر مع التقدم في السن ولكنها ليست مرحلة اعتيادية يمر بها كل كبير في السن، وتم تسجيل إحصائية في عام 2010 في الولايات المتحدة تُفيد بأن 4.7 مليون شخص في عمر الـ 65 مصاب بالزهايمر، وتُفيد جمعية الزهايمر أن الزهايمر يُسجل 60-80% من حالات الخرف. وتُفيد الدراسة (7) التحليلية أن عدد المصابين بالخرف سيزداد زيادة كبيرة ما بين عام 2010-2050 ما لم يتم تطوير تدابير وقائية. (8)

     

   

ينتقل الدكتور همام يحيى لاستعراض حالة طبية أخرى وهي الهذيان، يدخل بها الشخص في حالة فشل دماغي، أي إن دماغه لا يعود قادرا على القيام بوظائفه، كالتركيز، والانتباه، أو معرفة في أي يوم من الأسبوع قد وصل، أو من هو، أو أين هو. ولكنها تحدث بشكل سريع ولسبب طبي، على سبيل المثال: يتوجه أحدهم للمستشفى، يُعاني من التهاب حاد في الرئة، والجراثيم أدّت إلى تسمم في الدم وانتقال البكتيريا للدم، فيُصاب الجسم بحالة التهاب عامة تؤدي بدورها إلى فقدان الشخص لصلته في المحيط، أي إن عقله (دماغه) يتوقف عن العمل لسبب طبي. وهُناك أسباب أخرى للدخول في حالة الهذيان هذه، مثل استخدام أدوية مُعينة بإفراط، أو استخدام بعض الأدوية المُخدرة، بعض الحالات المَرضية (الالتهابات، التهاب الكلى الشديد، التهاب الرئة الشديد) وأي حالة تسمم في الدم، وأي اختلالات شديدة في تركيز الأملاح في الجسم، وغيرها.

   

يُوضح الدكتور همام أن هذه الحالة تمتاز عن الحالتين السابقتين من فقدان العقل بأنها شكل مؤقت من فقدان الشخص لوظائف دماغه، ويُمكن شفاؤها شفاء تاما، ولكن في بعض الحالات القصوى تؤدي إلى الوفاة. (9)(10)(11) لعلّ فيلم "هذيان" (Delirium) جسّد ما شرحه الدكتور عن هذه الحالة، المُصاب الذي أُفرج عنه أخيرا من مصح عقلي، والذي يرث قصرا بعد وفاة والده، وقبل أن يترجل من باب المصح يقف مع معالجه النفسي الذي يُناوله علبة الأدوية ويُذكره بتناول حبة إن شك بأن ما يدور حوله لا يدور حوله، ليُجيبه المُصاب: "أن أثق في عقلي، لا عيني!".

     

   

هل فقدان العقل وراثي؟

"الشك.. مرض يأتي من المعرفة ويؤدي إلى الجنون"

(غوستاف فلوبير، مذكرات رجل مجنون)

   

يُكمل "ميدان" مع الدكتور همام يحيى، ليوجه سؤالا عمّا إذا كانت الحالات السابقة وراثية أم أنها حالات مرضية ونفسية تُصيب أي شخص؟ يختلف الدكتور مع الاعتقاد الذي يقول إن هناك من يُولد مُصابا بالجنون، ولكن قد يُولد الطفل في حالة من التأخر العقلي الشديد، كأن يتعرض وهو في الرحم أو في مرحلة الولادة لنقص الأكسجين. وهذا ما يجعل دماغه متأخرا لسبب عضوي، فلا ينمو ولا يتطور كأقرانه من الأطفال وتبقى قدراته العقلية محدودة جدا. (12)(13) وهذا تماما ما أكدته (م.م) والدة الطفل "محمد" لـ "ميدان"، حيث أوضحت أن ولادتها كانت عسيرة جدا بالإضافة إلى قلة الرعاية الطبية التي قُدمت لها في المُستشفى: "وُلد طفلي مُزرقا تماما، وبقي لأيام لونه أزرق، وتعرض لنقص الأكسجين أثناء ولادته. وها هو اليوم يبلغ من العُمر 16 سنة فاقدا لقدرات عقله، وغير قادر على النطق ولم يحظ بأي تعليم، ولا يُدرك تماما أين هو".

   

وعلى هذا الأساس يؤكد الدكتور أن هناك بعض الإصابات بفقدان العقل يُمكن أن تكون بسبب وراثي، ولكنه يعتمد اعتمادا كبيرا على الحالة التي نتحدث عنها. إذ إن مرض الفصام له مكون وراثي قوي، بحيث إنه في حال وجود شخص قريب من الدرجة الأولى مُصاب بالفصام؛ فهذا يزيد من احتمالية إصابة أقاربه من الدرجة الأولى بالفصام عشر مرات. كما أن الإصابة بالزهايمر لها عدة أسباب، ولكن هناك نمط من الزهايمر له سبب جيني يُمكن معرفته، ووجود نسخة جينية لا يعني الإصابة 100% ولكنها إشارة إلى أن احتمالية الإصابة أعلى. ويُعلق الدكتور: "هذا سؤال أخلاقي كبير جدا، فهل هُناك أي داعٍ من تتبع أمر كهذا بهذا القدر من الدقة؟ أن أعرّض طفلي أو شخصا أحبه لتحليل يُخبرني عن نسبة إصابته بالزهايمر على سبيل المثال؟ أسباب الموت كثيرة، فيُمكن أن يموت الشخص بحادث سيارة، لذا يجب التوقف عند هذه النقطة من ناحية أخلاقية".

   

يختم الدكتور همام يحيى حديثه مع "ميدان" عن طرق العلاج، ويوضح أن الفصام له أدوية تؤخر تطوره وتُسيطر على أعراضه، ولكن لا يوجد علاج شافٍ. وكذلك الأمر ينطبق على الخرف، حيث لا علاج إلى هذه اللحظة، وإنما العلاجات تُبطئ من تفاقم المرض ليس إلا. أما الفقدان المؤقت لوظائف الدماغ "الهذيان" تعتمد كثيرا على السبب، فإذا عُرف السبب وُضعت خطة علاج، واحتمال الشفاء التام عالٍ جدا.

     undefined

    

من الفلسفة للجنون

"ولد نيتشه عام 1844 في ألمانيا، وتوفي جسديا عام 1900. أقول جسديا لأنه توفي فكريا عام 1889، حينما أصيب بانهيار عقلي في مدينة تورين في إيطاليا، ظل بعدها في كنف والدته وشقيقته حتى وفاته الجسدية. وقد عاش نيتشه حياة غير نمطية مليئة بالمكابدة والوحدة والمرض والتجارب الذاتية غير المألوفة، الأمر الذي هيأه لحياة ذهنية غير نمطية"

(الكاتب هشام غصيب) (14)

   

تتعدد الروايات التي تحوم حول حياة الفيلسوف "فريدريك نيتشه"، فهناك من قال إنه أُصيب بالذهان في آخر سنواته، وهناك من ينفي حقيقة فقدانه لعقله. ووفقا للرؤية الطبية السائدة في ذاك الوقت فقد تم تشخيصه بتفاقم مرض الزهري، وتتابعت التحليلات التي تعزو سبب انهياره العقلي منها تشخيص حدوث "مرض الهوس الاكتئابي ثم الذهان يليه الخرف الوعائي". (15) حيث تأثرت كتاباته بعد انهياره، الأمر الذي دفع صديقه وسكرتيره "بيتر غاست" لتصحيحها دون إذنه. (16) وبالعودة للدكتور همّام يحيى فقد تم سؤاله عن الصدمات النفسية؛ هل يُمكن أن تلعب أي دور في إصابة الشخص بالذهان؟ فكانت إجابته: "إذا كان هناك استعداد جيني يملكه الشخص، فهذا الاستعداد يُسرّع في ظهور الذهان. والصدمات النفسية الشديدة يمكنها أن تؤدي إلى أعراض شبيهة بالذهان". (17)(18)

  

يقول الكاتب باسم توفيق: "إذا كانت حدود الشخصية البشرية، وخاصة الحد العقلي، حدودا شديدة الغرابة والتميز والغموض، فإن السبب الوحيد الذي يجعل من بعض الناس عباقرة أو مبدعين، فلاسفة، قادة، خطباء أو حتى سياسيين، هو التميز، والتميز بمعناه الواسع لا يعني التفوق في التفكير العقلي فقط، لكنه قد يعني التميز في الجنون، أي إن التميز حتى في الجنون قد يدفع الإنسان لمصير عبقري يجعل منه قائدا من قادة المسيرة البشرية، ولهذا على الإنسان العاقل أن يُقدّر الجنون كما يُقدّر العقل، لأنه قد يكون نوعا من العبقرية لم نعرفه بعد، وكما أنك لا تنظر إلى هذيان عرافات معبد الإله أبوللو على أنه جنون، بل على أنه نبوءة؛ فعليك أيضا ألا تستهين بهذيان شخص ما أيا كان نوع هذا الهذيان، فالقدماء كانوا يأخذون الهذيان مأخذ الجد أكثر من الكلام العاقل أحيانا". (19)

المصدر : الجزيرة