شعار قسم ميدان

فكر مرتين.. لماذا يجب أن تستأذن طفلك قبل نشر أي شيء عنه؟

ميدان - سيلفي مع الابن

"غالبا ما يفكر الآباء في أفضل طريقة لحماية الأطفال أثناء استخدام الطفل للإنترنت. ومع ذلك، فإن الآباء -بمن فيهم أنا مبدئيا- لا يفكرون دائما في كيفية تأثير استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي على رفاهية أطفالهم"

(بهاري كيث، مدير المسار الصحي العالمي للأطفال وأستاذ مساعد لطب الأطفال في كلية الطب بجامعة فلوريدا)

   

في مشهد من مسلسل "ظل الرئيس" الذي عُرض في رمضان 2017، شخصية "غادة" التي لا تعمل في مجال إعلامي ولا وظيفة تُلزمها على المثول أمام الكاميرا ومشاركة تفاصيل حياتها، إلا أنها كانت مُداومة على نشر أي شيء وكل شيء. وفي ظل المُصيبة التي حلت بأخيها من مقتل زوجته وابنه، فإنها حرصت على استغلال مقطع مصور للطفل واللعب على وتر الإعجابات لتستفيد، الأمر الذي أثار حفيظة شقيقته التي طلبت من غادة حذف المقطع على الفور والتحلي ببعض المشاعر الإنسانية واختيار الوقت المناسب لمشاركة ما يهم مشاركته.

     

   

وباستقامة هذا الخط، نجد أن الأمر عالمي بخصوص ما يتعلق بما يُنشر وما لا داعي لنشره. فالأمر بات سهلا حتى على من لا يعمل في مجال إعلامي، أو يرتكز على أعتاب وظيفة تحتاج إلى متابعين أو جمهور بالمعنى الكلاسيكي. فأي خفيف ظل، أو فارغ، أو موهوب؛ لديه كاميرا واتصال بشبكة الإنترنت، صار من السهل عليه أن يُصبح مشهورا يُتابعه الآلاف، فيشعُر لا إراديا بإحساس يُلزمه بنشر أي شيء حتى ولو لم يكُن مُفيدا، إثبات حُضور لا أكثر. وبخط متوازٍ نرى الجمهور اعتاد أن يرى خصوصيات وتفاصيل حياة من يتابعونه، أو وجباته أو روتينه اليومي، بل ويعتبون على "مشهورهم" المفضل الذي لا يُشاركهم أكثر. كما حدث مع الفنانة اللبنانية ميريام فارس، التي كانت تتعمد نشر صور لزوجها ولطفلها دون إظهار وجوههم، الأمر الذي أثار استياء متابعيها وافتراض سيناريوهات تتهم الفنانة بالغرور والخوف من الحسد وفتح أبواب من السخرية لم تُقفل حتى هذه اللحظة!

  

View this post on Instagram

A day to remember ❤️💙❤️

A post shared by Myriam Fares (@myriamfares) on

   

وبجغرافيا أوسع، نرى الملاحظة ذاتها التي لاحقت دوقة ساسكس ميغان ماركل، حيث انتظرها الكثير لتنشر صورة واضحة لوجه طفلها آرتشي هاريسون (1) (2) والذي كان أول ظهور له مع والده الأمير هاري في صورة على الحساب الرسمي لدوق ودوقة ساسكس في يوم الأب على موقع إنستغرام. كل هذا الضجيج حول نشر ملامح من حولنا، ألا يُمكن أن يكون لأطفالنا رأي آخر في كل هذا؟

  

View this post on Instagram

Happy Father’s Day! And wishing a very special first Father’s Day to The Duke of Sussex! © SussexRoyal

A post shared by The Duke and Duchess of Sussex (@sussexroyal) on

 

ما الفائدة من النشر؟

في مقابلة لـ "ميدان" مع الإعلامية والمستشارة التربوية همسة يونس، والتي تُقدم برنامجا إذاعيا تحت عنوان "أطفال.كوم"، تستشهد بتجربة شخصية حدثت مع طفلها الأصغر، وتقول إنه كان يرفض رفضا قاطعا أن يبتسم للكاميرا أو يتصور أو يُنشر عنه أي شيء رغم صغر سنه، فما كان منها إلا احترام رغبته وعدم إجباره على الابتسام للكاميرا، حتى صار يُبادر هو أحيانا بطلب تصويره بعد أن تأكد من جسور الثقة التي بُنيت مع أمه من خلال احترام رغبته واجتناب ما يُزعجه. وتُعلق أن الطفل ابتداء من عمر 3 سنوات يبدأ بفهم وتكوين فكرة عن عدسة الكاميرا، فهو لا يعرف أساسا مغزى التقاط الصور ولا يعي الشيء الذي يُدعى "منصات التواصل" أو الضغط على زر الإعجاب، كل ما يفهمه أن هُناك عدسة تُراقبه وتُحاول أن تُوثق بعض المواقف التي لا يُدرك أهمية توثيقها.

     

تنتقل الأستاذة همسة للحديث عن أن برنامجها يُعد منصة تُمارس بها اختصاصها من استشارات ونصائح تربوية تُقدم للأهالي، وتقول إن الأهالي أحيانا لا يعون معنى إنسانية أطفالهم، واحترام شخصياتهم المُستقلة. وتضغط بإصبعها على جرح نكاد لا نراه بسؤال: ما الفائدة من نشر ما يُسيء لطفلي وفتح باب السُّخرية والاستهزاء؟ وتُوضح أن توثيق بعض التجارب يُمكن أن يكون نافعا في نشره، وهي تفعل هذا أحيانا إن رأت أن موقفا معينا قد يحمل رسالة تربوية تُفيد غيرها من الآباء والأمهات. ولكن الكثير من الأهالي يقعون في فخ السماح للجمهور بالاستهزاء وتناقل مقاطع أو صور مؤذية تُسيء لشخصية الطفل، وتقول: "أنا أرفض أن يتم الضحك والاستهزاء ببراءة طفلي، وأن يتم تناقل ما وثقته من خلال عدسة صغيرة ليملأ الوطن العربي سخرية لا يُمكن السيطرة عليها أو إيقافها". وتؤكد أن هُناك فرقا بين ما يُنشر ويعكس خفة ظل براءة الطفل، ليكون ضحك الجمهور بخلفية من الحب والإعجاب، وبين أن يضحك الجمهور استخفافا بموقف حدث مع طفلي، مع الإشارة إلى أن الأهل هم حجر الزاوية الذي يُحدد طبيعة تفاعل الجمهور.

   

   

تُضيف الأستاذة همسة لـ "ميدان" أنه من المُمكن أن يكون نشر منشور مُعين سببا في لفت انتباه الأم أو الأب لثغرة في علاقة أحدهما مع طفلهم، فهُناك بالتأكيد فائدة من نشر المواقف التربوية الهادفة. وفي سؤالها عن وعي الطفل لمفهوم الإحراج، وهل من المُمكن أن يُحرج الطفل وأن يترسب أثر بعض المواقف المُحرجة في نفسه حتى في عمر صغير؟ تُجيب بنعم، وتستطرد بأن الطفل يبدأ بفهم الإحراج من عمر 3 سنوات، وتقول حتى لو لم يكن يُدرك الطفل معنى الإحراج، فنحن كأهل نُدرك بشكل مُطلق معنى الإحراج، فلماذا نختار أن نضع أطفالنا في بُقعة نحن أول من يُدرك أنها مُحرجة؟ وترى أنها خبرة سلبية لن تُضيف للطفل، ولا للأهالي ولا حتى للجمهور. فالجمهور، وخاصة الأقرباء منهم أو المعارف، سيحفظون الموقف بذاكرتهم -حتى لو لم يكن الطفل مُدركا-، وبعد مرور فترة من الوقت، أو السنوات، سيلجأون إلى إعادة واسترجاع بعض المواقف المُحرجة التي قد سبق ونشرها الوالدان باعتبار أنها عادة موجودة في مجتمعاتنا هدفها -رُبما- فكاهي، ولكن في خلفيتها استخفاف وانتقاص من تقدير الطفل لذاته. وبالتالي سيُفقده ثقته بنفسه أو بوالديه، وقد يلجأ للومهم على نشر خصوصيته وتعريضه لهذه المواقف المُحرجة، وتُؤكد أنه لا ضرورة لكل هذا!

  

بعض المواقف لها الأثر الكبير على الطفل، وقد تكون سببا ونقطة مفصلية في لجوء الطفل للانعزال والابتعاد عن التجمعات سواء للأهل أو الأصدقاء، ويُصبح الطفل أكثر خجلا خوفا من تذكيره بمواقف محرجة أخرى.

  

خُطوط حمراء يرسمها الطفل

تُكمل الأستاذة همسة لـ "ميدان" أن الطفل من عمر 5 سنوات يُصبح قادرا على النقاش، والاعتراض، والقبول والرفض. فهو قبل سن خمس سنوات قد يدرك أن الأم أو الأب قد قاموا بنشر صورة له، ولكنه لم يستطع حينها قراءة ما كُتب. عندما يصل الطفل للعمر الذي يسمح له بالقراءة قد يبدأ بالسؤال عن سبب كتابة الشيء المرفق بصورته، أو قد يطلب من الأم قراءة ما كتبت، أو قد يعترض على نشر صورة معينة ويطلب إزالتها، قد لا يعجبه شكله أو يرى بأنه مُضحك. في كل الحالات يجب احترام رغبة الطفل في كل ما يراه مناسبا للنشر عنه، واحترام خطوطه الحمراء التي تُريحه، والتي لا تُشعره بأنه مُحاصر أو مُهدد بردات فعل لغرباء قد يضحكون عليه. هذا كله يصب في نهر ثقة الطفل بنفسه ومدى حساسيته التي يجب أن تُحترم وتؤخذ بعين الاعتبار وعدم الاستهانة به.

       undefined

  

إلى جانب تأكيدها أن سلوكيات الآباء والأمهات وتعاطيهم أو تجاوبهم -الإيجابي أو السلبي- مع رغبات الطفل هو أكبر نموذج ومثال يُمكن أن يقتدي به الطفل ويتشرب منه ما يُمارَس أمامه، لتُزرع فيه هذه الممارسات كجزء سيصعب فصله عن شخصيته في الكبر. بالإضافة إلى أن الأهالي هُنا هم المثال الوحيد الذي يمكنه أن يتعلم منه التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، عصر المنصات التي لا يمكن -لأيٍّ منا- أن يُنكر وجودها الراسخ في حياتنا، ومع كل تطور نجد أننا نحتاج إلى ضوابط أكثر وأخلاقيات أكثر تضمن الأمان في استخدام هذه الوسائل دون خوف أو أذى. فإدراك حدود الآخر بوعي هو درس غير مباشر سيتعلّمه الطفل.

 

تُنهي الأستاذة همسة لـ "ميدان" بتأكيدها ضرورة توعية الطفل بقوانين التعامل مع منصات التواصل، تعاملنا معه واحترام مساحته وخصوصيته هو تدريب غير مباشر للطفل على معرفة خصوصيته واحترامها، وبالتالي حين يجيء الوقت -لاحقا- ليتعامل مع منصات التواصل الاجتماعي بشكل مباشر، سيكون واعيا أكثر لاحترام خصوصية الآخرين وعدم الوقوع في فخ التنمر أو التعدي على خصوصية غيره. وتضع خطين تحت "الحوار المفتوح" بين الأهل والطفل، بكل مصداقية وشفافية، فهذا من شأنه أن يبني جسورا من الثقة لا يمكن شقها.

  

   

جيل الخطيئة الرقمية!

سنوات الطفولة الأولى سريعة الزوال، وهذا ما يدفع الأهالي لتوثيق لحظات لا تُعوّض، ولا عيب أو خطأ في ذلك. النقطة اللي يدور حولها النقاش هي نشر ما سبق توثيقه، والحاجة إلى مشاركة كل تفصيل لا يُعوَّض مع الآخرين. في هذا الشأن تكتب الكاتبة إيمي المتخصصة في الكتابة حول البيانات على موقع "Slate" وزميلها في جامعة هارفارد مقالا (3) حول خصوصية فيسبوك، وتتحدث عن طفلة صديقتها، في عمر خمس سنوات، يحرص والداها على نشر لحظات خاصة جدا مع طفلتهما، صورة على باب المنزل حيث اسم الشارع المقابل واضح جدا، صورة أخرى في زاوية أخرى من المنزل أو الحديقة، ومئات الصور منذ ولدت حتى وصلت عمر خمس سنوات. تغير الملامح كان واضحا، مما سيساعد أي خوارزمية على جمع كل ما يخص هذه الطفلة من ملامح، لاسم الشارع، لشكل المنزل، ودائرة المعارف المُحيطة بها، والوجوه التي يُمكن معرفة نوع العلاقة أو القرابة بينها وبينهم.

  

تُعلق في ختام مقالها: "بات من الطبيعي التنبؤ بأن أطفالنا سيُصبحون شخصيات عامة، فنحن أيضا أصبحنا شخصيات عامة بمساعدة هذه التقنيات والوسائل، وكل هذه المعلومات الخاصة أو المواقف السلبية في التربية قد تُعرقل من مسيرة أطفالنا، حتى الجامعات وبعض الجهات تلتفت لتفحص الصفحات الشخصية للمتقدم لفهم وكشف بعض الأمور عنه، فلا داعيَ لنشر بعض المعلومات عن أطفالنا التي ستُرهقهم حين يصلون لمرحلة البلوغ الرقمي الخاص بهم!".

  

الوعي بحماية هوية الطفل

في دراسة (4) أُجريت وقُدّمت في المؤتمر والمعرض الوطني للأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، تحث الدراسة أولياء الأمور على توخي الحذر فيما ينشرونه حول أطفالهم، وجاء فيها:

   

"أكثر من 90% من الأطفال بعمر عامين لديهم بالفعل "وجود على الإنترنت"، ونحو ثلث المواليد موجودون بالفعل على الإنترنت بعد أول 24 ساعة من حياتهم خارج الرحم"

     

تحث الدراسة الآباء على استئذان أطفالهم وحماية هوياتهم، والأخذ برأيهم بكامل الاحترام وعدم التهاون به. يمكن للوالدين أيضا تحسين قدرات أطفالهم على صنع القرار والثقة بالنفس (5)(6)، فما يبدو لحظة جميلة للآباء، قد يكون مصدر سخرية لاحقا للطفل. وهذا ما يتضح من حكاية أحد المُعلمين في مدرسة في ماساتشوستس: "كان هناك طالبة في الصف الثامن، قامت والدتها بإنشاء حساب على موقع يوتيوب (YouTube) لمشاركة بعض المقتطفات الغنائية التي كانت طفلتها تُغنيها. قام بعض الطلاب في نهاية السنة الإعدادية بتشغيل مقطع للفتاة في الفصل، الأمر الذي كان سببا في ضحك هستيري وأحرج الفتاة بشكل كبير".

     

   

وتُعلق ستايسي شتاينبرغ، المدير المساعد لمركز أطفال: "هُناك حاجة إلى خلق التوازن بين حق الطفل في الخصوصية، وحق الوالدين في مشاركة بعض تفاصيله" (7). يبدو هذا منطقيا، فمع بلوغ هؤلاء الأطفال سن الرشد، سيشاهدون البصمة الرقمية التي تُركت في طفولتهم. وفي حين أن معظمهم سيكونون على ما يرام، فإن البعض قد لا يكونون كذلك، وهو أمر يجب أخذه بجدية أكبر من قِبل الأهالي، ومحاولة رؤية الصورة الأكبر بأعين أطفالهم لا بأعينهم كآباء، فالأم ترى كل ما يفعله طفلها جميلا وآسرا، ولكن الانطباع يختلف باختلاف مُستقبلها.

المصدر : الجزيرة