شعار قسم ميدان

"غيبوبة الطعام".. لماذا نشعر بالنعاس بعد تناول وجبة الغداء؟

دقات الساعة تعلن عن الثالثة عصرا، لا تزال في العمل جالسا على مكتبك، ولديك بعض المهام التي ينبغي تنفيذها، لقد انتهيت قبل عدة دقائق من تناول شطيرة البرجر والبطاطس المقلية في وجبة الغداء، لكنك الآن تشعر بأنك لست على ما يرام. تنظر حولك، تجد بعض زملائك يؤدون مهامهم بنشاط، بينما البعض الآخر مثلك تماما، يتأملون شاشة الكمبيوتر، ويشعرون بالإرهاق والتعب، غارقين في الخمول والكسل، ولديهم رغبة لا تقاوم في النوم للدرجة التي يجدون معها مجرد إبقاء عيونهم مفتوحة أمرا غاية في الصعوبة. أغلبنا مر بهذا الشعور من قبل، في يوم عمل حافل، أو في عطلة ما، أو مناسبة اجتماعية مع العائلة تتضمن تناول الكثير من الطعام. لكن لماذا يخالجنا هذا الشعور؟ من أين يأتي كل هذا الخمول والرغبة القاتلة في النوم بعد تناول الطعام؟

الشعور بالخمول والرغبة في النوم بعد تناول الطعام ظاهرة شائعة للغاية يتشارك فيها كثير من البشر، لدرجة أنه قد يكون السبب في عادة غلق المتاجر والمحال التجارية المنتشرة في الهند وبنغلاديش وبعض دول جنوب آسيا عند الـ 3 عصرا، من أجل اللحاق بقيلولة بعد تناول وجبة غداء دسمة غنية بالسكريات والكربوهيدرات. من المثير للانتباه أن هذه الظاهرة لا تقتصر على البشر فقط، بل تنتشر وبكثرة بين الحيوانات أيضا. نعم، فقد توصّل الباحثون في قسم الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية بجامعة فرجينيا إلى أدلة قوية تشير إلى أن النعاس بعد الأكل ظاهرة شائعة للغاية بين الحيوانات، ما جعلهم يطلقون عليها "غيبوبة الطعام". [1]

   undefined

رغم كثرة الافتراضات التي تحاول تفسير هذه الظاهرة، فإن أكثرها جذبا للانتباه هو ما اقترحته الدراسة السابقة ذاتها، والتي تشير إلى أن البشر والحيوانات لديهم إشارات يقظة مدمجة بعقولهم تجعلهم مستيقظين منتبهين عند الشعور بالجوع، لتساعدهم على تحديد مكان الطعام ومن ثم الحصول عليه. لكن، وبمجرد تناول كميات كبيرة من هذا الطعام، تتبدد إشارات اليقظة لتحل محلها مشاعر الخمول والتعب. بالطبع هذا الافتراض ما زال مجرد افتراض لا يستند إلى أدلة قوية، فحتى الآن لا يوجد سبب وحيد لذلك، لكن هناك عدة أسباب تتضافر معا لتُنتج هذه الظاهرة، بداية من النظام الغذائي وعملية الهضم، حتى عادات النوم والنشاط البدني. [2]

يمكن القول إن النظام الغذائي الخاص بنا يمتلك نصيب الأسد في حدوث غيبوبة الطعام، كل شيء يرتبط بالنظام الغذائي وعملية الهضم، مهما كان ضئيلا، تأثيره كبير في حدوث هذا الشعور، سواء كان يتصل بطبيعة الطعام أو نوعه أو حتى كميته. رغم أن عملية الهضم تسري بالطريقة ذاتها على الأطعمة كافة مهما اختلفت، فإن الأطعمة ليست سواء، ولا تؤثر على الجسم بالطريقة ذاتها. فبعض الأطعمة لها تأثير السحر عندما يتعلق الأمر بالنوم، للدرجة التي يمكن أن تجعلك غارقا في النوم كطفل رضيع. في البداية، دعنا نبسط الأمر قليلا، جميعنا نعرف أن أجسادنا تحتاج إلى طاقة لنتمكن من القيام بأداء وظائفنا ومهامنا اليومية مهما كانت بسيطة، المصدر الوحيد لهذه الطاقة هو الطعام الذي نأكله.

عند تناول الطعام، يقوم الجهاز الهضمي بتكسيره بما فيه من مغذيات كبرى مثل: البروتين والكربوهيدرات والدهون، ثم تحويله في النهاية إلى سكر الجلوكوز الذي يُعتبر بمنزلة الوقود والمصدر الرئيسي للطاقة عند معظم الكائنات الحية ليس البشر فقط. ثمة الكثير من الافتراضات التي تنص على أن الدورة الدموية تركز تدفقها على الأمعاء والمعدة للقيام بعملية الهضم خاصة بعد تناول وجبة كبيرة، ما يسبب في المقابل انخفاضا ملحوظا في تيار الدم والمغذيات والأكسجين المتدفق إلى الدماغ، ما يعزز الشعور بنقص الطاقة والرغبة الشديدة في النعاس.

يؤثر كلٌّ من نوعية الطعام وكميته بشكل مباشر على حدوث غيبوبة الطعام
يؤثر كلٌّ من نوعية الطعام وكميته بشكل مباشر على حدوث غيبوبة الطعام

لكن هذا الافتراض تم دحضه من قِبل دراسة بحثية أُجريت في قسم الإشعاع بجامعة ستانفورد، نُشرت في عام 2004، ووضّحت أن هذا الافتراض يتناقض تماما مع أحد المبادئ الفسيولوجية العصبية المعروفة الذي ينص على أن تدفق تيار الدم المتدفق للدماغ لا يتأثر خلال مجموعة واسعة من الوظائف الفسيولوجية. وأكّدت عدم وجود تغيير ملموس في تدفق الدم في الشريان السباتي الأصلي -الذي يجري جانب الرقبة ليمد الرأس والدماغ بالدم- خلال حالات ما بعد الأكل. [3] فمثلا، أثناء أداء التمارين الرياضية يتم تحويل كمية كبيرة من تدفق الدم إلى العضلات، لكن في الوقت ذاته يتم الحفاظ على تدفق الدم إلى المخ كما هو، والأمر ذاته ينطبق على عملية الهضم.

تؤكد الدراسة السابقة ذاتها فرضية أخرى بديلة أكثر جدية يتبناها كثير من الباحثين والدراسات البحثية، ومفادها أن عملية الهضم تؤدي إلى ظهور مجموعة من الاستجابات داخل الجسم، أبرزها إطلاق العديد من الهرمونات التي تلعب دورا جوهريا في حدوث النعاس بعد الأكل. [4] خلال عملية الهضم، ترتفع نسبة السكر في الدم، وبالتبعية يزداد إنتاج البنكرياس للأنسولين ليقوم بدوره في تنظيم مستويات السكر بالدم والسماح له بالخروج من الدم إلى الخلايا، ما ينشئ علاقة مباشرة بين نوع الطعام وكميته وبين مستوى الأنسولين في الدم. [5]

يؤثر كلٌّ من نوعية الطعام وكميته بشكل مباشر على حدوث غيبوبة الطعام، بطريقتين مختلفتين تؤديان إلى زيادة حمض التربتوفان المسؤول عن تكوين الناقل العصبي المعروف بالسيروتونين. لكن قبل توضيح الطريقتين اللتين نتحدث عنهما، ما التربتوفان؟ وماذا يفعل السيروتونين أصلا؟ ببساطة، التربتوفان هو حمض أميني أساسي لا يقوم الجسم بإنتاجه، لكنه يحتاج إليه للقيام ببعض العمليات الحيوية المهمة، وبالتالي السبيل الوحيد للحصول عليه يكون عبر الأغذية الغنية به وهي كثيرة. الدور الرئيسي لـ "حمض التربتوفان" هو تخليق ناقل عصبي مهم يُعرف بالسيروتونين، مسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية والرغبة الجنسية إلى جانب تعزيز الشعور بالنعاس وبعض المهام الأخرى.

undefined

نرجع مرة أخرى إلى العلاقة بين نوعية الطعام وكميته وبين غيبوبة الطعام. في الحالة الأولى، عند تناول وجبات غنية بالكربوهيدرات والبروتينات التي تحتوي على نسبة عالية من حمض التربتوفان (نوعية الطعام)، يزداد معدل تخليق السيروتونين الذي يسبب الشعور بالنعاس. أما في الحالة الثانية، فكلما كانت الوجبة دسمة غنية بالكربوهيدرات -حتى لو كانت هذه الكربوهيدرات تفتقر إلى التربتوفان- زاد تركيز الأنسولين، الذي يقوم بخفض مستويات الأحماض الأمينية المنافسة للتربتوفان، ما يفتح المجال لزيادة تركيز التربتوفان، وبالتبعية زيادة تخليق السيروتونين المسؤول عن الشعور النعاس. [6]

تتفق مع ذلك أخصائية التغذية المعتمدة جمة أوهانلون، التي قالت في حوار لها لمدونة الهاف بوست: "إن الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات، مثل الخبز والمعكرونة والأرز، تعزز من إنتاج ناقل عصبي يعرف باسم السيروتونين، الذي يمكن أن يحسن مزاجنا ولكنه يجعلنا نشعر بالراحة والرغبة في النعاس". [7] لكن المفارقة هنا أن كثيرا من الأطعمة، سواء كانت غنية بالبروتين أو الكربوهيدرات، تحتوي على نسب كبيرة من التربتوفان، بما فيها اللحوم والدواجن والبيض والحليب والأجبان ومنتجات الصويا، علاوة على الأرز والمعكرونة ومنتجات القمح كالخبز والحلويات وغيرها. [8]

undefined

لتحديد العلاقة بين الأنماط الغذائية وبين مستويات الرغبة في النعاس خلال نوبات العمل، أجرى الباحثون في جامعة ساو باولو البرازيلية دراسة استطلاعية على مجموعة صغيرة من سائقي الشاحنات مكونة من 52 شخصا. تضمّنت الدراسة تطبيق استبيان منظم يجمع بيانات المشاركين بما فيها نمط الحياة والتغذية، ثم تقييم الاستهلاك الغذائي على مدار الـ 24 ساعة مع تقييم مستوى النعاس. كشفت نتائج الدراسة، التي نُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن الأشخاص الذين تناولوا وجبات غنية بالخضراوات والدهون الصحية، مثل زيت الزيتون ومنتجات الألبان، كانوا أقل رغبة في النوم بعد تناول الغداء من أولئك الذين تناولوا وجبات سريعة غنية باللحوم المصنعة والمشروبات الغازية. [9]

رغم أن الدراسة أُجريت على عينة صغيرة نسبيا، فإن النتائج التي توصلت إليها والتي تنص على أن النظام الغذائي الصحي يقلل فرص الشعور بالرغبة في النعاس بعد تناول الطعام أثناء النهار، تقف في صف نتائج الكثير من الدراسات السابقة وتتفق مع الرأي السائد الذي ينص على أن كمية ونوعية الطعام الذي نتناوله تلعب دورا محوريا في حدوث غيبوبة الطعام. ثمة الكثير من العادات والسلوكيات التي يمكن اتباعها للتخلص تماما من الخمول والكسل والرغبة في النعاس بعد تناول الطعام وخاصة وجبة الغداء، أبرزها:

undefined

منذ الصغر ونحن نسمع عن مدى أهمية وجبة الإفطار التي لا يجب علينا إهمالها بأي شكل من الأشكال مهما كانت الظروف. لكن بغض النظر عن كل ذلك، فنحن هنا لسنا بصدد حصر فوائد الإفطار لصحتنا وعقولنا، لكننا بصدد معرفة الدور الجوهري الذي يلعبه سلوك بسيط كتناول وجبة الإفطار في تقليل الخمول والرغبة في النعاس بعد تناول وجبة الغداء. ذلك لأن وجبة الإفطار المتوازنة تمدك بالطاقة التي تحتاج إليها طوال اليوم حتى موعد الغداء، وبالتالي إذا لم تتناول إفطارك ستشعر بالخمول لا محالة قبل موعد الغداء، وعندما يحين هذا الموعد ستقوم بتناول كميات كبيرة من الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات والسكريات لتعوّض انخفاض معدل السكر في الدم طوال اليوم، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى الخمول والرغبة في النوم بعد الانتهاء من تناول الطعام.

undefined

يلجأ الكثيرون في اختيارات الغداء إلى الوجبات السريعة الغنية بالكربوهيدرات والدهون والأغذية المصنعة والسكريات، لأنه خيار أسهل وأكثر توافرا وبالطبع أفضل مذاقا. لكن الاعتماد على هذه النوعية من الأطعمة له خطر جسيم على الصحة بشكل عام لن نتطرق له هنا، علاوة على ذلك، فإن تناول هذه الأطعمة يترجم تلقائيا إلى خمول وكسل ورغبة في النوم لا يمكن السيطرة عليها. وبالتالي للتخلص من هذا الشعور، تأكد من أن وجبة الغداء الخاصة بك متوازنة وصحية من خلال تناول الخضراوات والسلطة الخضراء، والدهون الصحية مثل: المكسرات وزيت الزيتون، والبروتينات الجيدة مثل: الأسماك واللحوم البيضاء والبقوليات، والأطعمة الغنية بالألياف كالحبوب الكاملة مثل: الشوفان والأرز البني بدلا من الكربوهيدرات سريعة الامتصاص مثل: المخبوزات والمعجنات.

undefined

ليس من المفاجئ أن عدم انتظام دورات النوم قد يؤثر بشكل مباشر على الخمول والرغبة في النوم خلال ساعات النهار خاصة بعد تناول الطعام. من الطبيعي أن يؤدي عدم الحصول على قسط كافٍ من النوم ليلا إلى عدم التركيز والخمول والرغبة في النوم نهارا، والعكس بالعكس، الحصول على ساعات كافية من النوم يُترجم تلقائيا إلى راحة ونشاط وانخفاض الرغبة في النوم نهارا. كذلك يلعب النشاط البدني دورا محوريا في تقليل حدوث غيبوبة الطعام، فإلى جانب تعزيز النوم بشكل أفضل خلال الليل، تؤدي ممارسة التمارين الرياضية مهما كانت خفيفة إلى زيادة الطاقة والنشاط وتقلل الشعور بالتعب خلال ساعات النهار، ما يقلل احتمالية حدوث الخمول والرغبة في النوم بعد تناول الطعام خاصة وجبة الغداء.

أخيرا، الرغبة في النعاس بعد تناول وجبة الغداء أو العشاء هو أمر طبيعي شائع لدى الكثيرين، ولا يستدعي القلق عندما يحدث في مستوياته الطبيعية بين الفينة والأخرى عند تناول وجبة دسمة غنية بالكربوهيدرات أو الأحماض الأمينية التي تلعب دورا غير مباشر في تعزيز الرغبة في النوم. لكن في حالة إن كان هذا الشعور شعورا مزمنا لا يتعلق بكمية ونوعية الطعام، ولا يقل تأثيره عند اتباع نمط حياة صحي، فيجب استشارة الطبيب.

المصدر : الجزيرة