شعار قسم ميدان

استغلال الفرص.. أساس ريادة الأعمال

ميدان عمل
(بيكسا باي)
أستعبيـر "ركوب الموجة" هو تعبير سيء السمعة غالباً.. عندما يتم استخدام تعبير "ركوب الموجة" في النقاشات العامة، فغالباً يكون المقصود به الإشارة إلى معنى غير أخلاقي؛ مزيج من الانتهازية والأنانية، واقتناص الفرص بشكل غير شريف. وربما -والحق يُقال- يكون مُجمل هذه النقاشات حقيقيـاً، وله ما يبرره..

 

لكن، فيما يخص عالم الأعمال بالذات؛ يجب أن تعرف أن ركـوب الموجة تحديداً هو أساس النجاح السريع وطويل المدى، وأن معظم روّاد الأعمال المشاهير في الماضي والحاضر حققوا هذا النجاح من وراء إجادتهم لـ"ركـوب الأمواج"..

 

كل مشروع ناجح حقق تحوّلاً ثورياً في مجال الأعمال، كان من ورائه أشخاص استطـاعوا رصد موجة عملاقة من الفـرص والمزايا قادمة من بعيـد، وتمكنّوا من شق طريقهم إلى هذه الموجة تحديداً، ومن ثمّ اعتــلوها وركبوها وسيطروا عليها؛ ليحققوا أفضل ما يمكن تحقيقه من ورائها..

 

والأهم؛ الفوز بالأسبقية.. القاعدة دائماً تقول إنه من يسبق إلى ركوب الموجة قبل غيره، غالباً ينال المجد كله.. في رأيي، ربما من المفتــرض أن يتم صكّ مصطلح جديد موازي لكلمة "روّاد الأعمال" يُسمّى "ركّـاب أمواج الفرص"..

 

القفـز على موجة الـ 2300 %
 حتى العام 1994، كان "جيف بيزوس" يعمل موظفاً في وول ستريت، مقابل أجر جيد جداً؛ بيت مميز، مكانة اجتماعية عالية؛ مستمدة من عمـله في وول ستريت، وحتماً نظـام عطلات رائع.. في هذه الفتـرة كانت شبكة الإنترنت مازالت وليدة، وتحبو خطاها الأولى، ومع ذلك كانت تسترعي اهتمام الجميع باعتبـارها "الشيء الكبير القادم" الذي سيغيّـر طريقة حياة البشر كما لم يحدث من قبل.

 

إلى أن جاء الوقت الذي قرأ فيه "بيزوس" عن الزيادة في استخدام الإنترنت بنسبة 2300 % سنوياً، وهو ما بدا له مؤشراً واضحاً "موجــة تسونامي" من الفرص التي تنتظـر من "يركبهـا" ويستفيد منها ببراعة. وقد أتاح له عمله في وول ستريت أن يعرف مبكراً أن شبكة الإنترنت ستكون سوقاً موازياً للسوق التقليدي، وسيشهد حركة بيع وشراء ضخمة خلال سنوات قليلة.

 

النتيجة؟ قام بكتابة لائحة من المنتجات التي يمكن بيعها عبر الإنترنت، ثم وقع اختياره على الكتب. استقال من عمله ببساطة، واستأجر شاحنة نقل كبيــرة وضع بها كل ما يحتاجه لمشروعه الوليد الذي قرر أن يبدأه في سياتل الغرب.

 undefined

كانت هذه هي اللحظة الأولى لميـلاد شركة "أمازون دوت كوم" من سياتل واشنطن، الشركة التي أحدثت ثورة عملاقة في تجارة التجزئة، وتعتبـر من أضخم عمالقة الإنترنت اليوم، ويعمل بها أكثر من 80 ألف موظف حول العالم.. ما فعله "بيزوس" هو أنه (رصد الموجة) من بعيد، ودرس الطرق المناسبة له؛ لكي يركب هذه الموجة، وحددها بدقة.. ثم انطلق إليها؛ متنازلاً عن أي شيء آخر..

 

وقد تأتيك الفرصة على شكل ثغرة لدى الآخرين..
أب تقليدي طبيعي، قرر في يوم من الأيام اصطحـاب ابنته الصغيــرة لقضاء وقت ممتع فى إحدى الحدائق العامّة.. جلس على أحد الكراسي، يتأمّــل ابنته الصغيرة التي تلعب في أرجاء الحديقة، التي لاحظ أنها -رغم اتساعها- لم تكن ممتعة. لاحظ حالة من الملل الهائل تعتري وجوه الأهالي الذين اصطحبوا أبناءهم لقضاء وقت ترفيهي في نفس الحديقة.

 

لاحظ -أيضاً- قذارة الحديقة، وحالة الألعاب السيئة التي تشير إلى أنها لم تكن تحظَى بصيانة جيدة.. لاحظ خوف الأهالي على أطفالهم من ممارسة بعض الألعاب؛ لأن وسائل الأمان بها لم تكن واضحة.. نظر إلى الأرض وجدها مليئة بالمهمــلات والمخلفات.. رفع عينيه ليتأمّــل الموظّفين والقائمين على الألعاب، فشعــر أنهم يتعاملون بقدر من الملل والفظـاظة والغلظة..

 

هنا قفزت الفكرة
أليس من الممتع أن يوجد مكـان يمكن أن يلعب فيه الأطفال والكبار معاً؟
أليس من الممتع أن يوجد مكـان يمكن أن يلعب فيه الأطفال والكبار معاً؟
 

أليس من الممتع أن يوجد مكـان يمكن أن يلعب فيه الأطفال والكبار معاً؟.. أن يوجد مكـان يصلح للمرح الجماعي للكل؛ كباراً وصغاراً، ويكون أفضـل مكان للتسلية العائلية الجماعية.. وتكون الألعاب فيه أكثر أناقة، والموظفــون أكثــر مرحاً وانطلاقاً ؟
 

كان (هذا المشهد في الحديقة) من الأسباب التي انبثقت من ورائها فكــرة إنشاء الحدائق العامة الترفيهية: Theme parks بشكـل عام.. وكــانت -أيضاً- أول خطــوة في طريق بدء إمبــراطورية الألعاب العظمــى على مستوى البشــرية..
 

ديزني لاند..
لأن هذا الأب الذي كان يجلس يتأمّل الحديقة العامة في انتظـار ابنته؛ كــان هو "والت ديزني" نفسه! ما فعله "ديزني" أنه (رصد ثغــرة) واضحة في نظام الحدائق العامة التي كانت منتشرة وقتها، وأدرك أنه بإمكـانه أن يستغل هذه الثغــرة لمصلحته، ويحوّلها إلى فرصة هائلة تخلد اسمه للأبد..

 

ماذا لو أصبح الأمر سهلاً بالنسبة للجميع؟
كان هذا هو السؤال الذي قفز في ذهن "أكيو موريتا" مؤسس شركة سوني اليابانية، قبل شهـور من إطـلاق أحد أهم وأعظم الأجهزة في القرن العشـرين.. السوني ووكمـان.. لاحظ حماس الناس لسماع الموسيقى في أماكن الترفيه، مثل الشواطئ؛ حتى لفت نظـره -وهو يجلس في أحد الشواطئ- بعض الأطفال الصغار يعبرون إلى مقدمة الشاطئ وهم يسحبون وراءهم آلات تسجيـل كبيــرة، بهدف أن يستمتعوا بالموسيقى في وقت استجمامهم قرب الميــاه..

 

كانت الموجة القادمة من الفرص ستكون في صناعة الأجهزة الموسيقية الصغيرة؛ سهلة الحركة التي يمكن حملها إلى أي مكان (مواقع التواصل الإجتماعي)
كانت الموجة القادمة من الفرص ستكون في صناعة الأجهزة الموسيقية الصغيرة؛ سهلة الحركة التي يمكن حملها إلى أي مكان (مواقع التواصل الإجتماعي)

هذه الحالة جعلته يدرك أن الموجة القادمة من الفرص ستكون في صناعة الأجهزة الموسيقية الصغيرة؛ سهلة الحركة التي يمكن حملها إلى أي مكان، بدلاً من عناء سحب الأجهزة الكبيـرة إلى الشواطئ والمتنزهات للاستماع إلى الموسيقى أثناء الترفيه. كانت هذه الملاحظة هي الخطوة الأولى لولادة جهاز "السوني ووكمــان".. المنتج الثوري الهائل الذي غيّــر الحيــاة تماماً في النصف الثاني من القـرن العشـرين، والذي جعل الموسيقى قابلة للحمـل والنقل بسهولة..

 

"أكيو موريتا" رأى فرصتـه تتركّــز في "التبسيط" وجعل الأمور أسهل، وهرع لتنفيـذها؛ لينال الأسبقية، ربما لأنه أدرك أن تصنيع أجهـزة صغيرة لحمل الموسيقى كان أمراً حتمياً في هذه المرحلة، وإن لم يقم به هو.. سيقوم به غيــره..
 

التغريدات المليئة بالفرص
بقدوم العام 2009، كانت شبكة "تويتر" قد بدأت بالانتشار بشكل ملفت حول العالم، وأصبح يقوم بالتسجيل فيها يومياً أعداد كبيرة من المستخدمين.. من بينهم المستخدم "كريس سانشيز" الذي بدأ حسابه بشكل شخصي طبيعي، وإن ركّز على طرح المعلومات والحقائق التي يهتم الناس بمعرفتها؛ لأنه واسع الاطلاع والثقافة..

 

ومن النمو الكبير في الموقع، أدرك "سانشيز" أن "تويتر" قد يكون وسيلة ممتازة ليعود عليه بدخل جيد جداً؛ فقــرر أن يكثف تغريداته بشكل كبير، وأن ينشر تغريدة تحمل معلومة مفيدة كل 15 دقيقة؛ تحت حساب باسم (Uberfacts).. فقط بعد مرور عام واحد حقق أكثر من 200 ألف متابع؛ مما جعله يكثف النشر وينوّعه، ويعرض المعلومات بشكل أكثر تشويقاً..

 undefined

حتى بدأت تنهال عليه العروض من بعض المواقع الكبرى، التي تكفّلت بدفع ما بين 600 إلى 800 دولار أسبوعياً، من أجل تضمين روابط الموقع في المعلومات التي يذكرها على حسابه.. وبمرور الوقت؛ ارتفع حســابه إلى أكثر من 9,4 مليــون متابع على تويتــر، وأكثر من 1,5 مليون متابع على صفحة الفيسبوك، ونصف مليون متابع على إنستغرام.. مع صافي ربح يزيد عن النصف مليون دولار سنويــاً!

 

لم يكتف بذلك؛ بل قرر -أيضـاً- إطلاق تطبيــق خاص يتيح للمستخدمين الإعجاب والتعليق على المعلومات التي يذكرها فى حســابه، ونشرها على وسائل التواصل الاجتمــاعي، وساعده على زيادة دخلــه بمقدار 60 ألف دولار إضافية.. على الرغم أنه انضم إلى تويتر لمتابعة "بريتني سبيرز" في البداية، إلا أنه سرعان ما لاحظ موجة من الفرص على هذه الشبكة.. والمؤكد أنه استطاع ركوبها ببراعة، حتى لو أحاطته الكثير من الانتقادات التي توجّهها له بعض المواقع.. نموذج عالمي لـ Master Social media Expert الذي استطاع أن يركب الموجة بأفضل شكل ممكن.

 

سيحتاجون للسبائك حتماً.. فلنقم بتوفيرها

undefined

وإذا كنا نتحدث عن "ركوب موجة الفرص" فلابد أن نشير إلى "فيصـل كوتيكولون".. شاب هندي، درس الهندسة في الولايات المتحدة، ثم حصل على عقد عمل جيد في دولة الإمارات فى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بمجرّد وصوله إلى الإمارات أدرك أنها على وشك ثورة هائلة في كافة القطاعات التي يمكن تخيّلها..

 

فكان من الطبيعي أن يكرّس وقته لدراسة إمكانيات هذا البلد ومميزاته والأنشطة المقامة في الدولة، وأي صناعات تنقص الإمارات والمنتجات التي يتم استيرادها من الخارج.. حتى وصل -بعد دراساته الموسّعة للسوق- إلى أن أغلب السبائك التي تستخدمها شركات النفط العاملة في الإمارات يتم استيرادها من الخارج.. ومع معدل النمو الذي كانت تحققه الإمارات في التسعينيات، والموارد الهائلة التي تملكها الدولة، أدرك فيصـل أن هناك موجة هائلة في صنـاعة السبائك تحمل له فرصا كبيرة، يجب أن يستغلها أفضل استغلال.

 

قام بتأسيس شركة صغيرة متخصصة فى صناعة السبائك الفولاذية الصغيرة، وقام بتسويقها باعتبارها منتجات عالية الكفاءة، ورخيصة السعر، ويتم تصنيعها محلياً؛ فكانت النتيجة الطبيعية أن تقبل عليه شركات النفط والتعدين بلهفة؛ للحصول على السبائك بأسرع وقت ممكن.. خلال سنوات، حقق فيصــل وشركته الصغيرة الناشئة أرباحا هائلة متدفقة، جعلت شركته الصغيــرة (التى بدأها برأس مال لا يتجــاوز الـ 5 آلاف دولار) تتحول إلى شركة عملاقة؛ تعد واحدة من أهم المساهمين في القطاع النفطي والتعديني في الخليج. وجعلت ثروته تقفز إلى حوالي نصف مليار دولار على الأقل.. رصد موجة ضخمة من الفرص قادمة من بعيد، واستطاع ركوبها بالتضحية بخمسة آلاف دولار فقط..


في عالم المشروعات الخاصة والشركات الناشئة، تظـل فكـرة "ركوب الفـرصة" هي أسرع وأكثر الطرق اختصاراً للوصول إلى نجاح مبهر في زمن قياسي.. أن يتحول رائد الأعمال إلى "رادار" يرصد كل أنواع الأسواق، وينظـر إلى الموجات البعيدة القادمة في هذا المجال.. ولا يكتفي -فقط- بانتظـارها؛ بل يسعى هو بنفسه إليها، ليصـل اليها.. ويتمكن من ركوبها والاستفادة منها بأكبر شكل ممكن.. 
كل شيء -حرفياً- تستخدمه الآن، هو نتـاج جهد شخص ما تمكّــن من ركـوب الموجة في بداياتها، وتوجيهها لمصلحته. بمعنى أكثر وضوحاً؛ العالم كله يعيش على آثــار إنجازات راكبي الموجات الأولى من الفرص..

المصدر : الجزيرة