شعار قسم ميدان

إمبراطوريّات عالمية وُلدت من رحم البساطة!

midan - ikea

يدرك المُتابع -ولو عن بُعد- لأي نماذج حققت النجاح في عالم الأعمال، اتّساقها -تماماً- مع ظاهرة الفقير الذي يتحوّل إلى ملياردير بعد أن قام بتنفيذ مشروع ما. الواقع أن أكثر قصص ريادة الأعمال تدور حول هذا المحور، الصعود من قاع الفقر إلى قمة النجاح والتميز والثروة.

 

ولكن فكـرة التركيز على "البساطة" تبدو مفقودة إلى حد ما. ما زالت فكرة الأعمال والمشروعات الناجحة مُرتبطة في عقول الكثيرين بالتعقيد. الكثير من الخبرة التقنية، والمصطلحات التجارية المُختلفة التي تكون غير مفهومة للبعض، وتعطيك انطباعاً فورياً أن الأمـر أقرب إلى العلوم المعقدة منه إلى النشاط الإنساني التلقائي.

 

صحيح أننا في عصـر ترتبط فيه معظم المشاريع الريادية بالتقنية، الأمر الذي يجعلها تتطلّب الميل إلى بعض التفاصيل التي يُمكن أن تبدو معقّدة؛ ولكن هذا لا يعني -نهائياً- أن التعقيـد هو الطريق الوحيد لميلاد مشاريع ناشئة متميزة. ثمة إمبراطوريات -بكل ما تحمله كلمة إمبراطورية من معاني الضخامة والانتشار والتوسّع حول العالم- بدأت بإمكانيات وظروف وأدوات وأشخاص.. يمكن وصفها جميعاً بأنها بالغة البساطة.

 

إمبراطورية بدأت من أعواد الثقاب


عندما ولد (إنغفار كامبراد) في مزرعة متواضعة في قرية صغيرة جنوب دولة السويد، لم يكن يحمل أي مميزات تميّزه عن غيره من ملايين الأطفال؛ أسرة عادية للغاية لا تملك مكانة اجتماعية كبيـرة، ولا تنتمي لطبقة ثرية.

 

بدأ إنغفار حياته ببيع أعواد الثقاب، بهدف تحصيل بعض المال الذي يعينه على الحياة بشكل يزيح بعض العبء عن أسرته. يبيع أعواد الثقاب، ثم يذهب إلى ستوكهولم العاصمة ليشتري دفعة جديدة من الأعواد، ويعود ليبيعها بأسعار مناسبة.

 

سنوات طويلة مرّت وهو على هذا الحال؛ لينتقل بعد ذلك من بيع أعواد الثقاب، ويبدأ في بيع أشياء أخرى، مثل أشجار الزينة والأقلام، والدخول في أنواع مختلفة من التجارة التي تدرّ عليه ربحاً بسيطاً كافياً، تراكمت -بمرور الوقت- لديه خبرة في مجال البيع؛ حتى تمكّن أخيراً من افتتاح شركة صغيرة بالمال الذي جمعه، وبمساعدة الأهل أيضاً، وأطلق عليها اسم (إيكيــا IKEA). وهذا الاسم عبارة عن الحروف الأولى من اسمه، واسم قريته والمزرعة التي وُلد فيها.

 

ربما -هو نفسه- لم يكن يتصوّر -وهو يبيع في مؤسسته الأقلام والقدّاحات وإطارات الصور، ويستخدم في توزيع هذه المنتجات عربة صغيرة؛ أساساً مُجهزة لتوزيع الألبان- أن علامة (إيكيا IKEA) التجارية ستكون من أهم وأكثر العلامات التجارية انتشارا عالميا.!

بقدوم الخمسينيات، قرر أن يقتحم مجال عالم الأثاث، فبدأ في شحن أخشاب من الغابات القريبة من قريته، وبدأ في الاستعانة بأيدٍ محلية تقوم بصناعة الأثاث والمفروشات؛ ليحقق نجاحاً كبيراً في هذا الاتجاه، ما ساعده على التفرغ الكامل في تحويل مؤسسته إلى مؤسسة تعمل في مجال الأثاث والمفروشات.

 

بدأت العجلة تدور؛ فتم افتتاح أول معرض لإيكيا فى السويد، ثم بدأت الشركة تركّز على صناعة المفروشات بشكل كامل، وبدأت في التحرك في افتتاح فروع لها داخل وخارج السويد، ما جعل عقد الخمسينيات يشهد تحولاً كبيراً في الشركة التي بدأت بتوزيع قداحات وأعواد ثقاب.

 

في السنوات التالية، بدا واضحاً أن إيكيا شركة سويدية صاعدة، تعمل على تطوير منتجات مفروشات ممتازة لكافة الطبقات الاجتماعية، وتنتهج منهجاً توسعياً سريعا، شمل دول أوروبا كلها ثم أمريكا وكندا وأستراليا، ثم كافة أنحاء العالم بمئات المتاجر التي تحمل علامتها التجارية.

 

اليوم، يبلغ عمـر إنغفار كامبراد -حتى لحظة كتابة هذه السطور- 91 عاماً، ويعتبر أغنى رجل في أوروبا على الإطلاق، وفي قائمة العشرة الأوائل الأغنى حول العالم، بثـروة تزيد على الثلاثين مليار دولار. بداية بسيطة من بيع أعواد الثقاب، أوصلته إلى هذه المكانة.1،2

 

إمبراطوريّة بدأت من غرفة سكن جامعي


شركة (دِل Dell)، تعتبر حالياً واحدة من أكبر شركات الأجهزة الحاسوبية في العالم، عدد موظفيها يزيد عن 100 ألف موظف، وأرباحها السنوية تزيد عن الخمسين مليار دولار بالمتوسط، وتبيع جهاز كمبيوتر واحد من بين كل خمسة أجهزة يتم بيعها في العالم.

 

مؤسسها "مايكل" أبدى في فترة مراهقته اهتماماً كبيراً بأجهزة الكمبيوتر التي كانت قد بدأت في الظهور على استحياء في نهاية السبعينيات. في الوقت الذي أظهر فيه براعة مُلفتة في التجارة؛ حيث كان يحقق أرباحا جيدة من بيع الطوابع.

 

تعلم مايكل الكثير من التفاصيل عن أجهزة الكمبيوتر، وبدأ في تفكيكها وإعادة تجميعها مرة أخرى، وحضور المؤتمرات التي بدأت تظهر بخصوص هذا الجهاز في الولايات المختلفة، حتى التحق بالجامعة وقد وصل شغفه بالحاسوب الآلي مرحلة أدرك -من خلالها- أنه سيكون محور اهتمامه بقية حياته.

 

في بداية الثمانينيات، قام مايكل بتأسيس شركة صغيرة باسم B Sales؛ لبيع قطـع الكمبيوتر للطلاب في الجامعة، وكان مقر الشركة هو غرفته الصغيرة في السكن الجامعي؛ حيث عمل فقط على تسويق هذه الأجهزة بين الطلاب، ويقدمها لهم بسعر مناسب. وعندما لاحظ أن الإقبال كبير من الطلبة، قام باستئجار شقة صغيرة، وكوّن أول شركة له برأس مال 1000 دولار أمريكي، وأطلق عليها اسم العائلة (دل Dell).

استمر مايكل في التوسع في بيع قطع غيار أجهزة الكمبيوتر بسعر مناسب، وبدأ في تكوين أرباح كبيرة دفعته للتخلي -تماماً- عن الدراسة والتفرغ لمشروعه، ونجحت الشركة في صناعة أول كمبيوتر شخصي باسم (Turbo PC) بقدرات جيدة. واستطاع تحقيق أرباح بقيمة مليون دولار في زمن قياسي. الأمر الذي ساهم في تدفق سريع للأرباح جعل شركته تتعاون مع مجموعة من العملاء الكبار في الولايات المتحدة.

 

في نهاية الثمانينيات طرح مايكل شركته لاكتتاب عام في البورصة، حصل إثره على مبلغ 30 مليون دولار، استطاع من خلالها أن يتوسّع بشكل كبير في الولايات المتحدة وحول العالم في زمن قياسي، والبدء في تصنيع أجهزة كمبيوتر أكثر تطوراً؛ لدرجة أنها دخلت في تصنيف مجلة (فورتشن) العالمية كواحدة من أفضل 500 شركة في العالم، فقط بعد عدة سنوات من تأسيسها.

 

في نهاية التسعينيات، كانت شركة دل قد حققت مبيعات تجاوزت الـ10 ملايين جهاز كمبيوتر حول العالم، وتظهـر كواحدة من أقوى شركات الكمبيوتر على مستوى الولايات المتحدة، واختيرت كواحدة من أكثر 10 شركات تنال ثقة المستخدمين.

 

ثم تحولت الشركة إلى مؤسسة كبرى في مجال التقنية بشكل عام، فدخلت في مجال تصنيع الكاميرات والتلفزيونات والأجهزة الرقمية، وهي مستمرة -حتى الآن- في هذا المسار، حتى بعد أن تنحى دل عن منصبه كرئيس تنفيذي للشركة؛ وإن استمر كعضو بمجلس إدارتها.

 

اليوم تبلغ ثروة مايكل دل حوالي 20 مليار دولار، جاءت كلها بسبب شركة بدأ فكـرتها من غرفته الجامعيـة، وبرأس مال لا يتجاوز الألف دولار.3

 

إمبراطوريّة بدأت بالرسم


والت ديزني وُلد في مطلع القرن العشرين، عمل وهو صبي صغيـر في العديد من المهن البسيطة المتواضعة، أهمها توزيع الصحف. بمرور الوقت، ومع تطور عشقه للرسم، لاحظ أنه لا يمكن أن يستمر في الحياة دون أن يخوض تجربة في هذا المضمار؛ فالتحق -أثناء دراسته النظامية- بمدرسة ليلية لتعليم الرسم.

 

عندما وصل إلى الخامسة عشر، اندلعت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، فوجدها فرصة للتخلي عن الدراسة النظامية، والتحق بالصليب الأحمـر كسائق لسيارات الإسعاف؛ حتى انتهت الحرب؛ وقد جنى من عمله ذلك بعض المال. بعد ذلك بدأ والت ديزني يبحث عن وظيفة منافسة بمهارته في الرسم. قدّم للعمل في إحدى الصحف كرسّام؛ إلا أنه تم رفضه -تماماً- بحجة أنه (معدوم الموهبة)!

 

لاحقاً، استطاع والت أن ينضم إلى مؤسسة فنية صغيرة تدفع له مبلغاً متواضعاً؛ مقابل أن يقوم بتصميم غلاف أسبوعي لعروضها المسرحيّة على مسرح شهير؛ فاستغل الفرصة لاحقاً في تقديم رسوماته التي تم تحويلها إلى فيلم متحرّك قصير؛ ليتم عرضها على مسرح نيومان، فأثارت إعجاب الجمهور بشدة في ذلك الوقت. لاحظ ديزني إعجاب الجمهور بهذا النوع من الفن (الرسوم المتحرّكة)؛ فبدأ في إطلاق شركة صغيرة تقوم بإنتاج أفلام قصيرة من الرسوم المتحركة للأطفال، فشلت وأفلست بعد عام واحد من افتتاحها!


تكاثرت الديون على الرجل؛ إلا أنه ارتحل إلى هوليود في الغرب، واستطاع جذب انتباه منتجي السينما الأمريكية، فبدأ في الحصول على دعم جيد ساعد في ظهـور شركته الجديدة (Disney Productions)، التي استمرت تحقق نجاحات جيدة في فترة الثلاثينيات انتهت بطرح أسهمها للجمهـور.

 

تحولت الشركة إلى شركة عامة، فبدأ ديزني في التوسع بشكل كبير في مستوى الترفيه الذي يقدمه؛ حيث بدأ في تأسيس مدينة ألعاب ترفيهية، وبدأ في إنتاج أفلام كارتون موجّهة إلى التلفزيون الذي أصبح ينتشر بشكل أوسع، حتى جاء العام 1950 بأهم مُنتج خرج من تحت يدي ديزني على الإطلاق: الفأر الميكـي ماوس.

 

حققت هذه الشخصية نجاحاً مُبهرا، ساعد الشركة في التوسع بشكل أكبر في إنتاج الرسوم والأفلام، إلى جانب العمل على حديقة والت ديزني الترفيهية، الأمر الذي حوّل ديزني إلى شركة عمـلاقة لم تمت بوفاة والت نفسه في الستينيات؛ وإنما استمرت في النجاح لتصبح من أكبر شركات الإنتاج السينمائي على الإطلاق، بأكثر من 150 ألف موظف، وعائدات سنوية تقدر بـ40 مليار دولار.4

 

إمبراطورية قامت على الشيكولاتة
بعض الناس يولد ولديه ميل فطري للكتابة، والبعض لديه ميل فطري للرسم، والثالث للموسيقى، والرابع للرياضة.. إلخ، وبعضهم -مثل ميلتون هيرشي- يولد حاملا ميلا فطريا للشيكـولاتة!

منذ أن جاء إلى الدنيا في منتصف القرن التاسع عشر، لم يبدُ عليه أي حماس تجاه أي شيء. فشل في الدراسة؛ فترك التعليم، واتجه للعمل في صحيفة ألمانية -لأنه كان يجيد الألمانية من بعض أجداده-؛ إلا أنه تم طرده بعد فترة بسيطة.

 

فكان من الطبيعي أن يبحث عن عمل جديد، فساقته أقداره هذه المـرة إلى العمل بوظيفة في متجر لصناعة الحلويات والآيس كريم. وهي الوظيفة الوحيدة التي استمر فيها بنجاح لسنوات عدة، تشرّب من خلالها الكثير من المعلومات بخصوص صناعة الحلويات.

 

عندما وصل إلى مشارف العشرينات، ارتحل إلى ولاية فيلادلفيا، وقرر أن يفتتح شركة خاصة صغيرة لصناعة الحلويات -بعد أن تعلم أساسياتها بشكل جيد-، واقترض بعض المال، وقام بافتتاح الشركة. النتيجة أنها مُنيت بفشل ذريع، برغم أنه ألقى فيها كل مجهوده. لم يحقق أي نجاح؛ فاضطـر إلى إغلاقها بعد عدة سنوات.

 

سافر ميلتون إلى العديد من الولايات الأميركية، وحاول أن يعمل في كل وظيفة ممكنة يجدها متاحة أمامه؛ إلا أنه كان يظهر تميزاً كبيراً في وظائف صناعات الحلويات، حتى استطاع أخيراً -بعد خبرة طويلة- التوصّل إلى وصفة معيّنة لصناعة الحلويات بمذاق رائع.

 

عاد حلم تأسيس الشركة مرة أخرى يراوده، فلجأ هذه المرة إلى أحد المستثمرين الذي طلب منه الدعم، ليس فقط لبيع الحلوى؛ وإنما أيضاً في صناعة الحلويات بأنماط جديدة مختلفة عما هو سائد. الأمر الذي نجح لاحقاً، وانطلقت شركة (لانكستر كراميل) التي استطاع هيرشي من خلالها أن يصل إلى عدة وصفـات من الحلويات أطلق عليها أسماء مختلفة، نالت نجاحاً مُذهلاً وسريعاً في الولايات المتحدة خلال خمس سنوات فقط.

بمرور الوقت، وتمدد الشركة في صناعة الحلويات، قام ميلوت هيرشي بييع حصته في الشركة مقابل مليون دولار، وكان هذا الرقم يعتبر خيالياً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ليستغله في إطلاق شركة خاصة ضخمة مملوكة له بالكامل، هي شركة (هيرشي للشيكولاتة)، التي كانت مساحة مصانعها هائلة لدرجة أنها تحولت إلى مدينة كاملة في ولاية بنسلفانيا الأميـركية.

 

وخلال سنوات، تحوّلت مدينة (هيرشي) للشيكولاتة إلى وجهة سياحيـة، إلى جانب أنها أصبحت أكبر شركة إنتاج شيكولاتة في الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل ثروة الرجل تتضخم بشكل كبير، واعتبر واحداً من أثرى أثرياء العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين (توفي في العام 1945). اليوم، الشركة تعتبر أكبر شركة شيكولاتة في أمريكا الشمالية، وتحقق إيرادات سنوية تزيد على السبعة مليارات دولار.5

 

لم تتأسس هذه الإمبراطوريّات بناء على التعقيد. هي تعقّدت فيما بعد طبعاً؛ مع تنامي أعمالها وانتشارها الواسع؛ ولكنها لم تكن -كذلك- في بدايات انطلاقها، الذي كان أبسط من أي تفاصيل معقدة..! وقد يكون من المثير للضيق للبعض أن يعترف بأن إمبراطوريات تجارية هائلة كان أصحابها بهذه البساطة؛ ولكنها الحقيقة!

المصدر : الجزيرة