شعار قسم ميدان

"نموذج كنتاكي".. كيف تبدأ شركة ناجحة بعد التقاعد؟

ميدان - نموذج كنتاكي

اضغط للاستماع

 

"أنا ضد التقاعد.. الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسـان حيا هو أن يكون لديه شيء ما يفعله"

(كولونيل ساندرز، مؤسس KFC)

إذا كانت أزمة منتصف العمـر التي تظهر عادة بعد سن الأربعين تُعدّ أزمة صعبة لمن يمرّ بها، فثمة أزمة أكثر صعوبة تظهر في سن الخمسينيات والستينيات تتعلق بالجانب المهني تحديدا: أنت تعيش أزهى أوقاتك المهنية، شبح التقاعد يطل برأسه كل يوم واعدا إياك بحياة رتيبة مملة بكل تفاصيلها، وفي الوقت نفسه أنت أكبر من أن تبدأ عملا جديدا من الصفر. أزمة أقرب إلى المتاهة متشعبة الاختيارات.

 

هذه الأزمة تزداد تزامنا مع مشكلة كبرى نعيشها في هذا العصر، وهي مشكلة ربط النجاح بالسن الصغير، حيث أبرز نماذج النجاح عالميا لشباب مراهقين أو في العشرينيات من العمر. نموذج "العبقري الصغير" الذي أسس شركة ناشئة ناجحة أدرّت عليه ملايين الدولارات ثم أصبح مليارديرا من الضروري أن تكون واعيا بأن هذه الصورة مضللة تماما، وأن الواقع يعج بنماذج وأمثلة لرجال أعمال وروّاد من كل أنحاء العالم بدأوا مسيرتهم الريادية بعد أن تجاوزوا الخمسين من العمر، وحققوا إنجازات كبــرى لم يحققوها طوال نصف القرن الذي عاشوه من قبل لدرجة أنهم أصبحوا ملء السمع والأبصـار ليس فقط في بلادهم، وإنما في العالم كله.

ريادة الأعمال في السادسة والستين

 

"أنا أعيش وأعمل في سان فرانسيسكو.. المعتاد أنه إذا كنتم تبحثون عن التمويل لشركتكم الناشئة، فأول ما ستفعلونه هو أنكم ستجدون أنفسكم في منافسة مع عدد من الشباب صغار السن الذين يعملون في قطاع التقنية المتطورة. حسنا، هذا أمر كان من الممكن أن يكون مخيفا ومثبطا لي إلى حد كبير، فأنا رجل كبير في السن أملك أحذية عمـرها أكبر من معظم هؤلاء الشباب!"

عندما وصل بول تازنر إلى الستينيات من عمره، كان أيضا قد حقق أرفع مناصبه الوظيفية في شركته بعد عمل دام فيها لمدة أربعين عاما. في ذلك اليوم، ذهب بول ليحضـر أحد الاجتماعات السنوية المعتادة، ليفاجأ باسمه مُدرجا في قائمة المستبعدين من العمل في الشركة والمُحالين إلى التقاعد. كان هذا الموقف من أكثر المواقف الصادمة له في حياته، حيث لم يستوعب الرجل فكرة أنه قضى عمره كله تقريبا في الشركة، ثم يتم الاستغناء عنه بكل خبراته ونضجه المهني، بحجة أنه صار كبيرا في السن أكثر من اللازم.

 

للوهلة الأولى، بدا أن الطريق الوحيد لبول أن يقضي ساعات طويلة أمام التلفاز برفقة زوجته، أو قضاء بعض الوقت مع أحفاده والانشغال في زرع الحديقة الخلفية للمنزل وتربية الحيوانات. تلك الحياة الهادئة المملة التي يقضيها كبار السن، والتي تعتبر تمهيدا لهم -بحسب بول- لانتظار لحظة الموت.

 

ولكنه كان يحمل في جعبته طريقا آخر. بعد أن سوّى معاشه التقاعدي في شركته، قرر بول تازنر أن يطلق شركته الناشئة في مجال تدوير المخلفات وحماية البيئة وهو في عمـر السادسة والستين، مستغلا خبرته الطويلة في العمل الوظيفي. المدهش أن شركته تلك أصبحت واحدة من أهم الشركات الأميـركية الناشئة الواعدة في هذا المجال، وحازت على اهتمام وإعجاب، سواء من الحكـومة الأميـركية أو المؤسسات الريادية الداعمة، مما جعل شركته ينهال عليها عروض الاستثمـار والتوسّع والدعم.

 

رفض بول حياة التقاعد المملة، وقرر أن يقضي بقيـة عمره في ذروة الاجتماعات والإدارات والتطوير وتسجيل براءات الاختراع وضم الموظفين وإدارتهم، بدلا من قضائها على فراش الموت. وهو ما قاده في النهاية إلى إلقاء محاضرته المثيرة على مسرح "تيد" في يونيو/حزيران 2017 كواحدة من أهم المحاضرات الرياديـة التي تؤكد أن سن التقاعد هو السن الأنسب للانطـلاق فيي العمـل الريادي بأقل أخطاء ممكنة.

كولونيل ساندرز.. عجوز يأبى التقاعد

كولونيل ساندرز.. عجوز يأبى التقاعد
(مواقع التواصل الاجتماعي)

لا يوجد في العالم كله من لا يعرف وجــه الكولونيل ساندرز حتى وإن كانوا يجهلون اسمه تماما. الكل يعرف شكل هذا الرجل، والكل رآه ربمـا أكثر من نجوم السينمـا أو حتى صور الزعماء السياسيين حول العالم؛ ذلك لأنه لا تكاد تخلو مدينة في العالم من صورته ذات الابتسامة الهادئة والشعر الأشيب وبجـانبه كلمـة "KFC". كولونيل ساندرز هو مؤسس مطـاعم كنتـاكي التي تعتبر الآن واحدة من أكبر وأضخم سلاسل الوجبات السريعة حول العالم، وتعتبر علامتها التجارية مرادفا للتوسّع الثقـافي الأميـركي خلال العقود الأخيرة.

 

اسمه بالكامل هو هارلند ديفيد ساندرز، واحد من أهم وأشهر رجال الأعمال الرياديين في أميـركا والعالم، ليس فقط لأنه السبب وراء ظهـور ونجاح سلسلة محلات كنتـاكي، وإنما بسبب قصة الكفـاح التي تختبئ وراء هذا النجاح الهائل الممتد في معظم دول العالم. ولد في أسرة متواضعة اضطـر فيها أن يعمل مبكـرا خصـوصا بعد أن أبدى مستوى متواضعا للغاية في المدرسة انتهى بطرده منها. عمل في كل المهن تقريبا بدءا من الزراعة مرورا بالخدمة في الجيش، وليس انتهاء بالعمل على القطارات والعبارات النهرية وبيع إطارات السيارات والعمل في محطات الوقود.

 

لاحقا بدأت مسيرة ساندرز المرهقة في الحياة، حيث عمـل مشرفا على ورش صناعية، ثم تزوّج وأنجب ثلاثة أطفال توفّي أحدهم، ثم عثـر على وظيفة رجل إطفاء. عمل في هذه الوظيفة بعض الوقت، وكان يقوم مساء بدراسة القـانون عبر المراسلة، لكنه لم يُوفّق في النهاية في الاستمرار بالعمل قـانونيا، فانتقل إلى مدينة أخرى ليعمل موزّعا لبوليصات التأمين، ثم أسس شركة انتهت بالفشل. فانتقل مرة أخرى إلى مدينة كنتـاكي ليلتحق بإحدى الشركات كمندوب مبيعـات.

كولونيل ساندرز أمام أحد مطـاعم كنتـاكي
كولونيل ساندرز أمام أحد مطـاعم كنتـاكي (مواقع التواصل الاجتماعي)

بعد رحلة طويلة مرهقة خاضها ساندرز في طفولته ومراهقته وشبابه وحتى فتـرة كهـولته، انتهى به الحال وهو في الأربعين من العمر مديرا لإحدى محطات الوقود في كنتـاكي، حيث كان يطهو قطع الدجاج بشكل مختلف كليا عن المعتاد، ويقدمها لزبائن المحطة عبر مطعم صغيـر أسسه عام 1930 باسم "ساندرز كورت أند كافيــه" (Sanders Court and cafe). بمرور الوقت، أصبح الزبائن يتوافدون على هذه المحطة تحديدا لتناول الدجاج الذي يطهوه ساندرز، مما جعـله من مشاهير هذه المنطقة، لدرجة أن عمدة كنتـاكي منحه لقب "كولونيل" تقديرا لمهارته في الطهي.

 

لاحقا، تعرّض المطعم لضـربة مؤلمة عندما تغيّر الطريق العام ولم يعد الزبائن يمرّون على محطة الوقود، مما جعل ساندرز يغلق المطعم ويتقاعد. بمرور الوقت لم يستطع العجوز الموهوب أن يبقى في منزله دون عمل، فعـرض على بعض المستثمرين في كنتـاكي -التي كان مشهورا بها- أن يستثمروا أموالهم معه لتأسيس مطعم وجبات سريعة قائم على الدجاج المقلي تحديدا، وهو ما حدث بالفعل وافتُتح المطعم في عام 1952، وكان ساندرز يبلغ من العمـر وقتها 62 سنة.

 

حملة "أطلق الكولونيل اللي جواك" بواسطة كنتـاكي العربية 2015

منذ هذا الوقت، لعب ساندرز دورا بطوليا بالتسويق بنفسه لخلطته السرية في طهي الدجاج المقلي، لدرجة أنه كان يذهب بنفسه إلى المطاعم في أميـركا لبيعهم الدجاج الذي يصنعه مقابل حصة من الأرباح. لاحقا، وفي عام 1964 وهو ابن 72 عاما قام ببيع حقوق شركته بقيمة مليوني دولار (ماا يوازي 14 مليونا حاليا) لمجموعة من المستثمرين، على أن يظل المتحدث الرسمي باسم الشركة وتظهر صورته على شعارها.

 

اليوم، يبلغ عدد فروع كنتـاكي حول العالم قرابة العشـرين ألف فرع، ويعمل لديها مئات الآلاف من الموظفين. كما تم التوسع في أعمالها لتشمل أنواعا مختلفة من الوجبات المتعلقة معظمها بالدجاج ذي الخلطة السرية التي طوّرها كولونيل ساندرز الذي رحل عن عالمنا وهو في عمر التسعين عاما. (2، 3، 4)

 

الآيس كريم أفضل من التقاعد

في عام 1995، بدا واضحا أن والي بلوم أصيب بما يشبه الجنـون. كان في هذا التاريخ قد أتمّ عامه السابع والخمسين في وظيفـة ناجحـة استمرت أكثر من 20 عاما في سلسلة المتاجر العمـلاقةة "كروجر كوربوريشن". راتب ممتاز، حقيبة وظيفية رائعة، عطـلات سنوية، تأمين صحي، ثم -وهذاا أهم ما في الأمر- إن الشركة كانت توفّر حقيبة تقاعدية ممتازة لموظّف خبير في مثل عمره أوشك على الوصول إلى سن التقاعد.

 

قرر والي بلوم التخلّي عن كل هذه الامتيازات والانطلاق لتنفيذ فكـرة عجيبة، وهي افتتاح شركة "آيس كريم" خاصة أطلق عليها اسم "دينالي فلافورز" (Denali Flavors) تقوم بصنـاعة مثلجات بنكهـات عجيبة مختلفة تماما عن النكهات الموجودة في السوق، أهمها نكهــة الـ "Moose Tracks" التي اعتبـرت أولى وأكبر الضربات المميزة لشركته الناشئة التي ساعدته على تحقيق نجـاح سريع في زمن قياسي.

 

وعلى الرغم من الصعوبات التي مرّ بها -كأي شركة أخرى- فإن خبرته الواسعة في عالم التسويق والبيع التي اكتسبها من مسيرته الوظيفية الطويلة ساعدته على تخطّي كافة المصـاعب، وتوسّع أعمال الشركة لتصبح واحدة من أشهر شركات المثلجات في أميـركا. اليوم، الشركة تقدم مثلجات بأكثر من 40 نكهة مختلفة تدرّ عليها أرباحا تقدر بثمانين مليون دولار سنويا. (5، 6)

 

راي كــروك.. الحياة تبدأ في الثانية والخمسين

"كان عمـري وقتها 52 عاما، وكنت مصابا بالسّكـري وتصلب الشرايين. أيضا كنت قمت باستئصال المرارة وجزء من الغدة الدرقية. ومع ذلك،، كنت مقتنعا أن أفضل ما في الحياة ما زال أمامي!" (7)

كان هذا هو وضع "راي كـروك" مؤسس إمبـراطورية ماكدونالدز العمـلاقة في عام 1954 كما وصفه هو بنفسه في كتاب "Grinding it out: The Making of Mccdonalds"، حيث كان يعمل مندوب دعاية لبيع الحليب المخفوق للشركات والمطاعم. رجل بلغ سن الشيخوخة، تجاوز الخمسين من العمر، مُصاب بكل أمراض الشيخوخة المعتادة، فضلا عن كونه متزوّجا ولديه أسـرة والتزامات وأعباء.

 

ومع ذلك، بمجرد أن رأى راي كروك الفرصة سانحة عندما زار مطعم الأخوين ماكدونالدز، عاد إليه شبابه بالكامل. فمع خبـرة راي كروك الهائلة في مجال التسويق والبيع والدعاية، استطـاع أن يقوم بتحويل هذا المطعم الصغيـر إلى إمبراطورية أميـركية عابرة للقارات، تحوّلت إلى رمز من رموز الثقافة والإمبـريالية الأميـركية في العالم، حيث دائما ما يُقتــرن التأثير الأميـركي العالمي بشعـار مطعم ماكدونالدز الذي يوجد في كل مدينة في العالم تقريبا.

 

كان أبرز ما أفاد "راي كروك" في رحلة تأسيسه -أو سرقته كما يتهمه معظم المحايدين- لإمبراطورية ماكدونالدز هو أنه كان مشبّعا بالخبرات التسويقية والدعائية في مجالات مختلفة سمحت له أن يرصد الفرصة بأزهى صورها، ويحوّلها إلى مشروع عالمي. بدأ عمله بائعا للأكواب الورقية، وحاول أن يعزف البيانو والجاز ولكنه فشل، حاول أيضا أن يتعلّم الطهي في أحد المطاعم ولكنه لم يوفقّ. في النهاية، استقر راي كروك على مهنة مندوب لبيع ماكينة الحليب المخفوق وقضى ردحا طويلا من عمره يجوب الولايات المختلفة لبيع هذه الماكينات، إلى أن التقى بالأخوين ماكدونالدز.

 

في عام 1984 توفّي راي كروك بعمر يناهز 81 عاما، قضى أكثر من نصفها موظفا عاديا في شركة حليب لا يعرفه أحد ويعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية وإنسانية، بينما بدأت حياته الحقيقية بعدد أن تجاوز الخمسين ليحقق خلال 30 عاما قضاها في شيخوخته ما لم يستطع أن يحققه غيـره فيي شبابه من النجاح والتميز والشهرة والتأثير. (8، 9)

 

في النهاية، بالطبع ليس كل شخص مؤهلا لإطلاق شركته الناشئة في عمر متقدّم، فكلٌّ بحسب ظروفه وإمكانياته وقدراته وخبرته ونضجه في الحياة النابعة أصلا من مسيرة مهنية في مجال محدد يمكّنه من القفز من مسار الوظيفة المعتاد إلى سلّم الريادة وتأسيس الشركات. ويبقى التوقيت والتنفيذ السليم هو المعيار الأول لنجاح وفشل أي تجربة "ريادية" سواء لشاب في أول العشرينيات أو شيخ في أول السبعينيات.

المصدر : الجزيرة