شعار قسم ميدان

بكفاءة واحترافية.. هذه القواعد النفسية تساعدك على إدارة بيئة عملك

ميدان - عمل شركة موظفين زملاء عمل
اضغط للاستماع

 

معلوم أن الشركات الأقوى في العالم يقبع سرّها الأكبر في نمط الإدارة. هذا أمر طبيعي باعتبار أن الإدارة هي العمود الفقــري المُحرّك لكل أطراف المؤسسة، بدءا من أصغر التفاصيل وليس انتهاء بالقرارات المصيـرية. ومع ذلك، يتناسى الكثيـرون أن مفهـوم الإدارة لا يقتصـر فقط على وضع القواعد أو سنّ الأنظمة أو التأسيس لنظـام إبداعي جماعي، وإنما يتعدى ذلك أيضا إلى تفهّم جوانب نفسيـة شديدة الجوهـرية في أنماط العمل الجماعي من شأنها تحويل المؤسسات إلى الأفضل أو الأسوأ، بحسب التطبيق.

   

دراسة بحثية شديدة الأهمية نُشرت في عام 2012 بواسطة الدكتور مويل كابتاين الباحث والأكاديمي في كلية روتردام للإدارة بعنــوان "لماذا يقوم بعض الناس الجيدين بعمل أشياء سيئة؟ 52 انعكاسا في أخلاقيات العمــل"، سلطت الدراسة الضوء على مجموعة من المعايير النفسية التي تمثل إجابات بخصوص الظواهر الإيجابية والسلبية التي يمكن أن تحدث في بيئات الأعمال، بدءا من التميز المذهل الذي يظهره بعض الموظفين الذين بدا أنهم غير أكفاء في مراحلهم الأولى، وليس انتهاء بتورّط بعض الموظفين في أزمات فساد واختلاس. (1، 2، 3)

       

undefined        

أن تسمّي الأشياء بأسمائها الصحيحة

في بيئات الأعمال والشركات، تسميـة الأشياء بأسمائها الصحيحة له تأثير كبير على مسار عمل الفرق والشركة. أما إضفاء مصطلحـات غير شفّافة على المهـام والأفعال التي تقوم بها الشركة ككل أو الموظفون في بعض القطاعات قد يكون سببا في انفراط العقد لممارسـات سيئـة تحدث تحت راية هذه الأسماء المزيفة.

    

عندما تتحول "الرشوة" بكل ما تحمله من لا أخلاقيات وأزمات في نظام تشغيل الشركة إلى مصطلح على شاكلة "تفتيح الراس" أو "تزييت العجـلات"، وعندما تتحوّل مصيبة مهنيـة مثل فساد في الحسابات (Accounting Fraud) إلى اسم أنيق مثل "الهندسة المالية" (Financial Engineering)، وغيرها من الممارسات الخاطئة التي يمكن أن تحدث داخل المؤسسات ويُشوّش عليها بمصطلحات أنيقة أو رسمية أو حتى طريفة، فهذا المنهج اللا أخلاقي عندما يأتي من الإدارة فهو في النهاية يمنح الموظفين في الشركات ما يشبه الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الأفعال الخاطئة باعتبار أن الإدارة ستسمح لهم بذلك.

   

حتى بعض المصطلحات التي تبدو محفّزة، من الضروري أن تُستخدم في الإطار الصحيح. فمثلا، توماس واطسون مؤسس شركة "IBM" العملاقة، له مقولة شهيـرة يقول فيها: "ممارسة الأعمال في النهاية مجرد لعبة، هي أعظم لعبـة في العالم فقط إذا عرفت كيف تلعبها". هذا الاقتباس قد يكون صحيحا للبعض، ولكن من الخطأ استخدامه أمام الموظفين بكثافة لأنه قد يكون سببا في إشعارهم بشكل ماأنهم يخوضون لعبـة، وهو شعــور قد يجعلهم يؤدون وظائفهم اليومية بشكل من أشكال الاستخفاف.

      

شركة
شركة "IBM" العملاقة

       

بمعنى آخر، استخدام المصطلحات سواء بشقّيها الإيجابي أو السلبي يجب أن يكون دقيقا للغاية وواضحا، لأن المصطلحات المضللة أو غير الواضحة قد تؤدي بالمجموعات إلى اتخاذ ممارسات غير صحيحة تؤدي في النهاية إلى فتح الأبواب لارتكاب أخطـاء كبيـرة لظنّهم أنها مقبولة إداريا، بل وربما في مرحلة من المراحل يعتقدون أن الإدارة تحثّ عليها. (3، 4)

   

نظـرية النافذة المكســورة

يعود الفضـل لانتشار هذا المصطلح "نظرية النافذة المكسـورة" (Broken Window Theory) إلى رودي غيوليـاني عمدة مدينـة نيـويورك في الثمانينيات، الذي ساهم في تقليل معدلات الجريمة إلى مستوى قياسي في المدينة الأكثر شهـرة في أميـركا بارتكاب جرائم العنف؛ مما جعـل تجربته في نشر الأمن في ربوع المدينة واحدة من أكثر التجارب الناجحة التي تستحق الدراسة.

  

نظرية النافذة المكسـورة تفتــرض أن النافذة المكسـورة تحفّـز الأشخاص على المرور من خلالها، ببساطة لأنها مكســورة بالأساس وتعطي إشارة للجميع أن يمر من خلالها. بإسقاط هذا المثال على المؤسسات، فالنظرية تفترض أن الفوضى وعدم النظـام في أي مؤسسة نابع بالأساس من شعور الأشخاص أنهم يعملون تحت سقف سلطة غير مؤثرة ومتساهلة، وأنه لا يوجد سلطة مُساءلة أو مراقبة حقيقية، فيكون رد الفعـل غالبا هو ميل عدد منهم إلى التصرف بفوضويـة وعدم انتظام لشعـورهم أن الإدارة غائبة، وبالتالي غير قادرة على كبح الفوضى.

       

undefined      

     

يأتي علاج هذا الوضع كما وصفه عمدة نيـويورك عن طريق استهداف وضرب الجرائم الصغيـرة والبسيطة في المدينة، بالتوازي مع حملة إعلان واسعة تسجّل هذه الحملات بحيث يبدأ المواطن النيـويوركي بالشعور أن الأمن يحكم كافة مناطق المدينة ويتتبع الجرائم الصغيرة، وبالتالي فهو قادر على وقف وتتبع الجرائم الكبيرة أيضا. وبالفعل، أدى هذا الأسلوب إلى تراجع معدلات الجريمة بشكل ملحوظ بعد شعـور سكان المدينة أن المؤسسة التي تدير الأمن بها متماسكة، وأنها لا تمثّل "نافذة مكسـورة" يمكن للجميع أن يمارس الفوضى من خلالها. (5)

   

رؤيـــة النفق.. مميزات وعيوب

بالطبع لا توجد مؤسسة مهما كان مجالها تخلـو من منهجيـة وضع أهداف محددة لكافة موظفيها وعمّالها بشكل واضح. هذا هو أساس العمل البشري عموما في أي مؤسسة، وضع أهداف محددة لكل قطاع تقود في النهايـة إلى تحقيق هدف واحد كبيـر يسعى إليه الجميع عبر أداء أدوارهم المحدودة التي تتكـامل لتصل إلى هذا الهدف.

   

ومع ذلك، يجب أن تُطبّق هذه المنهجيـة بشكل أكثر عمقا وتدقيقا، باعتبار أنها تتحوّل في بعض الأحيان من منهجية منتجة إلى منهجية تسبب المشاكل، عندما تتحول من "رؤية واحدة" إلى حالة تشبه العقل الجماعي الواحد الذي يركز على تحقيق الأهداف دون أن يهتم بالإبداع أو العناصر الأخلاقية المهنيـة.

   

عندما ينحصـر التفكير الجماعي في اتجاه واحد لتحقيق هدف معين، هذا يؤدي في بعض الأحيان إلى إجبار الموظفين على اتباع أساليب غير أخلاقية لإنجاز المهمـة في سبيل تحقيق هذا الهدف تحديدا والشعـور أنه جزء من آلة كبيـرة تتحرك لتحقيق هذا الهدف. وربما كان هذا هو أحد أسباب انهيار شركة "إنــرون" (Enron) إحدى أكبر شركات الطاقة الأميـركية التي أعلنت إفلاسها في عام 2001، حيث كانت منهجيتها عرض حوافز كبـرى لموظفيها لتحقيق المبيعـات المطلوبة منهم، وهو ما أدى إلى تركيزهم الشديد على تحقيق الأهداف بغض النظر عن الجوانب النفعيـة أو الأخلاقية في أعمالهم. النهايـة كانت مأساوية. (6)

    

شركة
شركة "إنــرون" (Enron) إحدى أكبر شركات الطاقة الأميـركية

        

تأثيــر غالاتيــا.. الصورة الذاتية تحدد السلوك

من أشهر المصطلحات التي توضح واحدا من أهم سلوكيات الموظفين في بيئات الأعمال. "تأثيـر غالاتيا" (Galatea effect) يقول إن الطريقة التي ينظر بها الأشخاص إلى أنفسهم هي التي تحدد طريقة تصرفاتهم، فالأشخاص الذين يملكون حسا قويا تجاه أنفسـهم كأفراد يكونون أقل إمكـانية لارتكاب الأخطاء وتطوير أعمـالهم ذاتيا بلا مراقبة. بمعنى آخر، تأثير غالاتيا هو اندفاع الموظف بشكل فردي لرغبته في التميز وتقليل أخطائه ذاتيا، بغض النظر عن المحيط الجماعي الذي يحيط به.

   

على العكس من ذلك، فالموظفون الذين يجدون أنفسهم في بيئة آلية تفرض عليهم تصرفاتهم وآلية اتخاذ القرارات وتتعامل معهم كتروس في آلة كبيـرة، عادة ما يكونون فاقدين لحس المسؤولية الفردية الذاتية فيميلون إلى الوقوع في أخطاء. السبب أنهم وجدوا أنفسهم في بيئة تفرض مسؤولية "جماعية" وأنه لا مسؤولية فردية عليهم، وبالتالي إذا تعرّضوا للوم أو التوبيخ أو حتى المراجعة فسيكون الأمر بالنسبة إليهم جماعيا وليس فرديا.

   

بمعنى آخر، من المهم أن يكون الموظفون في بيئة العمل مشبّعين جميعا بتأثير غالاتيا الذي يدفعهم إلى إنجاز أعمالهم بشكل ذاتي، وأنهم مُخاطبون ومحاسبــون بشكل فردي أيضا وليس بشكل جمـاعي. (7)

   

تأثير بجمـاليــون.. الناس كما تعاملهم

هنا نحن نتحدث عن المصطلح العكسـي لمصطلح "تأثير غالاتيا". مصطلح "تأثير بجماليـون" (Pygmalion effect) يشير إلى حالة يميل فيها الناس إلى التصرف وفقـا للطريقة التي يعـاملهم بها الآخرون. بمعنى، إذا كنت مديرا لإحدى المؤسسات وعاملت أحد الموظفين بثقــة وأظهرت له أنك واثق في إمكـانياته، فغالبا سوف يتصرّف طوال فترة العمـل وفقا لهذا التأثير، سيتصرف باعتبار أنه محل للثقة.

     

هذا التأثير يسري على الجوانب السلبية أيضا. إذا عُومل الموظفون بشك أو وُضِعوا في محل الاتهام الدائم، فغالبا سوف يتصرفون في أعمـالهم بشكل مثير للريبة بالفعل. إذا كان التعامل مع الموظف إقصـائيا أو يقلل دائما من إنجازاته أو يشعره دائما أنه ينقصه الكثير من المهارات ولا يستخرج نتائج جيدة، ففي الغالب سيتصرف أثناء العمل بأداء سيئ يطابق هذه المعاملة بالضبط.

      

undefined      

    

بمعنى أكثر اختصارا، من الضروري أن يُعامَل كل موظف في بيئة العمل بشكل دقيق يحمل التحفيز اللازم الذي يجعله يتصدى للمهام التي ينجزها وفقا للشعـور الإيجابي الذي أورثه له مديره. (8)

 

الفائــز يخطف الأضواء كلها

طبيعة الحيـاة التي نعيشها اليوم لا تختلف عن الماضي كثيرا، حيث تتركّز الأضواء دائما على الشخص الفريد أو الأكثر تميزا أو الفائز الأول. الشخص الذي فاز بالمسابقة، الشخص الذي فاز بالوظيفة، الشخص الذي حاز المركز الأول، الشخص الذي يتلقى الأجر الأعلى، والشخص الذي يتلقى الأضواء. دائما هناك ثقافة تنافسيـة تجعل تركيز الأضواء على الشخص الفائز أو الشخص الذي يقف في المقدمة، حتى لو كان هذا الشخص يعمل ضمن منظومة عمل جمـاعي.

 

هذه الحالة من "الفائز يحصد كل شيء" (Winner take all) صحيح أنها تخلق تنافسيـة عالية للغاية سواء داخل الفريق الواحد أو داخل الفرق المتنافسة، ولكن أيضا لها سلبيـاتها خصوصا على الجوانب الأخلاقية المهنية. فمعنى وجود فائز واحد، أو شخص واحد يخطف الأضواء كلها، فمن البديهي أن يبدأ بعض الأفراد في الفريق بممارسة الغشّ أو اتخاذ وسائل غيـر أخلاقيـة لتحقيق الفوز والابتعاد عن شبح الخسارة، أو حتى محاولة عرقلة الآخرين في طريق سعيهم لتحقيق الفوز. (9)

     

undefined       

إذا زادت القيود انكسـرت

لا توجد مؤسسة أو مجموعة عمـل لا تنظمها القوانين والقواعد، سواء كانت هذه المؤسسة رسمية أو غير رسمية، ربحية أو تطوعية. أي بيئة عمـل مهما كان مجالها لها قواعد أساسية تنظّم إيقاع العمـل بها، وتوزّع الأدوار على المشاركين فيها، وتضع لهم الحدود بما هو مسموح وما هو غير مسموح. وبالطبع كلما زادت هذه القواعد مهنية واحترافية، زاد مستوى المؤسسة ككـل، وانعكس ذلك على مستوى أداء الموظفين من حيث الكمّية والكيفية.

    

ومع ذلك، عندما تبدأ القوانين في اتخاذ شكل أقرب إلى القيود، تنعكس الآية تماما. بشكل عام، الناس يحبون الحرية ويعتبرونها خطا أحمر حتى لو لم يعلنوا ذلك طوال الوقت. لذلك، كلمـا بدأت قوانين المؤسسات وبيئات الأعمال في اتخاذ قوالب جامدة بعيدة عن المرونة، أو بدأت في التضييق بشكل مبالغ فيها على العاملين والموظفين سواء في إسناد المهمـات أو فرض القواعد أو وضع قوالب ثابتة لا تراعي شخصية كل موظف وخصوصية وحريته، ازداد رد الفعـل المعاكس لهذه القيـود من الموظفين والعاملين تجاه المؤسسة، لدرجة الوصول أحيانا إلى كسر القوانين والعمـل ضد بروتوكول المؤسسة وليس فقط عدم الانصيـاع له.

 

هذه الحالة تسمى "نظرية التفاعل" (Reactance Theory)، وتعتبر من أخطر المظاهر التي تصيب المؤسسات ذات القوانين الجامدة والقيود الصارمة، حيث تسود الفوضى بدلا من النظام الذي وُضعت من أجله هذه القوانين، ويظهـر الفساد أكثر من الانضباط المتوقع. بمعنى آخر، هذه النظـرية تثبت قاعدة: لا تكن لينا فتعصر، ولا تكن صلبا فتكسر، ولكن في الناحية المؤسسية. ضع قوانين مرنة، ليست ليّنة قابلة للعصـر، وليست صلبة قابلة للكسـر. (10)       

undefined

    

في النهاية، بعض المؤسسات تهتم بشكل كاسح بفرض النظـام الإداري المميز، وتتجاهل الاهتمام بالتفاصيل النفسية الصغيرة التي من شأنها إطلاق المهارات والمواهب الكامنة في الموظفين لأعلى مستوى، أو العكس إخمـاد طاقاتهم ومهاراتهم لأدنى مستوى. لذلك، من الضـروري أن يراعي أي نظام إداري الأبعاد النفسيـة لفريق العمل بكل دقائقه وتفاصيله.

المصدر : الجزيرة