شعار قسم ميدان

إغلاق "Toys R Us".. قصة انهيار عملاق متاجر الألعاب

midan - Toys R us

 "شكرا لكل الذين شاركوا رحلتهم الرائعة من الأبوّة معنا، والشكر لكل جدّ وعمّ وخال وأخ وأخت قاموا بصناعة سفينة صواريخ منزلية، وقاموا بصناعة بطل مغامـر، أو اخترعوا لعبـة لطيفة. فقط عِدونا بشيء واحد: لا تكبـروا أبدا، استمروا في اللعب!"

     

كانت هذه الرسالة المؤثرة هي رسالة الوداع الأخيـرة التي تركها متجـر "تويز آر أس" (Toys R Us) العالمي على موقعه الإلكتـروني في يوم 29 يونيـو/حزيران من عام 2018، والتي تعتبر التحديث الأخيـر من الإدارة على موقعها الإلكتروني الذي توقّف عن العمـل في مارس/آذار الماضي، بعد أن أُعلن رسميا عن إفلاس المتجر وخروج الشركة العمـلاقة من عالم الأعمال تماما بعد تراكم ديـون هائلة أدت إلى وفـاتها وإغلاق أكثر من 700 متجر تابع لها في أميـركا فقط.

     

undefined

    

ومع التأثر العالمي الكبيـر بإغلاق سلسلة متاجر الأطفال الأشهـر عالميا بعد سبعين عاما كانت فيها "تويز آر أس"  (Toy R US) قبلة الأطفال الأولى التي أنشأت أجيالا عديدة تربّت على ألعابها. لكن انهيـارها أيضا يحمل في طياته رسالة واضحة للأسواق العالمية أن عالم الأعمال الآن يمرّ بأكبر تقلبـاته على الإطلاق، وأن ما كان عملاقا يقود السوق منذ عقود قليلة لم يعد له مكـان على الساحة، وكان مصيـره -ببساطة- الموت بلا رحمة. (1، 2)

  

الألعاب هي نحن

تشارلز لازاروس، مؤسس
تشارلز لازاروس، مؤسس "تويز آر أس" (مواقع التواصل)

    

عندما أتمّ تشارلز لازاروس عامه الخامس والعشـرين، لم يكن قد فقد الطفل الذي بداخله بعد والذي يجعل وجهه دائما يشع بابتسامة طفولية يدركها فورا كل من يشاهده. في عام 1948، وبعد مرور سنوات قليلة من عودته من ساحات الحرب العالمية الثانية قرر لازاروس برأس مال قدره 4 آلاف دولار أن يبدأ مشروعه الخاصة بافتتاح متجر لبيع أثاث الأطفال تحت اسم "شيلدرن بارغين تاون" (Children’s Bargain Town).

   

كان المتجر الذي افتتحه صغيرا لكنه أدى أداء لا بأس به، خصوصا عندما قام بعد عامين بالتوسّع لبيع مستلزمات أخرى للأطفال إلى جانب الأثاث. ومع ذلك، لم يكن المتجر يحقق الأرباح المطلوبة، فقام في نهاية الخمسينيات، وبالتحديد في عام 1957، بإعادة هيكلة متجـره لتحويله إلى "متجر" كبيـر متخصص فقط في بيع ألعاب ومستلزمات الأطفال، وقام بإطـلاق عليه اسم "الألعاب هي نحن" (Toys R Us) الذي حتما لم يكن يتوقّع أن يتحول إلى واحدة من أضخم العلامات التجارية في عالم البيع بالتجزئة في السنوات اللاحقة.

  

بعد عام واحد، وبقدوم عام 1958، ومع الإقبال الكبير على متجر "تويز آر أس" (Toys R Us) استطاع لازاروس أن يفتتح فرعا جديدا لمتجره، ثم افتتاح فرع ثالث بمساحة كبيـرة أتاحت للزبائن والأطفال التوافد على المتاجر بأعداد كبيـرة، خصوصا بعد إضافة كميات كبيرة من الألعاب المختلفة المناسبة لشرائح عمرية مختلفة.

  

ومع الخصومات الكبيرة التي يعرضها المتجر، فضلا عن التوسع في حملاته التسويقية والدعائية وإطلاق شعاره الجديد في عام 1965 على شكل الزرافة الشهيـرة "جيوفري" (Geoffrey)، أصبح المتجر واحدا من أشهر متاجر الألعاب الخاصة في النصف الأول من الستينيات، وهو ما كان من الطبيعي أن يجعل الشركات الكبـرى تتقدم بعروض استحواذ عليه، وهو ما حدث بالفعل في عام 1966. (1، 3، 4)

  

نحن الألعاب

undefined

    

في عام 1966، تم التوصل إلى عقد استحواذ على شركة "تويز آر  أس" (Toys R US) بواسطة شركة "Interstate Department Stores" المتخصصة في تجارة البيع بالتجزئة بقيمة 7.5 مليون دولار، مع الاتفاق على بقاء المؤسس لازاروس في منصب المدير التنفيذي للشركة. خلال النصف الثاني من الستينيات ازدهر المتجر بشكل كبير وبدأت شخصيته الكرتونية "جيوفري" في الانتشار بشكل واسع بين الزبائن، وبدأت تظهـر بكثافة في الإعلانات التلفزيونية مع عروض وخصومات ممتازة جاذبة للأطفال.

  

ولكن، ومع هذا النجاح الكبير الذي تحققه "تويز آر أس" (Toys R Us)، استيقظ الكل على كارثة إفلاس الشركة المستحوذة "Interstate"، والتي لم تجد بدا من الاستعانة بلازاروس نفسه في تولي إدارة الشركة الأم وإدارة متاجر "Interstate" وإنقاذها من الانهيار. وبالفعل، استطاع لازاروس خلال فترة السبعينيات النهوض بالشركة من كبوتها بتحقيق مبيعات ضخمة، أدى في النهاية إلى تحويل شركة "Interstate" إلى اسم "تويز آر أس" (Toys R Us) ليصل عدد متاجرها إلى أكثر من سبعين متجرا حول الولايات المتحدة.

  

في أواخر السبعينيات، وبالتحديد في عام 1978، ومع نمو الشركة المطـرد تحوّلت إلى شركة عامة مساهمة في البورصة، مما مكّنها في عقد الثمانينيات من افتتاح خطوط منتجات جديدة والتوسع بشكل أكبر في الولايات المتحدة وبدء خطة طموحة للتوسع عالميا، حيث بدأت في الانتشار في كندا ثم سنغافورة، ثم توسعت الشركة لتقتحم السوق اليابانيـة في بداية التسعينيات لتمثّل رمزا جديدا من رموز الهيمنة الأميـركية، لدرجة افتتاح أول متجر في اليابان بحضـور الرئيس الأميـركي الأسبق جورج بوش الأب.

   

    

إعلان "تويز آر أس" (Toys R Us) في الثمانينيات الذي اشتهر بعبارة: "أنا لا أريد أن أكبـر"

  

وبقدوم عقد التسعينيات، كانت "تويز آر أس" على قمة العالم وصُنّفت باعتبارها "قاتلا للتصنيف" (Catefory Killer)، وهو مصطلح يُطلق على المتاجر التي تحتكـر بيع منتج معين فلا تسمح للمتاجر الأخرى الصغيرة بالظهـور أمامها كمنافس. وهو الأمر الذي جعل لازاروس يتخذ قرارا بالتنحي بضميـر مستريح عن منصب المدير التنفيذي للشركة في عام 1994، ثم تخلى لاحقا عن منصب رئيس مجلس الإدارة في وقت بدا للجميع أن العلامة التجارية "تويز آر أس" (Toys R Us) لا يمكن أن تموت، وأنها على نفس شهـرة وقوة العلامة التجارية لإمبراطوريات تجارية أخرى مثل "وولمارت"، و"ماكدونالدز"، وغيرها من العلامات التي تبدو أنها خالدة للأبد. (1، 3، 4)

  

الغيوم تتجمّع في الأفق

undefined

    

في النصف الثاني من عقد التسعينيات، بدأت الغيوم تغطي الأفق بالنسبة إلى سلسلة المتاجر الضخمة. فمن ناحية، بدأت متاجر البيع بالتجزئة الكبـرى مثل متاجر "وولمارت" (Walmart) و"تارجت" (Target) تكثيف الدخول في سوق الألعاب الضخم التي تستحوذ عليه "تويز آر أس" بمفـردها عبـر تقديم منتجات وعروض ممتازة وتخفيضـات كبيـرة على الألعاب ومستلزمات الأطفال مع الحفاظ على جودة قريبة من جودة منتجاتها.

  

في التوقيت نفسه، بدأ طفـل صغيـر يظهـر في سوق تجارة التجزئة متخصص في بيع الكتب اسمه "أمازون" (Amazon) والذي تحوّل في زمن قياسي من متجر لبيع الكتب إلى متجر شامل يبيع كافة المنتجات في نهاية التسعينيات وبداية الألفية. ومع التنامي الهائل في استخدام الإنترنت، وعزوف المستخدمين في أميـركا تدريجيا عن الشراء اليدوي عبر زيارة المتاجر، وتفضيلاتهم بالشراء عبر "أمازون" الذي وفّـر عروضا ممتازة لبيع كافة المنتجات، بما فيها ألعاب الأطفال بأسعار شديدة التنافسيـة للأسعار التي يقدمها "تويز آر أس".

   

هنا بدأت المشاكل تحتشد، في النصف الأول من الألفية الجديدة عندما بدأت مبيعـات "تويز آر أس" (Toys R Us) في الانخفاض بشكل ملحوظ. صحيح أن الشركة أطلقت متجرا إلكترونيا في عام 2000، ولكنها استمـرت بشكل كامل في اتباع منهج بيع لعب ومستلزمات الأطفال، ورفضت التوسّع لبيع منتجات أخرى مثل "وولمارت" و"أمازون" وغيرها من متاجر التجزئة التي توسّعت لبيع منتجات متعددة، وبالتالي ظلت هوامش أرباحها مرتفعة طوال الوقت. (3، 4، 5)

   

عملاق الألعاب المريض

undefined

   

في عام 2003، بدأت شركة "تويز آر أس" (Toy R Us) في اتخاذ قرارات انكمـاشية لبعض منتجاتها، كان أبرزها إغلاق أحد أهم خطوط إنتاجها "Kis R Us". ثم في العام التالي 2004 ، أُعلن عن خطـة مراجعــة إستراتيجية شاملة للشركة، مع استمرار نزيف الخسائر الحاد الذي تُمنى به الشركة طوال الوقت، في الوقت التي تضخمت فيه متاجر التجزئة الشاملة الأخرى التي سحبت البساط من تحت قدميها تماما.

  

كانت الأحداث تتسارع بسرعة مذهلة، والشركة تنكمش بشكل كبير وتتراجع سمعتها ومعدلات الإقبال على منتجاتها، وهو ما قاد في النهاية إلى إعلان صفقة كبـرى في عام 2005، تقوم على إثرها تحالف من مجموعة من الشركات بشراء متاجر "تويز آر أس" (Toy R Us) باستحواذ بقيمة 6.6 مليار دولار مدعوم بقروض "Leveraged buyout" قيمتها 5.3 مليار دولار بموجب ممتلكات الشركة ومتاجرها المنتشرة في أنحاء العالم، وإعادة الشركة إلى شركة خاصة يتم سحب أسهمها من البورصة.

  

كان من المفترض أن يؤدي هذا العرض إلى انتعاش كبير في "تويز آر أس" (Toys R Us) بخصوص عملياتها التشغيلية وإعادة هيكلة خططها الإستراتيجية والتسويقية والتركيز على المنتجات الأكثر ربحا وتأسيس لخطوط إنتاج جديدة تتماشى مع اتجاهات السوق، والأهم: إشعال المنافسة مع متاجر التجزئة الشاملة واستعادة بريقها كأكبـر متجر لبيع الأطفال في العالم. لكن هذا -ببساطة- لم يحدث. (3، 4، 5، 6، 7)

  

الانهيار

متجر
متجر "تويز آر أس" (Toys R US) مرفوع عليه عبارة: خارج نطاق العمــل (مواقع التواصل)

    

"إنني أشعر بالانهيار لأننا بلغنا هذه المرحلة المزرية، وإنني على يقين من أننا قد بذلنا قصارى جهدنا في ظل ظروف تحوّلت إلى ما يشبه المستحيل"

(ديف براندون، آخر مدير تنفيذي لـشركة "تويز آر أس" (Toy R Us) قبل إغلاقها، أمام جمع من 60 موظفا)

   

بعكس المتوقع، بدءا من عام 2005 بعد الاستحواذ الدائن الذي شهدته الشركة، لم تتحسن الأمور كثيرا في السنوات التالية. الواقع أن دينا هائلا بقيمة 5.3 مليار دولار كان يمثل عبئا هائلا على ميزانية الشركة مهما بدأت مبيعاتها في التحسن، وهو الأمر الذي لم يحدث بالأساس بسبب مجموعة من العوامل التي ظهـرت بشكل كبير ساهمت في المزيد من الانهيار للشركة التي كانت ملء السمع والبصر لعدة عقود.

  

العامل الأول خارجي، وهو التضخم الهائل الذي حققته شركة "أمازون" في السنوات التالية والذي التهم كل المجهودات التي قامت بها سلاسل البيع بالتجزئة التقليدية وليس "تويز آر أس" (Toys R Us) فقط، لدرجة تسبب "أمازون" في إغلاق عشرات متاجر بيع التجزئة في السنوات التالية فيما يعرف بظاهرة "أبوكاليبس البيع بالتجزئة" (Retail Apocalypse).

  

العامل الثاني هو الدين الهائل الذي عجزت الشركة عن تسديده لدرجة أنها كانت تنفق سنويا 400 مليون دولار من أرباحها فقط لتسديد فوائد الدين، وهو مبلغ هائل اعتُبر مركز نزيف دائم للشركة يعوقها عن تدوير أرباحها بشكل صحيح.

  

أما العامل الثالث فقد كان داخليا، عندما بدأت الأصوات تتعالى داخل الشركة بفقدان الثقة في أدائها خصوصا بين حاملي أسهمها، وأنها تتراجع بشكل حاد وخطير، خصوصا أن الشركة وبدءا من عام 2013 لم تعد تحقق أي أرباح سنوية للمرة الأولى منذ تاريخ تأسيسها في عام 1957.

   

كل هذه العوامل، خصوصا العامل الثالث حيث ضغط المستثمـرون بشكل كبير على إدارة الشركة في اتجاه تصفيتها وإعلان إفلاسها، وإغلاق مئات المتاجر في الولايات المتحدة بدلا من تكبّد المزيد من الخسـائر في نهاية عام 2017، ليتم أخيرا الإعلان عن توقف الشركة عن العمل في مارس/آذار في عام 2018.

  

والمدهش أن مؤسس الشركة الأول "تشارلز لازاروس" فارق الحياة في عمر 94 عاما بعد أسبوع واحد من إعلان إفلاس شركته التي شهدت عصرها الذهبي على يديه. (3، 4، 5، 6، 8)

  

undefined

   

في النهاية، قصـة صعود وهبوط شركة "تويز آر أس" (Toys R Us) وإن كانت تحمل في طياتها العشرات من الدروس التي من المؤكد أنه سيُفرد لها قريبا عشرات الكتب والإصدارات الإدارية والمناقشات المتخصصة، لكن الدرس الأساسي والأكبر في هذه الرحلة هو أنه في عالم الأعمال لا أحد يظل على القمة للأبد، وأن السوق بكل ما فيه من عناصر سواء المستهلكين والمنافسين والظروف والإجراءات وغيرهم، قد يعصف بالكبير ليخـرجه خارج الحلبة تماما، ويستقدم الصغير ليتبوأ مقعد القمة خلفا له، يتبوأه -ربما- إلى أجل مسمّى!