شعار قسم ميدان

المُقايضة بالمهارة.. هكذا يفتح لك "العمل المجاني" أبوابا مهنية واسعة

ميدان - مقايضة بالمهارة عمل فكرة جيدة

"سيتم بيع الصفر المُطلق قريبا!"

(جاستين ك. ماكفارلين)

المال، يمكن اعتباره القيمة المادية لقاء خدمة قُدّمت إليك أو لشراء سلعة معروضة، ولكن قبل ظهور هذه الصيغة الورقية/المعدنية للقيمة، فإننا كثيرا ما قرأنا في قصص التاريخ وحكايات التجارة قديما أن الناس كانوا يتبادلون البضائع فيما بينهم أو الخدمات، دون استخدام المال (1)، وكانوا يُحددون قيمة مواشي معينة لتتناسب مع قيمة بضائع أخرى لتسهيل عملية التبادل، وتطورت هذه الصيغة التبادلية حتى وصلت لمرحلة تبادل السلعة بالسلعة، ومن ثمّ انتقلنا للمال كتعبير عن قيمة الشيء. إلا أنه حتى يومنا هذا، لربما وجدنا في نطاقات جغرافية تغلب عليها "البساطة" بعيدا عن العالم التقني والاقتصادي العابر للحدود الذي نعيشه؛ ما زالت بعض قُراها تتبادل السلع والخدمات فيما بينها بما يُعرف بـ"المقايضة"، ويصل الحال لاعتباره شكلا من أشكال "سد الفواتير" في الكثير من المشاهد المصورة في الأفلام. على سبيل المثال؛ يكتشف الفرد نسيانه لمحفظة نقوده بعد انتهائه من التهام وجبته، فيُطلب منه تنظيف الأرضية أو غسل الأطباق كوسيلة دفع، أو سد ثمن طبقه بالخدمة بدلا من المال.

في عصرنا الحالي، صار المال بمثابة المقوّم الأهم لاستمرار حلقة إمدادك بكل ما تحتاجه من أساسيات أو رفاه، وباتت مهمة الحفاظ على وظيفة مستقرة وثابتة براتب شهري ثابت هي المهمة الأصعب في وجه إعصار انعدام الأمان الوظيفي في ظل النظام الرأسمالي. ولكن، لو افترضنا أسوأ السيناريوهات، التي تُحاكي واقع الآلاف من العاطلين عن العمل، أو الذين يواجهون تهديدا وظيفيا، أو الذين تخرجوا حديثا بحصيلة "صفر" خبرة، أو للبدء بمشروع صغير تُتقن مهاراته، فكيف يُمكنك أن تُقايض بمهارتك دون عائد مادي، في ذات الوقت الذي يعد جهدك الذي تبذله استثمارا يعود على مسيرتك الوظيفية؟

خطوة باتجاه الألف ميل!

المُقايضة في سوق العمل تعني تبادل المنتجات أو الخدمات دون وجود عنصر المال في دائرة عملية التبادل. في هذا الشأن وفي مقابلة لـ "ميدان" مع المحلل والكاتب الاقتصادي ومدير الأبحاث الاقتصادية في شركة استثمارية في الأردن، مازن إرشيد، والذي شاركنا قصة من بداياته؛ أي نحو ما يقرب 12 سنة من الآن، يقول إنه كان يُبادر بالكتابة في بعض المواقع الإلكترونية المحلية دون أي عائد مادي، وهذا ما منحه فرصة التمرن والتدرب على كتابة المقالات الاقتصادية. فهو يرى أن هذه وسيلة فعّالة لتثبيت نفسك في قطاع العمل الذي يصقل مهارتك، وفي الوقت ذاته، فإن الجهة الأخرى تستفيد من مهارة الشخص نفسه. وكان يكتب مقالاته الاقتصادية بشكل شبه يومي بالتزامن مع مستجدات "بورصة عمّان"، حتى بلغ من الممارسة درجةً جعلت مقالاته أكثر مهنية، واستطاع بمرور الوقت أن يُتقن أسلوب الكتابة الاقتصادية بشكل احترافي.

ووفق هذا التطور، انتقل الأستاذ إرشيد للنشر في صحيفة رسمية مقرها لندن، ويقول: "لقد استفدت من كل كتاباتي التي لم آخذ أجرا عليها، فكتابتي جعلتني أتمرن أكثر، لأصقل مهارتي في القطاع نفسه، حتى تَحَوّلت -في الوقت المناسب- إلى مهنة ثانوية بأجر مادي، إلى جانب مهنتي الأساسية". ومن وجهة نظره، يرى ألّا مانع من تقديم مهاراتك دون مقابل مادي، كخطوة أولية في رحلة العمل، إذ يُوازي هذا الفعل أن تأخذ دورة تدريبية تحضرك لمرحلة ما قبل العمل. وهذا تحديدا ما يعزف عن فعله الكثير من الشباب حين يَرون أنه من الظلم بذل الجهد والوقت والمهارة دون مقابل مادي، بينما يرى "إرشيّد" أنه من الجيد الإقدام على مثل هذه الخطوات، فالأمر يُقوّي من رصيد المُقبل على سوق العمل ويُكسبه الخبرة، وينمي مهاراته، ويقول في نهاية حواره مع "ميدان": "بعد أن يُتقن الشخص المهارة، ويصقلها، حينها يستحق أن يُطالب بأجر مادي مُقابل ما يُقدم".

وفي تجربة تحكيها طالبة التسويق في الجامعة الأردنية لـ "ميدانشروق بني عطا، التي كانت شغوفة بفن الكروشيه (الحِياكة) البعيد جدا عن تخصصها، بدأت ببذل الوقت والمواد والجهد -إلى جانب دراستها- في صنع بعض القطع وإهدائها لصديقاتها وأقربائها وللأشخاص الذين يملكون منصات جماهيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، مع مراعاة الأخذ بجميع الملاحظات، فتقول: "لقد بذلت من وقتي وجهدي ومالي لشراء كل المواد التي أحتاج إليها، حتى أتدرب وأتقن فن الكروشيه وفي الوقت نفسه معرفة ما يجذب المُستهلك، بالدرجة التي تسمح لي بعدها ببيع هذه القطع والاستفادة من مردودها المادي". وبالفعل، بعد أن أتقنت كل ما تحتاج إليه المهنة، بدأت بتأسيس مشروعها الصغير الذي يعود عليها -حاليا- بعائد مادي، بعد أن بذلت الكثير من الجهد، وقدمت الكثير من الدورات المجانية للفتيات، دون أجر مقابل عملها.

كيف ومتى تُقايض؟
undefined

في قناتها (3) "جاسمين ستار" (Jasmine Star)، ياسمين التي تركت كلية الحقوق لتُلاحق شغفها بالتصوير، تُقدم الكثير من النصائح من واقع حياتها العملية التي تتعامل بها بشكل كبير بإستراتيجية المقايضة. في بداية شرحها لكيفية المُقايضة، تقول إن احتياجاتها -في العمل- أكبر من استطاعتها المادية، عندها؛ عزمت على كتابة قائمة بما تحتاج إليه، وقائمة أخرى بما يُمكنها أن تُقدم. على سبيل المثال؛ بصفتها مُصورة تقول: "يمكن للخدمات التي أستطيع تقديمها وكتابتها على قائمتي: مساعدة مُصور، تقديم بعض ورشات العمل المعنية بتعليم أساسيات التصوير، وغيرها". من وجهة نظرها، ترى أن استغلال كل مهارة يُتقنها الفرد وبسط المساحة لتوسيع نطاقها هو أمر جيد وسيخدم الشخص.

بعد الانتهاء من كتابة الخدمات التي يُمكنك تقديمها، عليك البدء بالبحث عن أولئك الذين يحتاجون إلى خدماتك، ولكن بشرط أن يتشاركوا معك أيضا بحاجتهم إلى ما تُقدم، وتقول ياسمين إن هذه أهم ملاحظة لضمان نجاح المقايضة والخروج منها بعظيم الفائدة، فمن الخطأ أن تُقدم عرضك لشخص وتبذل تجاهه الكثير من الطاقة بينما اهتمامه بها لا يُساوي الكثير. وهذا ما يجعلنا نقفز للخطوة التالية، عليك المقايضة بنسبة متساوية -في القيمة- بين ما تأخذ وما تمنح. فلا يُمكنك تقديم خدمة تُساوي في حقيقتها $1000 ومقايضتها بخدمة قيمتها $3000، فأنت هكذا تقود عملية المقايضة لوجهة الخسارة لا أكثر. وهذه الملاحظات يتفق في مجملها المُدون والمستشار تيم دينينغ (5)، في مقال بعنوان "كيف تستخدم المُقايضة للعودة بشيء من لا شيء؟". (6)

حيث يؤكد ضرورة أن يكون ما تعرضه مهما وذا قيمة عند الطرف الآخر، فلا تُقايض طاهيا بوصفتك الخاصة مثلا، ويقول: "إن ما تراه ذا قيمة ليس شرطا أن يراه غيرك بالقيمة نفسها، فكُن ذكيا وادرس خياراتك وخيارات الطرف الآخر وابحث عن المشكلات التي تُواجهه، لتستغلها وتُقايض بما لديك لحلها". وينصح أيضا بأن تكون المُبادر وتُقدم ما لديك، "أن تبدأ بلعب اللعبة دون تأطيرها أو وضع عنوان (مُقايضة)"، ينصح أيضا بتقديم أكثر مما هو متوقع، "أن تُقدم أكثر من التوقعات، أفضل من أن تَعِد بأمور لن تفي بها". ويُلخص كل هذا بتعريف جديد للمُقايضة الناجحة، وهو: العطاء، حيث إن تيم كان قد وصل إلى وضع مهني مؤسف، ولم ينقذه حينها سوى أن يُقايض بخبرته، بمهاراته، بإخراج كل علمه وعرضه على الطاولة.

رحلة استبدال بيت خشبي بمشبك ورق.. كيف؟

لا يُمكننا الحديث عن التجارة دون الالتفات للتجارة الإلكترونية، وانطلاقا من هذه النقطة تحديدا، فهُنا على هذا الكوكب يُشاركنا شخص يُدعى كايل ماكدونالد (7)، قايض بمشبك ورقي أحمر وحصل في النهاية على بيت أحلامه، كيف حدث هذا؟ كان كايل عاطلا عن العمل، لا يملك وظيفة ولا راتبا شهريا ثابتا، وكان -دون مبالاة- يُحدق في مكتبه بالمنزل ويُفكر كيف يُمكن أن يخرج من ورطته هذه، ما الباب الذي يُمكن أن يُدق في هذه اللحظة؟ حتى لمح على طرف مكتبه مشبكا ورقيا أحمر. في طفولته، كان هُناك لعبة مشهورة (أكبر-أفضل) تقوم هذه اللعبة على أساس التبادل، تبادل ما بيدك بشيء أكبر وأكثر نفعا. فأنشأ -على الفور- مُدونة (8) وصوّر مشبكه وأرفق الصورة بجملة: "هذا مشبك أحمر، من يُريد مقايضته بشيء أكبر وأفضل؟".

بعد مدة قصيرة، تلقى كايل رسالة من أحدهم على استعداد أن يُبادله المشبك الأحمر بقلم حبر على شكل سمكة، وتوالت المبادلات على مدار سنة كاملة، تمكّن خلالها من إجراء 14 عملية مقايضة، وفي كل مرة كان فعلا يحصل على (أكبر وأفضل). لقد استغل بعض الأشخاص حاجياتهم المهجورة أو التي لم يعودوا في حاجة إليها وقايضوها بما يحتاجون إليه فعلا، فعادت بالنفع والفائدة على الطرفين. بعد انتهاء رحلته الشائقة، قام كايل بتأليف كتاب بعنوان "مشبك ورق أحمر واحد" (One Red Paperclip)، واعتُبرت قصة نجاحه قصة مُلهمة، وتُرجم كتابه إلى أكثر من 12 لغة. كما سجّل رقمين في موسوعة غينيس، الأول كأنجح عملية تجارية إلكترونية، والثاني بسبب صنعه لأكبر مشبك ورق أحمر في العالم. هذه المُقايضة لم تكن مُقايضة بالمهارة، ولكن الدرس المُستفاد منها هو كما قال كايل على منصة (9) "تيد" (Ted): "أنت من تصنع قيمة الشيء، ولا تقل لا لأي خطوة تقودك بأي اتجاه، ولا يوجد باب لا يُمكنك محاولة فتحه".

كما قال تيم دينينغ إن المقايضة تسمح لك بالعودة بشيء من لا شيء. رُبما لاحظت في الأفلام التي تعرض واقع السجون كيف أن السجين الذي لا يملك أي شيء يُقايض ويُبادل "سيجارة" في مقابل الحماية، أو طعام أكثر، أو أن يغسل أحدهم عوضا عنه. هذه الوسيلة التي كانت أساس التعامل منذ أكثر من 6000 قبل الميلاد (10) قد تكون محاولة -لن تُكلّفك شيئا- إذا شعرت أنك في بُقعة صعبة أو حرجة في مشوارك المهني.

المصدر : الجزيرة