شعار قسم ميدان

بين الأسطورة والحقيقة.. عن النجوم التي "تغمز" في السماء!

midan - stars

قديمًا، كما عشق البشر النجوم، ورفعوا الرأس لها أملًا  في حياة أفضل حين ترضى عنهم الآلهة، فقد خافوا من بعضها، تشير إحدى الحكايات(1) إلى أن الأمير برشاوس استطاع بعد أن وضع خطة غاية في الذكاء أن يقطع رأس ميدوسا ذات الشعر المكون من ثعابين ذات فحيح مرعب، هنا قام باستخدام تلك الرأس، والتي تحول أي شيء ينظر نحو عينيها إلى صخر، في مواجهة الوحش العظيم قيطس والذي أُرسل لقتل فتاة مثبتة بالسلاسل على البحر تدعى أندروميدا، قدس القدماء كل أبطال تلك الملحمة التاريخية التي جسدها فيلم (Clash Of Titans) الشهير، أعطوا كل منهم مجموعة من النجوم، لكنهم أعطوا نجمة واحدة محددة في سماء الليل لعين ميدوسا.

  

النجمة تتخذ اسمًا عربيًا مرعبًا أيضًا، وهو رأس الغول(2) (Algol)، واستخدمت أيضًا بمعنى "نجم الشيطان"، وكان كل ذلك الرعب المحيط بها له سبب واحد، هو أن تلك النجمة "تغمز" لنا على الأرض، أي أنها تستمر في لمعان ظاهري ثابت لمدة تبقى ليومين وعشرين ساعة وتسعة وأربعين دقيقة، ثم ينخفض بشدة لمدة عشر ساعات، ثم يعود من جديد، هنا تصور الناس قديمًا أن تلك هي عين الشيطان المرعبة التي "تغمز" لهم إنذارًا بشر قريب.

  

بالطبع ذلك ليس حقيقيًا، لكن الأمر تطلب ما يقرب من ألفي سنة لكي نكتشف أن هناك فئة كاملة من النجوم يتغير لمعانها -على عكس العادة- بنمط ثابت أو غير ثابت، أي أن ينتقل من درجة ألمع لدرجة أقل لمعانًا كأنه -مثل نجم الشيطان- يغمز، قد يحدث ذلك بفارق كبير بين حالتي اللمعان والخفوت أو صغير، مرة كل واحد على الألف من الثانية أو حتّى كل عام، الآن نعرف أن هناك ما يقرب من 160 ألفا من تلك النجوم، ونسميها النجوم المتغيرة (Variable Stars)، وكان غرض البحث العلمي منذ اكتشافها هو تقسيمها وتصنيفها وتحليل أسباب ذلك الانخفاض في لمعانها، لنكتشف بعد ذلك أنها سوف تكون فيما بعد هي أداة القياس الأفضل للمسافات في الكون، وهي كذلك أحد أهم مداخل الهواة للمشاركة في البحث العلمي.

  

نجوم تنبض؟
دعنا نبدأ من سنة 1569، فبينما كانت إليزابيث الأولى ملكة بريطانيا تعلن رسميًا -على إثر أزمة نقص الغذاء- أن جميع الأفارقة يجب أن يتم ترحيلهم من بريطانيا، اكتشف القس الألماني ديفيد فابريسيوس (David Fabricius) والذي يهوى تأمل سماء الليل أن أحد النجوم التي يقوم برصدها قد لمع بشكل غير معتاد عن عادته ثم اختفى تمامًا في (أكتوبر/تشرين الأول)، هنا تصور ديفيد أن ذلك كان نجمًا منفجرًا لكنه عاد وشاهده مرة أخرى في (فبراير/شباط) 1609، بعد ذلك قدر يوهانس هولواردا (Johannes Holwarda) دورته بمقدار 11 شهر، وأطلق عليه لقب(3) "Mira" مَيرا، وتعني الرائع أو الأعجوبة.

    

undefined

  

الآن نعرف أن تلك المدة هي تحديدًا هي 332 يومًا، قد تزيد أو تنقص بضعة أيام، خلالها ينخفض لمعان النجم من مستوى قدرات العين المجردة (قدر ظاهري حول 4.0 أو ربما يقفز إلى القدر 2.0 كالنجم القطبي) إلى مستوى لا يمكن لنا رؤيته (قدر ظاهري 10)، لذلك إذا كنت فلكيًا هاويًا يمكن لك أن ترصد(4) بعينيك المجردتين قفزة ميرا إلى أعلى لمعان (Maxima) في يوم 29 (ديسمبر/كانون الثاني) القادم، و26 (نوفمبر/تشرين الثاني) 2018، وبالخريطة المرفقة تحديد لمكانه بكوكبة قيطس (Cetus)، استخدم برنامج (Stellarium) أو تطبيق (Google Sky Map) لأجهزة الأندرويد سوف يساعدك ذلك كثيرًا، سيظل النجم ميرا لامعًا فقط لعدة أسابيع، ثم يختفي عن الأنظار.

 

ميرا هو نجم متغير نابض(5) (Pulsating Variable Star)، ويعني ذلك أنه نجم ينتفخ وينكمش، مما يؤثر على قدر الإشعاع الخارج منه بالطبع، فيزداد وينخفض لمعانه بالنسبة لنا هنا على الأرض، يبدو ذلك غريبًا بالنسبة لتصورنا عن تلك الكرة الساخنة من الغاز والبلازما، كيف يمكن لها أن تنكمش وتنتفخ؟ هنا يتدخل الهيليوم الساكن في الطبقات العليا للنجم ليشرح سبب ذلك النبض، فنحن نعرف كبداية أن أية ذرة لكي تفقد إلكتروناتها تحتاج حرارة شديدة، وما إن تنخفض الحرارة تعود الإلكترونات مرة أخرى للذرة، يشبه الأمر أن نحتاج لقدر كبير من الطاقة كي نفلت كرة تمسكها بيديك، لكن مع قدر صغير من الطاقة لا نستطيع.

   

undefined

  

حينما تزداد شدة الحرارة بداخل النجم يفقد الهيليوم إلكترونين من مداراته الخارجية، وبذلك فهو يصبح معتمًا تماما، مما يمنع الفوتونات من المرور خلاله للخارج، هنا سوف تزداد حرارة النجم بسبب حبس كل تلك الطاقة، بسبب ذلك ينتفخ النجم بقوة، هنا تنخفض درجة الحرارة، ومع انخفاض درجة الحرارة تعود الإلكترونات لمداراتها في ذرات الهيليوم، هنا يصح الهيليوم شفافا وقادرا على السماح للفوتونات بالمرور، بسبب ذلك ينكمش النجم من جديد، وترتفع درجة الحرارة مرة أخرى، فيتأين الهيليوم ويفقد إلكتروناته، ليصبح من جديد معتمًا، فيحجب الفوتونات الخارجة، وهكذا.. تستمر دورة النجم في الانكماش والانتفاخ.

  

نجوم متفجرة
تندرج عدة أنواع(6) من النجوم المتغيرة تحت فئة المتغيرات النابضة، وتعد الأشهر بين مجموعات النجوم المتغيرة، والنجوم في العموم، تختلف تلك المتغيرات باختلاف الكتل، النوع الطيفي، ومدد النبض كانت طويلة (عام مثلًا، كالمتغيرات من النوع ميرا) أو قصيرة (كالمتغيرات القيفاوية حتى 70 يوم، أو RV الثوريات من 20 إلى 100 يوم، أو الـ (RR Lyrae) والتي تتغير خلال نصف يوم إلى يوم ورُبع)، وقد تحدثنا عن اثنين منها في تقارير سابقة(7 ، 8) لذلك لا حاجة لنا للعودة إليها، وقد تتغير بعض النجوم العملاقة بدون نمط محدد فنسميها متغيرات غير منتظمة (Irregular Variable)، ما يهمنا الآن هو وضع المتغيرات النابضة بالنسبة للأنواع الأخرى من النجوم المتغيرة، لكي نفهم ذلك دعنا نتعرف إلى النوعين الأساسيين من النجوم المتغيرة.
  

النوع الأول(9) هو نجوم متغيرة أصلية (Intrinsic)، ويعني ذلك النجوم التي تتغير بطبيعتها، يتغير حجمها وبالتالي تتغير إضاءتها، أما النوع الآخر فهو المتغيرات غير الأصيلة (Extrinsic)، وهي النجوم المتغيرة التي تتغير لسبب آخر غير كونها تتغير بطبعها، كأن يكون هناك نجم آخر يدور حولها، ثم أثناء مروره أمامها بالنسبة لنا ينخفض قدر إضاءتها، تلك هي حالة نجم الشيطان (Algol)، وهي تدعى ثنائيات كسوفيه (Eclipsing binaries)، تعرضنا لها بالشرح الدقيق في تقرير سابق بعنوان: "راقصو الفضاء: نجوم ثنائية ترسم ملامح تطور الكون"، أو قد يرجع السبب لتغيرات في سطح النجم ذاته، فبعض النجوم تحتوي على بقع شمسية ضخمة (Sunspots) قد تواجهنا فتقل إضاءة النجم، أو قد تكون سرعة دوران النجم حول ذاته مهولة، أو يتواجد على مقربة شديدة من نجم آخر، بحيث يتخذ شكلًا بيضاويًا.

  

المتغيرات النابضة هي متغيرات أصيلة، كذلك تندرج مجموعة أخرى من النجوم تحت تلك المجموعة، وتسمى متغيرات ثائرة(10) (Eruptive Variables)، وهي مجموعة من النجوم التي يتغير لمعانها بسبب تغيرات في طبقتي الغلاف اللوني (Chromosphere) أو الهالة الشمسية (Corona) الخاصة بالنجم، أو قد يكون ذلك لسبب آخر دفع الرياح النجمية العاتية للانطلاق ربما حينما يبدأ النجم في فقد طبقاته الخارجية في نهاية عمره، أشهر تلك الأنواع ربما هي النجوم "ر- الإكليل الشمالي (R Coronae Borealis)"، وهي مجموعة من النجوم العملاقة صاحبة القدر الأكبر من الكربون والأقل من الهيدروجين.

     undefined

     

أما النجوم المتفجرة، المستعرات (Nova)، تلك التي يظهر خبر في المجلات والمواقع الفلكية من حين لآخر عن هاوي فلكي يكتشف أحدها، فهي فئة من المتغيرات النابضة التي ندعوها "المتغيرات الكارثية (Cataclysmic variables) وقد تعتبر فئة خاصة من النجوم المتغيرة أو تندرج تحت المتغيرات الثائرة، وما يحدث هنا هو أن يكون هناك نجمان يدوران حول بعضهما البعض، نجم مزدوج أقصد، لكن يتحول أحد الرفيقين إلى قزم أبيض في نهاية عمره بينما لا يزال رفيقه في مرحلة العملاق الأحمر المتضخم، هنا سوف يتجاوز هذا العملاق بينما تتضخم منطقة حيّز روش(11) الخاص به، فيقوم رفيقه القزم الأبيض بسحب المادة من هذا العملاق الأحمر بسرعة شديدة.

  

ومع تراكم مادة العملاق الأحمر على رفيقه القزم وارتطامه السريع به يبدأ الهيدروجين في إحداث تفاعلات نووية سريعة ومفاجئة مما يتسبب في انفجار نجمي نسميه نجم جديد (Nova)، ليرتفع قدر النجم من 7 إلى 16 درجة لمدة يوم إلى عدة مئات من الأيام، ثم بعد ذلك يعود لحالته الطبيعية، بعض المستعرات يمكن رؤيتها بالعين المجردة ويتم التنويه لها من حين لآخر في الصفحات والمواقع الفلكية الشهيرة.

   

أما إذا ازداد كم المادة المنقولة من العملاق الأحمر إلى رفيقه الأبيض عن حد معين (يُدعى حد تشاندراسيخار(12) (Chandrasekhar)، ويساوي تقريبا أن تصل كتلة القزم الأبيض إلى 1.44 كتلة شمسية، فإنه ينفجر محدثا ما نسميه "مستعر أعظم" (Supernova)، نسميه تحديدا "مستعر أعظم من النوع Ia"، وسوف نفرد للمستعرات العظمى تقريرًا منفصلًا يشرح أنواعها بتفصيل أكبر، يمكن لنا من شدة لمعان تلك المستعرات العظمى أن نراها تحدث في مجرات بعيدة، ويكون حدث المرة في القرن حينما نراه هنا على الأرض.

  

فلكي في المنزل
حينما تشارك بتقريرك، أو برصدك للنجوم المتغيرة، فأنت بالفعل قد شاركت مع آلاف الباحثين في العالم على إمداد الرابطة بكم بيانات ضخم وفعّال
حينما تشارك بتقريرك، أو برصدك للنجوم المتغيرة، فأنت بالفعل قد شاركت مع آلاف الباحثين في العالم على إمداد الرابطة بكم بيانات ضخم وفعّال
 
حسنًا، كان ذلك استعراضًا غاية في البساطة للنجوم التي تغمز في السماء، وكان كذلك مقدمة مخمة لأحد أمتع وأهم المناطق التي يمكن لهواة علوم الفلك أن يشاركوا بها في البحث العلمي، عن طريق استكشاف أو تتبع النجوم المتغيرة، فهناك كما قلنا أكثر من 150 ألف نجم معروف منها وآلاف أخرى في الانتظار، بذلك لا يستطيع العلماء والباحثين في المراصد وحدهم تتبع كل ذلك القدر من النجوم، هنا يأتي دورك.
          

كل ما تحتاجه هو التسجيل في موقع الرابطة الأميركية لراصدي النجوم المزدوجة "أيه أيه في إس أو" (AAVSO)، تجده في المصادر(13)، والمشاركة بكل الطرق الممكنة، حيث يمكن لك رصد النجوم المتغيرة وقياس تغيرها في جداول خاصة بالرابطة، عن طريق تلسكوبك أو حتى نظارة معظمة، ثم توثيق تلك الجداول في قاعدة بياناتها، وهذا هو أروع ما يمكن أن تقوم به، وقد تكتشف نجما متغيرا جديدا ويمكن لك نشر ورقة بحثية باسمك في مجلة مرموقة عبر الرابطة، لكن ذلك بالفعل يحتاج درجة عالية جدًا من الحرفية وسنوات من التمرس والتعلم في مختلف المجالات المتعلقة، مع أدوات غالية الثمن بالطبع للرصد والتصوير وتحليل البيانات، هنا تتدخل الرابطة لتعليمك ما تود أن تتعرف عليه، مع ترشيحك لبعض المساقات. أو أن تتخصص في تحليل البيانات، بمراقبة آلاف من الصور والجداول وتحديد تغير النجوم الخاص بها، عبر مقارنة النجم محل الاهتمام بآخر غير متغير، هنا تعطيك المؤسسة مقدمة متخصصة في مجال تحليل البيانات، وتعطيك النماذج الورقية الرئيسية التي سوف تعمل من خلالها، مع تمرين لعدة أيام حتى تصبح قادرًا على إدخال البيانات عن النجوم بمفردك، أو يمكن لك فقط أن تشارك في النقاشات بمنتديات الرابطة، أو كتابة تدوينة أو مقال، أو أي شيء آخر، لدعم العمل بعلم الفلك.

  

ولمزيد من التعرف إلى عالم النجوم المتغيرة سوف تجد أطلسًا ضخمًا ومفصلًا  خاصا بالرابطة، كذلك مجموعة من الدلائل المهمة والمبسطة لمساعدتك في التعرف على النجوم المتغيرة مع كيفية رصدها وكيفية ملئ البيانات الخاصة بك، كذلك لتجهيز نفسك تعرض كل من مجلة (Astronomy) أسترونومي ومجلة سكاي اند تلسكوب (Sky & Telescope) -أشهر مجلات علم الفلك-  قائمتين مثيرتين للانتباه للمبتدئين بالعين المجردة أو بتلسكوبات متوسطة وصغيرة.

         undefined

      

يمكن أيضًا أن تلقي نظرة على ثلاثة كتب مهمة للمبتدئين في هذا السياق، الأول هو أسهلها للمبتدئين، ويمكن الحصول عليها جميعًا بسهولة عبر الويب، خاصة الثاني من موقع (Springer) المفتوح مجانًا بمصر:

Observing Variable Stars: A Guide for the Beginner – David Levy , Janet A. Mattei

Observing Variable Stars – Gerry A. Good

David Levy’s Guide to Variable Stars

    

تعمل تلك المهام المتعددة والمحددة التي يتعلمها كل منضم للعمل كمواطن عالم(14) (Citizen Scientist) في رابطة راصدي النجوم المتغيرة على وضع معايير واحدة لكل حالات الرصد في العالم مما يحسن من جودة النتائج ودقتها وسهولة معالجتها ويقلل من معاملات الخطأ، سوف يمدك موقع الرابطة بكل الأدوات الممكنة: الشرح، الخرائط، النماذج القابلة للطباعة، أخبار الراصدين الآخرين، الصور والفيديوهات المتعلقة، كي تحقق رصدا احترافيا ويصبح تقريرك عن النجوم المتغيرة هو بحث علمي رصين، أو يتحول بالفعل إلى بحث رصين.

    

وحينما تشارك بتقريرك، أو برصدك للنجوم المتغيرة،  فأنت بالفعل قد شاركت مع آلاف الباحثين في العالم على إمداد الرابطة بكم بيانات ضخم وفعّال. فيما بعد يقوم باحثون آخرون بدراسة كل تلك البيانات والبحث عن أنماط محددة سوف تساعدنا على تحقيق فهم أفضل للنجوم المتغيرة وأنواعها مما سوف يساعد على دراسة أفضل للكون وتكوينه، أنت بالفعل تشارك في بحث علمي حقيقي عندما -فقط- تستمتع برصد بعض النجوم، أليس ذلك رائعًا؟

المصدر : الجزيرة