شعار قسم ميدان

نوبل للفيزياء 2017.. آينشتاين ينتصر مرة أخرى

A combo made October 10, 2017 of file photos taken on December 09, 2016 in Washington, shows (LtoR) Rainer Weiss, Barry Barish and Kip Thorne, who won the Nobel Physics Prize 2017 for gravitational waves, the Royal Swedish Academy of Sciences announced October 10, 2017 in Stockholm. / AFP PHOTO / MOLLY RILEY (Photo credit should read MOLLY RILEY/AFP/Getty Images)

"لقد تعلمت شيئًا واحدًا في حياتي الطويلة، وهو أن كل العلم الذي صنعناه، حينما يُقارن بالواقع، فهو بدائي وطفولي، لكن رغم ذلك فهو أدق شيء تمكننا من الحصول عليه"
  (ألبرت آينشتاين(1))

 

حسنًا، لم تكن نوبل فيزياء 2017 متوقعة كما قال الكثيرون، بل كانت أمنية، فما نعرفه اليوم، فقط بعد سنتين من اكتشاف الحالة الأولى(2) في (سبتمبر/ أيلول) 2015، هو أن هناك نافذة جديدة تمامًا قد انفتحت لنا لتكشف ما ظل طوال فترة طويلة جدًا -وهنا نتحدث تاريخنا كلّه كبشر- مجهولًا بالنسبة لنا، حتى إن ألبرت آينشتاين نفسه حينما توقع وجود تلك التموجات في نسيج الزمان والمكان (الزمكان) أشار إلى أنها شيء من الدقة بحيث ربما سوف يظل مجهولًا للأبد، لكن آينشتاين أصاب وأخطأ في نفس الوقت، أصاب في التنبؤ بوجودها عبر معادلات النسبية العامة خاصته، وأخطأ في تصور أننا لن نُمسك بها، وقد فعلنا.

وخلال الأسبوع الجاري، أعلنت هيئة جائزة نوبل عن فوز(3) كل من راينر وايز (Rainer Weiss) من معهد ماساتشوستس العالي للتكنولوجيا (نصف الجائزة) وباري باريش (Barry C. Barish) مع كيب ثورن (Kip S. Thorne) (النصف الآخر)، من معهد كالتيك، بجائزة نوبل في الفيزياء للعام 2017، عن مساهماتهم الحاسمة في ابتكار مرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري (Laser Interferometer Gravitational Wave،) يسمى اختصارًا (LIGO)، والذي تمكن من رصد موجات الجاذبية (Gravitational Waves) الصادرة من اصطدام أجرام سماوية غاية في البعد، الثقوب السوداء مثلًا، لكن، ماذا تعني كل تلك الاصطلاحات المعقدة؟

 
 

آينشتاين ينتصر مرة أخرى

دعنا، كالعادة، نبدأ من ألبرت آينشتاين، حيث تعدل النظرية النسبية في فهمنا لما تعنيه اصلاحات كـ "زمان" و"مكان" فتقوم بدمجهما معًا فيما نسميه "الزمكان (Space-Time)"، وذلك أمر صعب الفهم قليلًا، لكن تخيل معي أن هذا الكون هو قطعة قماش لينة لكن ضخمة جدًا مشدودة الأطراف من كل الحوانب، الآن يمكن أن تمسك بكرة حديدية كتلتها خمسة كيلوغرامات وتضعها في أي مكان بهذه القطعة، ما سوف يحدث هنا هو أن ينحني نسيج القماش للأسفل بفعل ثقل الكرة الحديدية.

تتسبب الكرة الحديدية في انحناء القماشة كما تتسبب الكواكب في انحناء الزمكان (مواقع التواصل)
تتسبب الكرة الحديدية في انحناء القماشة كما تتسبب الكواكب في انحناء الزمكان (مواقع التواصل)

 

تلك الكرة هي أي جرم له كتلة، نجم مثلًا أو ثقب أسود أو حتى كوكب ما، أما تلك القماشة فهي نسيج الزمكان، وفي تلك النقطة تحدث البلبلة للقارئ بسبب مشكلتين، الأولى عمّا يعنيه الأمر حينما نقول إن الزمن والمكان مركبان في نسيج واحد، والثانية عن شكل تلك القماشة الكونية، كيف نراها أو كيف نتخيلها؟ لكن إجابة كل من هذين السؤلين تتعلق بشيء واحد فقط(4)، وهو مشكلاتنا البديهية مع تصور كيفية عمل الأمور في الطبيعة.

 فيديو يوضح فكرة الزمكان

فمثلًا، الزمكان هو النسيج الذي يصنع الكون، الزمكان هو الكون نفسه، وأي جرم سماوي، كان كوكبًا أو نجمًا أو أنا وأنت، يعيش بداخل هذا النسيج، لكن ليس بالطريقة التي تعيش بها قطتك في خزينة خشبية صغيرة بجانب سريرك، لأن تلك هي قطة ثلاثية البعد (لها طول وعرض وارتفاع) تعيش في خزينة ثلاثية البعد (لها أيضًا طول وعرض وارتفاع)، أما وجود نجم ما في نسيج الزمكان فيعني وجوده ضمن كيان رُباعي البعد، دعنا نتصور تاريخ الكون كاملا من لحظة الانفجار الكبير كقطعة كيك ضخمة، كل شريحة نقطعها من هذه القطعة تمثل الكون كله في لحظة محددة، بهذا الشكل يتداخل الزمان مع المكان.
 

لكن لاحِظ أننا لا ندرك هذا الانحناء لأننا في بُعد أقل (مواقع التواصل)
لكن لاحِظ أننا لا ندرك هذا الانحناء لأننا في بُعد أقل (مواقع التواصل)

 

ولأننا نعيش في هذا البعد الثالث، الذي يمثل كل شيء نعرفه، بما في ذلك خلايانا وتموضع الذرات المكونة لأجسامنا، بل ويمثل إدراكنا ذاته، فإنه لا يمكن لنا إدراك الأبعاد الأعلى، نحن لسنا فقط بداخلها، لكن إدراكنا ذاته بداخلها، لذلك فإن قطعة القماش هي فقط نموذج نستخدمه لشرح فكرتنا عن آلية تأثير الأجسام ذات الكتلة على نسيج الزمكان اللين، هذا يحدث بالفعل، لكن ليس بذلك الشكل، كالعادة هناك رياضيات معقدة تشرح كيفية عمل ذلك، في تلك النقطة يمكن لك أن ترجع إلى تقرير سابق لكاتب المقال عن "كيف نتخيل البعد الرابع؟".
 

undefined

 
ما هي موجات الجاذبية

جميل جدًا، الآن نفهم أن الكتلة تتسبب في انحناء نسيج الزمكان، لكن، أين موجات الجاذبية التي تتحدثون عنها في هذا السياق؟ هنا سوف يبدأ العنف، فتلك الكرة الحديدية التي تسكن الآن بهدوء فوق النسيج اللين ربما لن تصدر أية ضوضاء مع تحركاتها البسيطة عليه، لنقل مثلًا إنك تقف الآن على بعد عشرين مترًا منها وتضع أصبعك على القماشة لتتحسس أي تردد أو اهتزاز فيها، فمهما تحركت الكرة على القماشة لن تشعر بشيء على هذا البُعد، لكن ماذا لو، من الأعلى، جئنا بكرة إضافية وضربناها بقوة في الكرة الساكنة بالأسفل؟

 
بالضبط، سوف يهتز ذلك النسيج، حتّى إنك لو كنت واقفًا على مسافة كبيرة لكن أصابعك سوف تتستشعر اهتزازًا في نسيج القماشة، الآن نصل إلى موجات الجاذبية، حيث تتنبأ النسبية العامة بأنه في بعض الحالات الكونية شديدة التطرف، كارتطام الثقوب السوداء أو النجوم النيوترونية ببعضها البعض، أو كانفجارات النجوم التي نسميها "المستعرات العظمى5 (Supernova)"، يتسبب ذلك الاضطراب الشديد في صنع موجات تسري بنسيج الزمكان، تلك القماشة، ويشبه الأمر أن تُلقي بصخرة في حوض كبير به ماء فتنشأ من أثر ذلك موجات، لكن سعة الموجة الجذبوية ليست كموجة ماء، بل هي أقل في الحجم من قطر الذرة بحوالي مليار مرّة، لكن، مع تلك القوة، أليس من المفترض أن تكون تلك موجة قوية؟

undefined

لنفهم ذلك يجب أن نتجهز لرحلة كونية طويلة، حيث سوف نسافر معًا لمسافة 1.3 مليار سنة ضوئية، لندور حول ثقبين أسودين شاءت الظروف أن يدورا حول بعضهما البعض، ربما لملايين طويلة من السنين، لكن أول شيء سوف نلاحظه هنا هو أن هذين الثقبين الأسودين يقتربان ببطئ من بعضهما البعض، سوف يصطدمان بعد قليل ثم في جزء من الثانية يصبحان كيانًا واحدًا.

كتلتي الثقبين الأسودين هنا(6) هما 29 مرة كتلة الشمس و36 مرة كتلة الشمس، وما يحدث أن اندماجهما يصنع ثقبا أسودا واحدا كتلتة 62 مرة كتلة الشمس، لكن، أليس من المفترض أن يكون المجموع أكبر من ذلك حينما نجمع الكتل؟ فعلًا، لكن هناك ثلاث كتل شمسية كاملة قد تحولت إلى طاقة، هذه الطاقة حملتها موجات الجاذبية الخارجة من تصادم الثقبين الأسودين معًا، ورغم أنه قدر كبير من الطاقة حتى إننا لا نستطيع تخيّله، لكن موجات الجاذبية – كموجات الضوء – تضعف كلما طالت المسافة، وهي مسافة طويلة للغاية، تنخفض خلالها سعة تلك الموجات حتى تصل إلى هذا الحجم.

undefined

 
الآن نفهم لم يتطلب الأمر حدثا عظيما وكارثيا كارتطام الثقوب السوداء لكي نتعرف إلى الموجات الجذبوية، ذلك أن كل شيء في الكون بالفعل يتسبب في موجات جذبوية، لكننا نحتاج لحدث عنيف يولّد طاقة جذبوية عنيفة يمكن لها أن تسافر عبر كل تلك المسافة الشاسعة إلى هنا ونلتقطها حينما تصل، إذا امتلكنا يومًا ما القدرة على رصد كل موجات الجاذبية بكل السعات فإن الكون سوف يبدو لنا كغابة ضخمة جدًا مسكونة بعدد مهول من العصافير التي تزقزق كل منها بإيقاع خاص به، معًا في نفس الوقت.
 

الآن.. لنمسك بها

موجات الجاذبية ليست موجات كموجات الضوء، موجات الضوء تجري بداخل الفضاء، أما موجات الجاذبية فتجري في نسيج الفضاء ذاته، ويعني ذلك أن كل شيء يهتز بسببها لأن كل شيء يتواجد داخل الزمكان، يمكن إذن أن نتمكن من استخدام تلك الفكرة الخاصة باهتزاز الأشياء في رصد تلك الموجات، هنا قرر فريق نوبل 2017 أن يبدأ من جهاز معروف من قبل يسمى "مقياس التداخل(7) (Interferometer)"، وهو أن تستخدم مرآة نصف عاكسة (مرآة تعكس بعض الضوء وتمرر البعض الآخر) لتفريق شعاع الضوء إلى خطي سير متساويين في الطول تمامًا بدقة شديدة للغاية ومتعامدين معًا بدقة شديدة للغاية، ثم الانعكاس على مرايا دقيقة في نهاية كل مسار، والعودة مرة أخرى إلى المصدر، لفهم ذلك بشكل أفضل دعنا نتأمل هذا الإنفوغراف.
  

undefined

  
نحن نعرف أن الضوء يتكون من موجات كموجات الماء، تلك الموجات لها قمم وقيعان، حينما يعود الضوء من هذين المسارين المتساويين في الطول بدرجة دقة لم يشهدها العالم من قبل، تلتقي قمم ويعان الشعاع الضوئي القادم من الأنبوب الأول مع القادم من الأنبوب الآخر المتعامد عليه، يتسبب ذلك في أن تمحو كل موجة منهما أثر الآخرى، ويعني ذلك أن الجهاز الكاشف لن يستقبل أي شيء، لكن إن كانت موجات الجاذبية موجودة، فإنها سوف تمط/تطيل أحد ذراعي "لايجو"(8) بقيمة صغيرة للغاية، وسوف تتسبب في انكماش الآخر، بسبب تأثيرها على نسيج الزمكان.

بالتالي سوف يختلف طول مساري شعاع الضوء في الأنبوبتين، هنا لن تلتقي القمم والقيعان بحيث يمحو كل منهما أثر الآخر، بل سوف يتسبب ذلك في وجود بقايا من الضوء لتمر عبر الجهاز الكاشف والذي يحللها ومن خلال قراءة هذا الفارق يحدد، ليس فقط وجود موجات الجاذبية، لكن أيضًا مدى اتفاق تلك الموجات مع فارق الكتلة، ثلاث كتل شمسية، التي خرجت من ثقبين أسودين قبل 1.3 مليار سنة ضوئية، ثم وصلت إلينا في (سبتمبر/أيلول) 2015.
 

نافذة جديدة على الكون

إبداع فريق نوبل ليس إذن في هذه الآلية بقدر ما هو في مدى الدقة التي وصلت لها تلك التقنيات، قوة وضبط شعاع الليزر، ضبط المرايا، ضبط طول المسارات، ضمان عدم حدوث أي اهتزاز، حتى إن طفلا صغيرا يلعب في مكان قريب هو أمر يجب الانتباه له، إن مرصد موجات الجاذبية هو أدق مصيدة في تاريخ البشر، لذلك اتخذ الآمر أربعين عامًا كاملة من الضبط والتجريب وإعادة الضبط وإقامة مشروع كامل بأكثر من ألف عامل بين عالم ومهندس ورجال إدارة ثم صنع نسخة أخرى منه على بعد 3000 كيلومتر من أجل مقارنة النتائج، فقط لالتقاط تلك الموجات الدقيقة.

صورة حقيقية لمرصد لايجو بطول 4 كيلومترات لكل أنبوبة منهما (مواقع التواصل)
صورة حقيقية لمرصد لايجو بطول 4 كيلومترات لكل أنبوبة منهما (مواقع التواصل)

  

على مدى السنتين السابقتين استطاع لايجو الإمساك بأربع (9، 10، 11) حالات اصطدام ثقوب سوداء بنجاح، كانت الأخيرة قبل عدة أشهر فقط حينما التقطت النسخة الأوروبية من المرصد اصطدام (VIRGO) أربعة ثقوب سوداء معًا، تجري الآن الإعدادات لتطوير نسخ جديدة أكثر دقة وأكثر عددًا لتمكيننا من رصد كم أكبر من موجات الجاذبية، ربما في تلك النقطة من رحلتنا معًا سوف تسأل: وما الذي يفيد هنا؟ إنه مرصد مثل بقية المراصد، أليس كذلك؟

لا، لقد عودتنا التلسكوبات الكلاسيكية بكافة أنواعها أننا لا يمكن أن نرصد إلا فقط الأجرام التي تشع، كانت نجمًا، كوكبًا، سديم، أو مجرة، يجب أن يشع الجسم في أي نطاق من الطيف الكهرومغناطيسي (الضوء، الأشعة السينية، تحت الحمراء أو فوق البنفسجية مثلًا) حتى نستطيع الإمساك به، إذا كان الجرم الذي نرصده لا يشع أي شيء لن نتمكن أبدًا من رصده، هنا يأتي لايجو لينتهج آلية جديدة، فهو لا يرصد إشعاع الجرم السماوي، وإنما يرصد أثره الجذبوي على الزمكان رباعي البعد.

سوف تفتح تلك التقنية الجديدة والمختلفة كليًا النافذة(12) إلى مستوى مختلف من الرصد، سوف نتمكن من التعرف بدرجة دقة أعلى على آليات عمل الثقوب السوداء، النجوم النيوترونية، الاضطرابات الكمومية في بدايات الكون، الانفجار العظيم بأول تاريخ الكون، والثقوب السوداء في باطن المجرات، كذلك سوف نتمكن من رصد أحد أكثر أسرار الكون التي نعرفها غرابة إلى الآن، وهي المادة المظلمة مثلًا والتي لا نستشعر إلا أثرها الجذبوي فقط.

  
ها نحن من جديد، كبشر، نرسم خريطة جديدة تمامًا للكون، يشبه الأمر أن يكون أحدهم أعمى ثم يبصر، حيث يعطينا العلم من الأدوات، يومًا بعد يوم، ما يمكننا من فهم طلاسم الكون بأعلى درجات التعقيد، لتفهم معي ما أقصد تخيل أن هناك شابًا، في ليلة شتوية باردة، مع قلم وعدة ورقات بيضاء وكم ضخم من المراجع وسبّورة ربما لتسجيل النتائج، يجلس على كرسي مكتبه الخشبي ليبتكر معادلات جديدة تتوقع وتصف ظواهر لم نكن لنتصور وجودها لها قُطر أصغر آلاف المرات من قطر الذرة، تبتعد عنّا آلاف التريليونات من الكيلومترات، ولن نتوصل لها سوى بعد مائة عام من توقعاته، هل ترى؟

المصدر : الجزيرة