شعار قسم ميدان

هل اكتشفنا دليلا تجريبيا على تصادم أكوان متوازية؟

midan - space

أثارت ورقة علمية منشورة(1) حديثا الانتباه من جديد حول ما نسميه "البقعة الباردة" (Cold Spot)  الموجودة في إشعاع الخلفية الميكروي، حيث افترض فريق بحثي بقيادة رواري ماكنزي (Ruari Mackenzie) من جامعة درم ببريطانيا (Durham University) أن سر وجود هذه البقعة الغاية في الضخامة هو اصطدام سابق بين كونين متوازيين، فتحت الفرضية الباب من جديد لنقاش عدة أفكار حول أصل الكون وأسباب ظهوره بهذا الشكل الذي نراه الآن، وحول ما وصلت إليه الفيزياء حاليا، وما تواجهه من مشكلات، لكن دعنا قبل الخوض في كل ذلك نبدأ بإجابة أول سؤال سوف يطرأ على بالك: بقعة باردة، أكوان متوازية، إشعاع خلفية! ما الذي يعنيه كل هذا التعقيد؟

 

إلى نقطة الصفر
حسنا، لنبدأ مما نتصور أنه نقطة الصفر، الانفجار العظيم(2) (Big Bang)، إنه أكثر الفرضيات التي نمتلكها قبولا إلى الآن، والتي تقول إن الكون كله نشأ من نقطة واحدة غاية في السخونة توحدت فيها كل قوى الكون الأربعة ثم حدث هذا الانفجار الذي صنع كل ما نراه الآن من النجوم والغاز والغبار والمجرات والأزمة الخليجية والموسم السابع من صراع العروش وأنا وأنت وفينسنت فان جوخ، لكن يجدر هنا أن نذكر أن اصطلاح "الانفجار العظيم" ليس دقيقا بقدر ما هو سينمائي الصبغة، حيث لا انفجارات حدثت هنا، ولكن فقط هناك ظهور للمكان والزمان(*) كما نعرفه، تمدد للكون الواسع، لكل نقطة في تكوينه، يشبه الأمر أن يكون لديك خط ما مرسوم على ورقة، على هذا الخط توجد علامات على عدة مسافات متساوية، تمدد الكون هو ابتعاد لكل علامة -كل علامة- عن جارتيها وظهور لعلامة جديدة بين كل علامة وعلامة من تلك العلامات.

 

تمدد الكون لا يحدث من نقطة مركزية، وإنما يحدث في كل مكان، يتولد فضاء كأن هناك ماكينة تخلق قطعة جديدة من الفضاء بين كل قطعة وقطعة منه  (الجزيرة)
تمدد الكون لا يحدث من نقطة مركزية، وإنما يحدث في كل مكان، يتولد فضاء كأن هناك ماكينة تخلق قطعة جديدة من الفضاء بين كل قطعة وقطعة منه  (الجزيرة)

 

على مدى حوالي 380 ألف سنة من بعد الانفجار العظيم لم تكن درجات الحرارة العالية للغاية لتسمح بأن تتكون الذرات الأولى، لكن فقط كنّا أمام حساء جسيمات (Particle Soap)، جسيمات منفصلة عن بعضها البعض هائمة في كل مكان بالكون الوليد، بعد ذلك حينما اتسع حجم الكون فانخفضت درجة حرارته قليلا تكوّنت البروتونات والنيوترونات الأولى من الكواركات، ثم انخفضت الحرارة أكثر بسبب توسّع الكون فتكونت أنوية الذرات الأولى من البروتونات، ثم في النهاية اتحدت الإلكترونات السابحة مع الأنوية لتكون الذرات الأولى، هنا بدأ الكون في مستوى جديد من اللعبة.

 

قبل تكون تلك الذرات الأولى كانت تلك الإلكترونات السابحة تعمل كأنها حاجز يمنع الفوتونات من الانطلاق، يشبه الأمر أن تحاول تمرير شعاع ليزر عبر برطمان من الكرات الحديدية الصغيرة جدا، هذه الكرات -بتبسيط مخل لكن فقط بغرض الفهم- هي الإلكترونات التي اصطدمت بكل فوتون يود أن يمر، في اللحظة التي تكونت فيها الذرات الأولى نقول إن الكون قد انتقل من الحالة المعتمة للحالة الشفافة، حيث اختفت الكرات الحديد من البرطمان ومر شعاع الليزر بسلام.

 

في تلك النقطة من تاريخ الكون انطلقت الفوتونات الأولى في طريقها ناحيتنا مع تمدد الزمكان الكوني، ثم استطعنا التقاطها حينما وجّهنا تلسكوباتنا الماسحة إلى كل مكان في السماء، لتكوّن ما نسميه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي(3) (Microwave Background)، لكن يجب هنا أن نلاحظ أن هذا الإشعاع لا يمكن رؤيته في نطاق الضوء المرئي، فمع التمدد المستمر للكون تتمدد كذلك موجات الضوء المنطلقة في الفضاء منذ 13.5 مليار سنة عبر الانزياح الأحمر الكوني (Cosmological Red Shift) لتنتقل إلى نطاق الميكروويف من المجال الكهرومغناطيسي، خلال ذلك كلّه تجمعت المادة -الذرّات الأولى- معا لصنع المجرات الأولى وليستمر الكون في خطوه، تلك النقطة تحديد عن تكوّن المجرات الأولى قد تحدثنا عنها بشكل مفصّل في تقرير سابق بعنوان "كيف تكوّنت المجرات الأولى(4)".

  

إشعاع الخلفية الميكروي للسماء كلها، كما تلاحظ فهناك لطخات ملونة تتراوح بين الأحمر والأزرق الداكن، راقب اللطخة الكبيرة إلى اليمين بالأسفل، تلك هي البقعة الباردة (مواقع التواصل)
إشعاع الخلفية الميكروي للسماء كلها، كما تلاحظ فهناك لطخات ملونة تتراوح بين الأحمر والأزرق الداكن، راقب اللطخة الكبيرة إلى اليمين بالأسفل، تلك هي البقعة الباردة (مواقع التواصل)

 
جميل جدا، الآن نعرف ما هو إشعاع الخلفية الميكروي، تراه في الصورة المرفقة لكافة أجزاء السماء، دعنا نتأمله قليلا، هل تلاحظ تلك البقعة المشار إليها بالدائرة؟ تلك هي ما نسميه البقعة الباردة
(5)، ربما إن كانت تلك هي المرة الأولى التي تتعرف فيها إلى إشعاع الخلفية فلن تلاحظ أي اختلاف بينها وبين تلك التدرجات العشوائية بين الأحمر والأزرق، والتي تمثل تدرجا في درجات الحرارة، كأي شيء فإن إشعاع الخلفية هو طيف حراري، يشبه الأمر أن تشعل الفُرن في المنزل فتبدأ بعض قضبانه في التوهج بسبب الحرارة، هذا هو ما نلتقطه من إشعاع الخلفية الكونية لكن في نطاق الميكروويف وفي درجة حرارة 2.7 فوق الصفر المطلق (- 273 مئوية هو الصفر المطلق)، أما الأحمر والأزرق هنا لا يعبران عن فارق حرارة كبير كما تتصوّر.

 

أكبر شيء في الكون
يتصور العلماء أن تلك الحالة من الاختلاف والعشوائية في توزيع إشعاع الخلفية جاءت نتيجة للتموجات الكمومية(6) (Quantum Fluctuations) مع بداية الكون والتي تم تضخيمها مع مرحلة التضخم الكوني(7)  (Inflation)، وتتراوح درجات الحرارة بين تلك البقع حول ما يقترب من 20 ميكرو كلفن (زيادة أو نقصانا) بين بعضها البعض (الميكرو كلفن يعني 1 من المليون من الدرجة الكلفنية)، لكن تلك البقعة خاصة من إشعاع الخلفية الميكروي تنخفض عن المتوسط بحوالي 70 ميكرو كلفن وفي بعض النقط عن المتوسط بقيمة 150 ميكرو كلفن كاملة!
   
البقعة الباردة (مواقع التواصل)
البقعة الباردة (مواقع التواصل)

  
هذا هو ما يجعلها تستحق كل ذلك الاهتمام، فرغم كون ذلك الفارق في درجة الحرارة ضئيلا فإنه لم يكن من المفترض أن يكون موجودا -إلا ربما في واحد من كل خمسين كون-، خاصة حينما نعرف أن قطرها كاملة -بما في ذلك الهالة المحيطة- في السماء هو 20 درجة (القمر قطره نصف درجة في السماء)، لقد ظن العلماء في البداية أنها مشكلة أجهزة الرصد المستخدمة، لكن المركبة بلانك في 2013 أكدت وجود تلك البقعة بتلك المقاييس، ما يعني أننا أمام مساحة من الكون عرضها حوالي بليون ونصف سنة ضوئية ربما، نجدها تجاه كوكبة النهر (Eridanus)، إنه أكبر شيء نعرفه في الكون كله، ويقع على مسافة 6-10 مليار سنة ضوئية منّا، ما هذا الشيء العجيب؟

 

في 2006 ظهرت أوّلى الدراسات(8) التي تشرح سبب وجود تلك البقعة الغامضة في تلك المنطقة من إشعاع الخلفية الميكروي، وتقترح تلك الفرضية أن هناك ما ندعوه "فراغا عملاقا" (Supervoid) قد اعترض طريق تلك الفوتونات المنطلقة قبل 13.5 مليار سنة تقريبا، لفهم ذلك يجب أن نتعلم قليلا عن نقطتين أساسيتين، الأولى تعرّفنا إليها في مقال سابق(9) عن تكوّن المجرات الأولى، حيث إن الفضاء كما اتضح ليس كيانا متجانسا تتساوى فيه كثافة المجرات في كل نقطة، لكن ربما بسبب المادة المظلمة انضغطت المادة -المجرات- في الكون للتجمع بالمقام الأول في أشكال خيطية ما بينها فجوات كالأسفنج، كانت تلك الدفعة هي ما جمع الغاز والغبار الكوني المبكر مع بعضه البعض، بسبب ذلك الاندفاع تكونت مناطق كانت فيها كثافة المادة أكبر من غيرها، تكدست كمّيات الغاز والغبار معا لتصنع النجوم ثم المجرات الأولى، هذا هو ما نسميه الهيكل واسع النطاق (Large Scale Structure) للكون. الفجوات، تلك المناطق التي تنخفض فيها كثافة المجرات بشكل شديد، هي إذن ليست ظاهرة نادرة في الكون بل هي الشيء الطبيعي، لكن كيف يفسر ذلك برودة تلك المنطقة عن جيرانها في إشعاع الخلفية الميكروي؟

   

الهيكل واسع النطاق (Large Scale Structure) (مواقع التواصل)
الهيكل واسع النطاق (Large Scale Structure) (مواقع التواصل)

   

هنا ننطلق إلى النقطة الثانية في رحلتنا لفهم تلك الفرضية، وهي تعتمد على ما ندعوه تأثير ساكس-وولف المتكامل(10) (integrated Sachs-Wolfe (ISW) effect)، لفهم تلك النقطة دعنا نتصور أن تلك الفوتونات العابرة للكون والتي انطلقت في وقت مبكر من تكوينه هي رياضي يرغب في تسلق جبل ضخم، نحن -تلسكوباتنا هنا على الأرض- هي قمة هذا الجبل، وبالأسفل هي اللحظات الأولى التي انطلقت فيها تلك الفوتونات قبل 13.5 مليار سنة تقريبا، يحتاج هذا المتسلق طبعا إلى الطاقة لكي يستمر في رحلته، وهو يستمد تلك الطاقة من شيء واحد فقط في الكون، القوى الجذبوية للمادة التي يمر من خلالها، فكلما مر هذا المتسلق -الفوتون- بتجمع للمجرات يكتسب قدرا عاليا من الطاقة لدفعه، وحينما يخرج من هذا التجمع يفقد جزءا من طاقته بسبب مقاومته لقوة جذب هذا التجمع في خلفيته، لكن هناك إضافة.

 

إذا كان تمدد الكون يحدث بشكل متسارع فيعني هذا أن كثافة المادة حول هذا الفوتون أثناء دخوله إلى التجمع المجري تختلف عنها أثناء خروجه منه، سوف تكون أقل كثافة بالطبع أثناء الخروج لأن الكون سوف يكون قد تمدد وابتعدت المجرات عن بعضها، بالتالي سوف يحصل الفوتون على قدر من الطاقة في أثناء دخوله إلى التجمع المجري، لكنه يفقد قدرا أقل في أثناء خروجه من التجمع، فارق هذا القدر من الطاقة هو ما يظهر -كما تقول فرضية الفراغ العظيم- كبقع ذات حرارة مرتفعة في إشعاع الخلفية الميكروي، لكن ماذا عن المناطق الباردة؟

  

undefined

 

هنا يحدث العكس، حينما يدخل هذا الفوتون إلى فراغ بين تجمعات المجرات يفقد قدرا من الطاقة بسبب جذب التجمع في الخلفية له، ببساطة لأنها كمتسلق الجبل يفقد طاقة ولا يجد جاذبية لتغذيه، فهو في الفراغ الآن، لكن هذا الفوتون حينما يخرج من الفراغ ويدخل في تجمع مجري جديد لا يكتسب نفس القدر من الطاقة الذي فقده قبل الدخول إلى الفراغ للسبب نفسه، وهو أن الكون قد تمدد عن آخر مرة التقى فيها بتجمعات مجرّية وابتعدت المجرات عن بعضها، نود هنا أن تلاحظ أن عبور تجمع مجرات أو فراغ ما بينها قد يستلزم فترة زمنية طويلة للغاية، نتحدث عن مئات الملايين من السنوات هنا.

 

تقول فرضية الفراغ العظيم هنا أن تلك الفروق في قيمة الطاقة بين الشد والجذب أثناء سفر الفوتون قد لا تكون ملحوظة في الوقت الحالي، لكن في أوقات تسببت فيها الطاقة المظلمة في إحداث تسارع في تمدد الكون -قبل حوالي خمسة مليارات من الأعوام حينما دخل الكون ما نسميه "حقبة سيطرة المادة المظلمة"(11) (dark-energy-dominated era)- سوف تظهر تلك التأثيرات بشكل أكثر وضوحا، وهو ما يرى واضعو فرضية الفراغ العظيم أنه حدث بالفعل عندما عبرت فوتونات قادمة من البقعة الباردة فراغا عظيما فتسبب في ذلك الفارق الواضح في انخفاض درجات الحرارة.

 

أكوان متوازية؟!
جميل جدا، قطعنا بالفعل معظم المسافة نحو فهمنا لما تعنيه الورقة العلمية الأخيرة، بداية من 2006 حاولت عمليات رصد وأوراق بحثية عدة أن تتقصى مدى صواب تأثير ساكس وولف المتكامل عبر دراسة عدد من التجمعات والفراغات في السماء، وقد وصلت بعض الدراسات إلى نتائج تتساوى فيها اختلافات درجات الحرارة بالفعل بمعدل يقترب من 20 ميكرو كلفن (زيادة أو نقصا) في إشعاع الخلفية الكونية، لكن لم يصل أحد إلى توضيح هذا الفارق الكبير 70-150 ميكرو كلفن في البقعة الباردة، في 2014 قدمت دراسة(12) ستفان زابودي (István Szapudi) من جامعة هاواي دليلا على وجود فراغ عظيم بقطر 1.8 مليار سنة ضوئية يقع على بعد حوالي 4 مليارات من السنوات الضوئية، لكن لم يتأكد شيء بعد بصددها ولم يستطع البعض تكرارها، تظهر المشكلة خاصة حينما نعرف أن حجم فراغ كوني يشرح تلك القيمة قد يكون أكبر 1000 مرة من الفراغات الكونية المفترض وجودها، هنا دخل ماكنزي إلى اللعبة.

 

استخدم باحثو الدراسة الجديدة ما يعرف باسم التلسكوب الأنجلو أسترالي(13) (Anglo-Australian telescope) لعمل مسح طيفي لحوالي 7000 مجرة تقع بيننا وبين البقعة الباردة، وتمكنوا عبر ذلك من رسم شكل ثلاثي البعد يشرح مواضع تلك المجرات، مع استخدام ماسح غامّا(14) (Gamma Survey) لدراسة منطقة أخرى تدعى "G23" كنموذج للمقارنة، اكتشف الباحثون بعد ذلك أن المنطقة بيننا وبين البقعة الباردة احتوت على أربعة فراغات عظيمة، لكن بتطبيق معادلات تأثير ساكس وولف المتكامل وجدوا أنها لا يمكن أن تتسبب إلا فقط في انخفاض بفارق مقدار 32 ميكرو كلفن عن المعدل في أكبر قيمة لها، مما يعني أنها ليست وحدها كافية لخلق أو شرح السبب في الـ 150 ميكرو كلفن التي توجد في البقعة الباردة، وإن كانت تشرح الفارق الطبيعي بدقة.

  

مجموعة التلسكوب الأنجلو أسترالي، وبالأعلى مجموعة ماسح غامّا (الجزيرة)
مجموعة التلسكوب الأنجلو أسترالي، وبالأعلى مجموعة ماسح غامّا (الجزيرة)

 

هنا استقت تلك الورقة العلمية عنوانها(15) "دليل ضد كون الفراغ العظيم هو السبب في البقعة الباردة لإشعاع الخلفية الميكروي" (Evidence against a supervoid causing the CMB Cold Spot)، وبالتالي سمح ذلك لفرضية أخرى سابقة بالظهور إلى الساحة من جديد، تقول تلك الفرضية إن أثر اصطدام أكوان متوازية ببعضها البعض قد يكون ظاهرا في إشعاع الخلفية الميكروي في شكل بقع حارة أو باردة بمعدلات مختلفة عن المتوسط.

 

تظهر فكرة الأكوان الفقّاعة(16) (Bubble universes) نتيجة لفرضية التضخم الدائم(17) (Eternal Inflation) التي تقترح أن التضخم الكوني -وهو تزايد أسّي في حجم الكون الذي يتصور العلماء أنه قد حدث فقط في بداية عمر الكون- مستمر ولم يقف عند نقطة محددة، بذلك يتصور العلماء أنه في مرحلة ما من هذا التضخم اللانهائي هناك احتمال كبير لاصطدام هذا الكون خاصتنا بآخر مجاور في بُعد/كيان/فضاء أعلى من الذي نعرفه، لكن هل يعني ذلك أن البقعة الباردة باتت بالفعل دليلا على وجود كون آخر مواز قد اصطدم بكوننا في إحدى مراحل عمر هذا الكون المبكرة؟

 

مشكلة الفيزياء
في الحقيقة لا، يظن الكثيرون من العلماء أن ذلك غير محتمل حاليا، وأن دليلا كذلك يصعب القبول به، في الدراسة خاصتنا يشير الفريق البحثي إلى أن تلك البقعة قد تكون فقط موجودة في هذا المكان بالصدفة، مجرد قفزة إحصائية ممكنة، فكما قلنا إن هناك احتمالا -حسب النماذج التي تشرح الكونيات حاليا- من 1 إلى 2% أن يحدث ذلك بشكل عشوائي، كذلك هناك احتمال أن يكون ذلك بسبب عدم فهمنا المكتمل للجاذبية بعد، فكما تقول فيرا كوبر روبين إنه ربما يكون للجاذبية على مسافات طويلة للغاية أثر مختلف، طبيعة لا نفهمها بعد، يكفيك أن تعرف أن أحد أكبر المشكلات في فهمنا للجاذبية هو أننا لا نعرف لم هي ضعيفة، أن تتمكن ببساطة من أن تهزم قوة جذب الأرض نفسها بمجرد رفق قطعة طوب من على الأرض، وذلك مذهل وغير مفهوم.

 

يفترض البعض أن ذلك قد يكون بسبب أشياء لا نعرفها بعد ذات علاقة بفترة التضخم الكوني، نحن ما زلنا -رغم التوسّع الشديد في حجم معارفنا الحالية عن الكون- لا نعرف الكثير عن هذا الكون، خاصة عن تلك اللحظات الأولى من تكوينه التي لا نفهمها بشكل واضح، في تلك الفترة يمكن لتغير صغير للغاية أن يتسبب في انحراف ضخم للغاية فيما نراه من الكون الآن، يكفيك أن تعرف(18) أن الإشعاع القادم من نصف مساحة السماء أقوى قليلا من النصف الآخر، ولا تستطيع نظرياتنا الكونية أن تشرح ذلك بعد، هناك دائما الكثير من الغموض حول أمور كتلك، والكثير من الافتراضات كذلك.

  

إننا لم نتمكن بعد من رصد المادة المظلمة، في الستّينيات توقع العلماء أنه لن تمر عشر سنوات حتّى نكتشف ماهيّتها، لكن مرت إلى الآن ستون سنة ولم نصل بعد إلى نتائج واضحة
إننا لم نتمكن بعد من رصد المادة المظلمة، في الستّينيات توقع العلماء أنه لن تمر عشر سنوات حتّى نكتشف ماهيّتها، لكن مرت إلى الآن ستون سنة ولم نصل بعد إلى نتائج واضحة
  

ما تقوله ورقة ماكنزي إذن ليس واضحا عن وجود أكوان متوازية، لكن الورقة تحاول أن تفتح الباب من جديد للخوض في مشكلة تلك البقعة الباردة، فالورقة البحثية هنا تحاول أن تهدم فرضية الفراغ العظيم (Supervoid) التي كانت على مدى فترة هي أكثر التفسيرات قبولا لظاهرة البقعة الباردة. يفتح ذلك الباب أمامنا لتأمل مشكلة أخرى تواجه علم الكونيات حاليا، وهي التجريب، للأسف مرت أربعون عاما إلى الآن وما زالت الفيزياء بالكامل في حالة تخبط وعدم وضوح، ذلك أن نظرية الأوتار -مثلا- لا تجد بعد أي تطور ملموس أو نتائج واضحة أو إمكانية أن تخضع للتجريب، مما دعى بعض الفيزيائيين(19) للقول إنه حان الوقت للبدء من جديد في محاولة فهم الكون من وجهة نظر أخرى.

 

أضف إلى ذلك أننا لم نتمكن بعد من رصد المادة المظلمة، في الستّينيات(20) حينما بدأت الأدلة على وجودها توقع العلماء أنه لن تمر عشر سنوات حتّى نكتشف ماهيّتها، لكن مرت إلى الآن ستون سنة ولم نصل بعد إلى نتائج واضحة، مما دفع البعض كذلك إلى التساؤل حول إن كانت هناك مادة مظلمة أم لا، ربما الأمر فقط ذو علاقة بضعف فهمنا للجاذبية كما وضحنا منذ قليل.

 

هل هناك أكوان متوازية بالفعل؟ ربما، وكلمة "ربما" هنا هي كلمة يصعب قبولها من وجهة نظر علمية، يرى العلماء أنه حتّى إن كانت هناك أكوان متوازية فنحن -بوضعنا الحالي- لا يمكن لنا رصد أثرها الذي سوف يظهر دقيقا في إشعاع الخلفية، لكن من يدري؟ كل ما نحتاجه الآن هو مواصلة العمل لتطوير أدوات أكثر دقة ونماذج أكثر وضوحا وقبولا للتكذيب لكي نستطيع من خلالها -ربما يوما ما- من التأكد من تلك الفكرة، لكن إلى أن تحين تلك اللحظة لا يمكن أن نتعامل مع تلك النماذج كواقع على الأرض، نحن ما زلنا في أرض الخيال، لكنه خيال ممكن يستحق التأمل والعمل عليه.

___________________________________

 هوامش:

(*): تفترض بعض الدراسات مؤخرا أن الزمن ربما يكون قد تواجد قبل الانفجار العظيم.

المصدر : الجزيرة