شعار قسم ميدان

هل تمزح يا سيد فاينمان؟

ميدان- فاينمان

في محاضرته الأولى عن الإلكتروديناميكا الكمومية، والتي اختار أن تكون في نيوزيلندا، ينهي ريتشارد فاينمن شرحه المبسط للطريقة التي استطاع من خلالها التوصل إلى نظريته بأن يقول(1) "الآن جاء دورك كي تسألني: لماذا تعمل تلك الطريقة؟ أنا لا أعرف"، ثم يواصل حديثه قائلا إن "الطبيعة غريبة بقدر استطاعتها أن تكون كذلك، وهي غريبة بشكل يجعل من القوانين التي تفسرها تبدو مجنونة للدرجة التي لا يمكن تصديقها، ومع ذلك حينما نتتبع نتائج تلك القوانين نجد أنه يمكن فهم كل الظواهر العادية"، هنا يطلب فاينمان منك أن تتقبل ذلك أو يمكن لك أن تذهب إلى المنزل، لكن لماذا كل تلك الجلبة يا سيد فاينمان؟

    

الأحجية الكبرى

لنفهم ذلك دعنا نبدأ من افتراض مريح يقول إنك لا تفهم شيئًا عن ميكانيكا الكم، دعني أقدمك إلى ما يُعد أشهر تجربة في هذا الفرع من الفيزياء، إنها تجربة الشق المزدوج. في عالمنا العادي، الذي نتعامل فيه مع بعضنا البعض ونشاهد برامج المساء المملة، الجسيم ككرة قدم، يمكنها أن تدخل فقط من أحد البابين المفتوحين أمامك حينما تضربها بقدمك، فإما يمينًا وإما يسارًا. أما الموجة فهي كموجة بحر، تدخل من شقي التجربة لتصنع ما ندعوه أنماط التداخل(2) (Interference Pattern)، يمكنك أن تصنع تلك الأنماط بأن تلقي بصخرتين صغيرتين في الماء بجانب بعضهما، تتداخل الموجات الناتجة منهما معا.

    

راقب سلوك الجسيم Particle، أو الموجة Wave، ثم بعد ذلك الجسيم الكمّي Quantum object، ثم سلوك الجسيم الكمّي بوجود مراقب Observer

     

والموجات تتكون من قمم وقيعان، حينما تُلقي بصخرتين في الماء على مسافة من بعضهما البعض فإن الموجات الناتجة من الأولى تلتقي بالثانية(3)، وحينما تلتقي قمة بقمة أو قاع بقاع فإن الموجة تصبح أكبر للأعلى أو للأسفل، أما حينما تلتقي قمة بقاع فإنهما تلغيان أثر بعضهما البعض، مما يتسبب في أن تُمسح الموجة من تلك المنطقة، وذلك هو ما يتسبب في أنماط التداخل بالأساس، تلك هي صفة رئيسة للموجه تميز بينها وبين الجسيمات، فإذا كانت هناك أنماط تداخل إذن لدينا موجات، وإن لم يكن هناك أنماط تداخل فلدينا جسيمات، لكن ما الذي يحدث حينما ننزل بالتجربة الخاصة بنا إلى عالم الجسيمات دون الذرية، الإلكترونات مثلا؟ 

   undefined

  

نحن نعرف أن الإلكترون جسيم (Particle)، من المفترض حينما نحاول إطلاقه في تجربة الشق المزدوج الموجودة في الفيديو بالأعلى ألا تنتج أنماط تداخل، لكن التجربة تكذب ذلك الافتراض، حيث ستتخذ الإلكترونات نمط تداخل، وتلك بالطبع مفاجأة عجيبة، لذلك سنحاول أن نفهم السر بأن نراقب التجربة عن كثب عبر أجهزة قياس خاصة (نضع مراقبا add observer)، هنا تظهر المفاجأة الأكبر، وهي أن الإلكترون كأنما وعى وجودنا في التجربة ثم تعامل كجسيم لإعطاء نمط عادي، في تلك المرحلة سوف يظن بعض العلماء أن الإلكترونات تتداخل بشكل ما له علاقة باصطداماتها معا مثلا أو بتدخل المراقب، لذلك سنصمم تجربة جديدة كليا يمكننا معها إطلاق جسيم واحد فقط في كل مرة، دعنا نرى.

  

سوف نطلق إلكترونا، ثم نرى أثره على الشاشة في خلفية التجربة، ثم نطلق إلكترونا آخر، ونرى أثره كإلكترون واحد في خلفية التجربة، ثم سوف نستمر في ذلك، يظهر في البداية أنه لا توجد أنماط تداخل، لكن شيئا فشيئا يظهر نمط تداخل، حتى لو أطلقت إلكترونا واحدا كل سنة مثلا، حتى لو بدلته بفوتون أو بذرّة أو حتّى بجزيء متعدد الذرات سوف يتعامل كموجة، ويعني ذلك أن أول إلكترون أطلقناه كان يعرف -بشكل ما- ذلك، كان يعرف أي الأماكن في الشاشة بالخلفية يحتوي على أكبر الاحتمالات لسقوطه وأيها لا يمكن له أن يوجد فيه، كان يعرف ذلك كموجة!

   undefined

   

لكن، ماذا يعني أن يكون الإلكترون -ذلك الأنيس اللطيف- موجة؟ يعني ذلك أن هذا الإلكترون تداخل مع نفسه عبر شقي التجربة كأنه موجة، هذا هو السبب الوحيد الذي يدفع به إلى صنع هذا النمط المتداخل، لكن ذلك يعني كارثة إضافية، وهي أن الإلكترون -إذن- وُجد في مكانين مختلفين بنفس الوقت، كانت تلك الجملة الأخيرة هي مصدر كل الغموض في العالم الكمومي إلى الآن، لذلك لا عجب أن يصف فاينمان تلك التجربة بـأنها "الأحجية المركزية في ميكانيكا الكم".

 

بالتالي -وحسب ما نسميه بتفسير كوبنهاغن- إذا أردنا وضع تفسير واحد يسمح بمرور الإلكترون عبر الشقين معا ثم صنع موجة فيجب اعتبار أن الفاصل بين إطلاق الجسيم دون الذري ووصوله إلى اللوحة في نهاية التجربة يحتوي على كل الاحتمالات الممكنة لهذا الجسيم، احتمالات يمر خلالها من الفتحة الأولى وأخرى يمر خلالها من الفتحة الثانية، لكن ذلك يعني أيضا أن الموجة التي تحدث بين انطلاق الجسيم ووصوله ليست فقط موجة احتمالات رياضية نستخدمها لوصف العالم الذري، بل يمكنها -بشكل ما ربما غير واقعي كما نفهم الواقع- أن تتمثل داخل التجربة حينما لا نقوم بالملاحظة، إنها الحالة التي نسميها التراكب الكمي (Quantum Superposition)، وهي الحالة التي يوجد فيها الجسيم الكمومي بكل حالته الممكنة معا، إنها القطة الميتة والحية في نفس الوقت (كل الاحتمالات معا) في تجربة شرودجر(4) الفكرية الشهيرة.

 

مسارات فاينمان

جميل جدا، دعنا الآن نترك ذلك كله ونذهب إلى فصل دراسي جامعي يقف فيه طالب -يُقال إنه ريتشارد فاينمان- ليسأل أستاذه: ماذا لو كان ما لدينا في التجربة هو لوحة فيها ثلاثة شقوق؟ يجيب الأستاذ: "هنا سوف يتداخل الجسيم عبر ثلاثة شقوق ويصنع نمط تداخل في الشاشة الخلفية"، لكن، ماذا لو صنعنا أربعة شقوق؟ خمسة؟ ماذا لو صنعنا عددا لا نهائيا من الشقوق في اللوحة؟ هنا لن نجد أية لوحة، ماذا أيضا لو كان لدينا عدد لا نهائي من اللوحات؟ يعني ذلك -بشكل نظري لغرض التبسيط- أنه من المفترض حينما ينتقل الجسيم، أي جسيم، من النقطة A إلى النقطة B أن يمر بكل الفتحات، التي هي هنا لا نهائية، الآن نصل إلى أول إنجازات فاينمان، وهو ما نسميه بحاصل تكامل المسارات(5) (Path integral) أو حاصل جمع المسارات (Sum Over Paths)، لنعيد صياغة ما نعرفه إلى الآن:

    

يعني ذلك أن تجربة الشق المزدوج هي حالة خاصة من حالة أخرى أعم بها شقوق أكثر (لا نهائية) (الجزيرة)
يعني ذلك أن تجربة الشق المزدوج هي حالة خاصة من حالة أخرى أعم بها شقوق أكثر (لا نهائية) (الجزيرة)

  

يعني ذلك أن تجربة الشق المزدوج هي حالة خاصة من حالة أخرى أعم بها شقوق أكثر (لا نهائية)، في الحقيقة يتناقض ذلك مع مبدأ أساسي في الفيزياء الكلاسيكية، حيث ينص "مبدأ أقل فعل"(6) (Principle Of Least Action) في الفيزياء على أن أي جسم يختار كي ينتقل من النقطة "A" إلى النقطة "B" أن يبذل أقل فارق ممكن في القيمة بين طاقتي الوضع والحركة، دعنا نبسط ذلك بالقول إن الجسم، ليكن كرة قدم تلقي بها في السماء ثم تعود إليك، تختار الكرة أن تمر بالمسار الذي يبذل فيه أقل قدر ممكن من الطاقة، وهو أن تصعد في خط مستقيم إلى الأعلى ثم تقف وتبدأ في النزول على نفس الخط، لا أن تذهب يمينا أو يسارا في أية مسارات معوجّة، فقط تختار هذا المسار في كل مرة.

 

بالطبع يمكن أن نفهم كل ذلك، فهو طبيعي ونراه في حياتنا اليومية، لكن كعادة عالم الكوانتم فالأمر يختلف، يتحدى فاينمان المبدأ الكلاسيكي القائل بأقل فعل ليؤكد أن الجسيمات حينما تنتقل من النقطة A إلى النقطة B تعتبر كل المسارات الممكنة في الزمن والمكان، وأنا هنا أعني كل مسار محتمل، عددا لا نهائيا من الاحتمالات، فإذا كان الجسيم سوف يذهب من يدك اليمنى إلى اليسرى بينما أنت تقرأ هذا المقال فأحد الاحتمالات -بتبسيط مخل- هي أن يسافر الجسيم أولا إلى مجرة أندروميدا والتي تقع على مسافة 2.5 مليون سنة ضوئية ثم يعود إلى يدك اليسرى.

 

لكن، لنتحدث قليلا عن الاحتمالات، تلك الكلمة التي التقينا بها أكثر من مرة منذ بداية هذا التقرير، حيث ما تلك الاحتمالات الكمومية؟ هل تشبه الاحتمالات العادية كأن نقول إن هناك فرصة 50% أن تحصل على وجه "ملك" في العملة و50% أن تحصل على "كتابة" فيصبح المجموع الطبيعي هو 100%؟ ليس بالضبط، في ميكانيكا الكم نستخدم ما نسميه بسعة الاحتمال7 (Probability Amplitude)، وهي عدد مركب (متجه) حينما نقوم بتربيعه نحصل على احتمال وجود الجسيم في موضع ما، لا تهتم لذلك التعقيد الآن.

 

يساهم كل مسار بسعة احتماله في المسار الكلي بين النقطتين A وB، وهي الاحتمالات التي نجمعها معا لنحصل على "حاصل جمع المسارات" في النهاية، لكن حينما نطبق ذلك على تجربة الشق المزدوج بالأعلى فإننا لا نستخدم اللفظ "أو" بمعنى أن الإلكترون مثلا لن يدخل من هنا "أو" هنا، ولكننا نستخدم صيغة العطف "و"، فيساهم كل من تلك السعات بجزء من قيمة الدالة الموجية، التي -كما حكينا- تصف الحالة الكمومية، الآن استعد لبعض التركيز.

 

ساعات كمومية
undefined
  

كانت الطريقة التي استخدمها فاينمان لحساب مساراته بسيطة وذكية(8)، كعادته، لنتعلم بعض الشيء عنها مع توضيح أننا نتجنب كمًّا ضخما من التعقيد بشكل قد يخل قليلا بالمعنى لكنه ما زال قادرا على نقل المفهوم، الآن دعنا نعيد رسم الموجة، لكن هذه المرة سوف نعبّر عنها بالأسهم، كما ترى في الرسم المرفق بالأعلى يمكن لنا إعادة رسم كل موجة، وأي موجة، عبر تلك الأسهم التي تدور عكس عقارب الساعة ليعبّر ميل كل منها عن جزء من الموجة، الآن حينما نطلق الموجة من النقطة A تلف العقارب (الأسهم) الخاصة بساعة الموجة على طول مسارها حتى تصل إلى النقطة B، هنا سوف يقف السهم عند ميل (زاوية) محدد يختلف باختلاف طول المسار الذي قطعته الموجة.

   undefined

  

نحن الآن في تجربة الشق المزدوج، هناك مساران فقط، عبر الشقين، لنفترض مثلا أن الموجة التي عبرت الشق الأول وقف السهم الخاص بها عند الميل 1، بينما التقت بها الموجة الثانية وكان ميل السهم ممثلا بالرقم 2 عند نقطة ما على اللوحة الخلفية (الشكل A)، هنا نمثل تداخل الموجتين عبر جمع السهمين في (الشكل B)، نضع ذيل السهم في رأس الآخر ونحصل على المسافة بين طرفيهما، لينتج لنا السهم رقم 3، هنا نرسم دائرة نصف قطرها هو طول هذا السهم 3 (الشكل C) ونحصل على احتمال وجود الجسيم الكمومي في منطقة ما على اللوحة الخلفية من خلال تلك الدائرة والتي تعبّر عنها مساحة تلك الدائرة. 

 

إذا كانت الدائرة كبيرة فهناك احتمال كبير لوجود الجسيم بتلك المنطقة، وإذا كانت صغيرة المساحة فهناك احتمال صغير، بالطبع طول هذا السهم يختلف باختلاف نقاط التقاء الموجات، والتي تختلف باختلاف طول المسار، فلو قابلت القمة القاع بالضبط يعني ذلك أن يلتقي سهم بالأعلى وسهم بالأسفل، وبذلك فإن طول السهم الجديد (3) بينهما سوف يكون صفر، يعني ذلك احتمال صفر أن يوجد الإلكترون في تلك المنطقة من الشاشة الخلفية بتجربة الشق المزدوج، أما إن حدث والتقى سهما قمتين تماما نحصل على حاصل جمعهما بالكامل فنكوّن أكبر دائرة ممكنة، إنها نفس عملية جمع الموجات التي تعلّمناها ببداية التقرير.

   

مسارات فاينمان هي تعميم لحالة الشق المزدوج، أي أن هناك - ليس فقط فتحتين - ولكن عدد لا نهائي من الفتحات يعبر عن عدد لا نهائي من المسارات (الجزيرة)
مسارات فاينمان هي تعميم لحالة الشق المزدوج، أي أن هناك – ليس فقط فتحتين – ولكن عدد لا نهائي من الفتحات يعبر عن عدد لا نهائي من المسارات (الجزيرة)

   

جميل جدا، هذا ما يحدث حينما يلتقي مساران فقط للجسيم، لكن كما قلنا فإن مسارات فاينمان هي تعميم لحالة الشق المزدوج، أي أن هناك -ليس فقط فتحتان- ولكن عدد لا نهائي من الفتحات يعبّر عن عدد لا نهائي من المسارات، وهكذا تتجمع أعداد لا نهائية من الموجات لتصنع معا بالضبط كما تجمعت الأسهم 1 و2 بالأعلى (الشكل B)، لكن حينما نجمع تلك المسارات بكل تلك الاحتمالات معا نجد أن المسارات التي تعبّر بالأصل عن مبدأ أقل فعل هي ما يساهم في الاحتمالات بدرجة أكبر كثيرا بينما تمحو كل من المسارات الأخرى بعضها البعض، فيتبقى لنا في أرض الواقع مسار واحد، إنه مسار الكرة التي حين نقذفها تعود لنا أرضا، حمدا لله أنها لا تذهب إلى آخر الكون أولا.

    

"لا تمانع إن كان ذلك لا يعجبك"(9)، يقول فاينمن، "فقط دع الأمور تستمر ولنرَ النتائج"، بهذه الطريقة التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة يعيد فاينمان كتابة ميكانيكا الكم بشكل كامل، بل إنه يضع الأساس بتلك الفكرة العجيبة عن المسارات بين نقطتين لما سوف يكون فيما بعد الإلكتروديناميكا الكمية، ويؤسس لنظرية المجال الكمّي، وسوف يترتب على ذلك -وبمساهمة آخرين- أن نصل إلى أعظم إنجاز بعالم الفيزياء الآن، إنه النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات، كل ذلك فقط لأنه تحدى حدسه!

المصدر : الجزيرة