شعار قسم ميدان

"نوبل ليست للنساء".. كيف وقفت ماري كوري بمواجهة العالم؟

ميدان - ماري كوري
اضغط للاستماع
    

"كن أكثر فضولًا بالأشياء، أقل فضولًا بالناس"

"لا يوجد في العالم ما قد يُخشى منه، هناك فقط ما قد لا يُفهم جيداً"

    

إن أكثر الأشياء إيلامًا، ربما، هو أن تحتاج لبذل جهد استثنائي كي تحصل لنفسك على مكان في هذا العالم، مكان يمكن لأي أحد أن يحصل عليه بجهد أقل بكثير لكنك تضطر إلى صنع فارق صارخ بحيث لا يمكن للآخرين – هؤلاء الذين يغضون البصر عنك – إلا أن يلتفتوا إليه. هنا سوف تنجح بالفعل في تحقيق هدفك بنهاية القصة الطويلة والحزينة، لكنك في المقابل قد تتعلم أحد أهم الأفكار الأكثر تأثيرًا في البشر، وهو أن الحياة ليست عادلة، وأن كون امرأة ما "امرأة" – مثلًا – وحده كفيل بأن يحيل حياتها في شيء تحبه إلى معركة حامية الوطيس بين رغبتها في التعلم ورفض هذا المجتمع لها، مهما كانت تستحق.

 

لفهم ما نقصد هنا دعنا نتأمل عدة حكايات لـماري سكوودوفسكا كِوري، بكسر الكاف الأخيرة، الأولى تتعلق بحصولها على جائزة نوبل في الفيزياء1 سنة 1903 بالتشارك مع أنطوان هينري بيكريل (Antoine Henri Becquerel) وبيير كوري (Pierre Curie)، حيث قبل قبل الجائزة بـ 8 سنوات كان رونتجن قد اكتشف الأشعة السينية، لكنه لم يكن يعرف كيف يمكن لنا الحصول عليها، بعدها بسنة واحدة كان بيكريل قد اكتشف أن أملاح اليورانيوم تطلق إشعاعًا شبيهًا في قدراته على الاختراق بالأشعة السينية وهو يخرج من اليورانيوم وليس أي مصدر آخر.

 

نوبل ليست للنساء
لكن ماري هي من استخدم جهاز الإلكتروميتر – من ابتكار زوجها بيير كوري – لتؤكد أن نشاط مركبات اليورانيوم يعتمد فقط على كمية اليورانيوم الموجودة بها، وهنا هي تثبت الفرضية القائلة إن الإشعاع لا ينتج عن تفاعل ما  يحدث بين الجزيئات، بل يأتي من الذرة نفسها، وكانت هي من أطلق هذا الاسم بالأساس "النشاط الإشعاعي2 (Radioactivity)"، كانت فرضيات ماري كوري، والتي نشرتها في أبريل 1889 وقرأها أستاذ مري الأسبق وراعيها جابرييل ليبمان على أكاديمية العلوم، هي أيضًا الباب الواسع الذي دخلت منه علوم الذرة إلى الفيزياء.

    undefined

   

فقد كانت إشارة ماري في هذا المقال لكون النشاط الإشعاعي خاصية ذرية تعني أن الذرة نفسها قابلة للانقسام، ويعني ذلك بالتالي أن لها عالما آخر أصغر منها، وهو ما أثبته أرنست رذرفورد الذي انضم إلى الحفل خلال تلك الفترة، كان ذلك على عكس المفهوم الديمقريطسي القديم، والذي ظل سائدًا حتى جاءت ماري كوري، القائلة إن الذرات هي وحدات المادة المصمتة الصغيرة والتي لا يوجد تحتها وحدات أخرى، وعلى الرغم من كل ذلك الإنجاز لم تلتفت ترشيحات نوبل لماري!

 

حيث كانت الترشيحات بالأساس لبيير كوري – زوجها – مع بيركريل بينما لم يذكر أحد دور ماري في خطاب الترشيح، وكانت المشكلة هي أن كل من وقعوا على خطاب الترشيح كانوا يعرفون دور ماري، وما قدمته للفيزياء الخاصة بالنشاط الإشعاعي، إن أحد الموقعين هو نفسه جابرييل ليبمان الذي قرأ مقالها على جمعية العلوم، لكن رغم ذلك كان فقط يعتقد أنها3 "طالبة شابة فقيرة"، لم تتراجع لجنة نوبل إلا حينما تدخل عالم رياضيات مشهور يدعى جوستا ميتاج ليفلر بالضغط على اللجنة حيث أخبر بيير بالموقف، فرفض كوري ذلك وقال إنه لن يستلم الجائزة إلا بوجود ماري، ورغم ذلك لم تحصل ماري إلا على رُبع الجائزة فقط.

   

ماري كوري ما زوجها بيير (مواقع التواصل)
ماري كوري ما زوجها بيير (مواقع التواصل)

    

اعتادت كوري على مثل هذا النمط من الحياة في فترة مبكرة جدًا من حياتها، فقد عاشت طفولتها في وطن محتل (بولندا من قبل روسيا)، وكان ذلك مؤثرًا للغاية في حياتها فيما بعد، ماتت أختها وأمها أمام عينيها بينما كانت طفلة صغيرة، وطوال عمرها عاشت حياة فقر، في بولندا المحتلة لم يكن يُسمح لها كامرأة بأن تستمر في الدراسة بعد المرحلة الثانوية، فقامت بالدراسة سرًا، وحينما كانت راغبة في أن تدرس العلوم في فرنسا لم يكن هناك إلا خيارين، أن تذهب هي لتدرس العلوم، أو أن تذهب أختها برونيا لدراسة الطب، فقررت ماري أن تعمل لدى عائلة تسمى آل زورافسكي.

 

تاريخ موجز للحزن
في الحقيقة كانت تلك هي أحد حكايات ماري الأكثر كآبة، فقد وقعت هناك في حب أحد شباب تلك العائلة ويدعى كازيمير، لكن حينما رغب في الزواج منها وحدث أهله عنها رفضت العائلة بشدة لأن ماري هي مجرد مربية فقيرة ليست من مستوى الأسرة، وفي النهاية تركها وتزوج من فتاة أخرى، ورغم كم الحزن الشديد الذي ضرب كاري بسبب ذلك إلا أنها أخفت ذلك الشعور من ملامحها، وقد قالت في أحد الرسائل لبرونيا، التي تخرجت بنجاح من كلية الطب إنه4 "كانت هناك أيام غاية في الصعوبة، ولا يخفف من ذكراها إلا أنني على الرغم من كل شيء قد مررت بها مرفوعة الرأس وبشرف".

     

أما في باريس، فقد كانت الحياة أكثر قسوة، ورغم أن ماري هي أول امرأة في أوروبا تحصل على دكتوراة من السوربون، إلا أن هناك مأساة وراء ذلك، فقد كانت النقود التي تتحصل عليها قليلة للغاية، ولم تكن الإقامة مع أختها – التي كانت قد انتقلت هي الأخرى لباريس مع زوجها – غير ممكنة بسبب أن المسكن الخاص بهما كان مزدحمًا دائمًا، بذلك اضطرت ماري لاستئجار حجرة في منطقة جانبية فقيرة، وعاشت – في معظم الأوقات – على الشاي والخبز فقط، حتى إنها فقدت الوعي أكثر من مرة بسبب قلة طعامها، على الرغم من ذلك حصلت ماري في 3 أعوام تقريبًا على درجة في الفيزياء ودرجة في الرياضيات، مع تقدير ممتاز.

      

ماري إلى اليسار مع أختها
ماري إلى اليسار مع أختها
   

في الحقيقة كانت أزمة الاحتياج للمال ملازمة لها طوال عمرها تقريبًا5، حتى بعد أن تزوجت من بيير كوري وعملا معا وكثيرًا ما احتاجا الأموال من أجل إتمام أبحاثهما عن النشاط الإشعاعي، تلك الأبحاث التي أدت في النهاية لاكتشاف عنصري البولونيم والراديوم، وما إن بدأت الأمور تستقر لماري وبيير، وتهدأ الدنيا قليلًا، حتى كانت المفاجأة بموت بيير في حادث سير عن عمر يناهز 49 سنة، وهو الحادث الذي غير مجرى حياة ماري تمامًا، فقد تعلمت أن حياتها – كما يبدو –  هي قصة فقد للأحبة.

 

حتى في 1911، بعد وفاة بيير بـ 6 سنوات، حينما حصلت ماري على نوبل الثانية، في الكيمياء عن اكتشافها للبولونيوم والراديوم المشعين، وهي أول شخص يحصل على جائزتي نوبل، وإلى الآن هي الشخص الوحيد الذي حصل على جائزتي نوبل في مجالين مختلفين، كان ذلك في فترة استطاع اليمين المتطرف خلالها الحصول على خطابات6 بين كوري وعالم يدعى بول لانجفين ونشرت الصحف المحافظة وقتها عناوين من نوعية "رومانسية في المعمل" لتقول إن بول لانجفين ترك زوجته لأجل ماري، وتلوم على الجمعية الملكية تقبلها لامرأة.

 

حرضت الصحافة ضد ماري كشيطانة فاسقة تود نشر الخليعة في المجتمع، وكان ذلك في فترة انتشر فيها الحديث عن الإنجاب خارج إطار الزواج، والخيانة، والاجهاض، ووصل الأمر إلى درجة أن الناس تجمعوا حول منزلها وطالبوها بالخروج من فرنسا فهربت من المنزل هي وأطفالها الذين طالهم أثر ذلك أيضًا، هنا خاطبت لجنة نوبل ماري كي لا تأتي إلى ستكهولم لاستلام الجائزة، لكنها رفضت قائلة إن مشكلاتها الشخصية لا علاقة لها بإنجازها العلمي، وذهبت بالفعل.

   

   

إذا تأملت حياة ماري كوري فإنه من الممكن أن تختصرها تحت عنوان واحد فقط، وهو "تاريخ موجز للحزن"، حيث في كل مرة تبدأ الأمور في الهدوء قليلًا حتى تنقلب الأحوال رأسًا على عقب نحو الأسوأ، وبالفعل واجهت ماري نوبات اكتئاب شديدة طوال حياتها، هنا نصل في هذا المقال إلى المرحلة التي نسأل فيها أنفسنا: من أين جائت بتلك القوة؟ الطبيعي في حالات كتلك هو أن يتملك الإنسان قدر من اليأس يكفيه لكي يسكت، يسكن جانبًا ويتوارى في ظلال أحزانه، لكن ما الذي يحدث هنا؟

 

كن أكثر فضولًا بالأشياء
في تلك النقطة دعنا هنا نتأمل فلسفة ماري في الحياة، حيث يبدو أن ماري في مرحلة مبكرة للغاية تقبلت الوضع القائم على أنه قائم ومستمر، أي لم تحاول الانحناء حتى تمر الرياح، أو تتجنب كل الحزن الممكن من خلف تلك الضربات المتتالية، بل ارتشفت كل قطرة حزن ممكنة، لكن ذلك طوّر فيها قدرة عالية على "عدم الاهتمام" إلا لشيء واحد فقط، وهو أن تستذكر دروسها، تعمل على بذل كل جهد ممكن للتعلم، للاستمرار في البحث العلمي، لإتمام المهام المخطط لها.

 

حولت ماري حياتها إلى نطاق لتطبيق الفلسفة الوضعية7، متأثرة بأفكار أوجست كونت، حيث لم تقبل بشيء إلا بدليل تجريبي، حتى تخلل الأمر كل حياتها، فمثلًت حينما تعرفت إلى بيير وهي التي لم تطبخ من قبل، بعد الزواج اقتنت كتاب يحتوي على معظم الوصفات وطبقت ما تعلمته واستشارت أختها حتى أصبحت بارعة، وحينما رزقت بطفلهتها الأولى – أيرين التي سوف تحصل على نوبل هي الأخرى لتكون ثاني امرأة – بدأت ماري في تسجيل كل بيانات تطور نمو أيرين يوما بعد يوم كأنها هي الأخرى تبدو مشروعا علميا!

   undefined

   

لقد حوّلت ماري كل شيء في حياتها ليكون أشبه بقضايا علمية تستحق الدراسة، والتزمت بهذا النهج طوال حياتها، ويبدو أن السبب في البداية كان تشككها في كل شيء بحياتها الذي جاء نتيجة وفاة والدتها وأختها، يتطور هذا النوع من الشك في الغالب لحالة من الوضعية والبراجماتية، حالة تدفعها دائمًا للتفكير في حل قبل أن نبدأ في هضم المواقف، حالة تملي عليها أن تستمر لأنه لا يوجد أمامنا غير ذلك، تقول ماري8 "الحياة ليست سهلة على أي واحد منا. ولكن ماذا سنفعل؟ يجب أن يكون لدينا المثابرة وقبل كل شيء الثقة في أنفسنا. ويجب أن نؤمن بأننا موهوبون بشيء ما، وأن هذا الشيء، مهما كان الثمن، يجب أن يتحقق"

 

ولذلك، كثيرًا ما سوف تردد ماري عبارات تشير إلى تلك الفلسفة في الحياة، فتقول في خطاب لأخيها9 "الواحد يجب  ألا يلاحظ ما تم القيام به، بل ما يجب القيام به بعد ذلك"، حتى إنها تعد أول من ابتكر موضة الزي الواحد المتكرر، وليس ستيف جوبس أو مارك زاكربرج مؤسس الفيسبوك، فكانت ترتدي دائمًا تلك الفساتين السوداء، وتقول10 "ليس لدي أي ثوب باستثناء واحد أرتديه كل يوم. إذا كنت تريد أن تكون كريما بما يكفي لتعطيني واحد،  يرجى أن يكون عمليا وداكنا حتى أتمكن من  ارتدائه من أجل الذهاب إلى المختبر"، لم تهتم ماري لشيء غير العلم.

 

كوري هي فتاة فقدت كل شيء، رغم ذلك لقد استذكرت ماري دروسها في كل مرة قدم لها العالم ركلة، استذكرت دروسها حينما اكتئبت، حينما فقدت الأحبة، حينما أكل الفقر من صحتها ومن كرامتها، حينما تركها رجلٌ تحبه لأنها فقيرة، حينما كانت امرأة في مجتمع العلم فيه للرجال، حينما اتهموها في شرفها وعاملوها كشيطانة بغية، حينما وقفت لساعات طويلة للغاية من أجل تحليل البيتشبلند واستخراج الراديوم حتى تآكل جسدها من التعب، في كل مرة كان السبيل الوحيد لكي تتجاوز ماري التحدي هو أن تستمر في المقاومة لأنه لم يكن لديها طريقا آخر، فكل السفن مُحرقة، وهي تقف على شط جزيرة الواقع لا شيء خلفها، بينما العالم كله كان أمامها رافضًا وجودها، لقد كانت طوال حياتها ماري كوري ضد العالم.

المصدر : الجزيرة