شعار قسم ميدان

بيولوجيا الترميز: ما الذي يجعلنا بشرا؟

midan - people

"يقال إن الإنسان حيوان عقلاني، لقد قضيت كل حياتي أبحث عن دليل يؤيد ذلك الرأي، لكن لم أجده بعد"

في ذلك الاقتباس يسخر "برتراند راسل"1 من تعريف "أرسطو" الشهير للإنسان، يدعونا ذلك للتساؤل عن: ما العقلاني؟ إلقاء قنبلة على "هيروشيما" و"ناجازاكي" وقتل أكثر من مئتي ألف شخص؟ قتل مليون مواطن في رواندا على يد الهوتو؟ هل أقدم حيوانٌ على ذلك من قبل؟ يدفعنا ذلك بشكل متتالي للمزيد من التساؤل (ليس فقط حول طبيعة الإنسان) بل أيضا حول استكشاف ما يمكن أن يكون خاصا به؛ مقارنة بكل كائن آخر، بالفعل نحن نختلف عن باقي أنواع الكائنات الحية؛ بل نبتعد كثيرا حتى عن أقربهم لنا؛ لكننا ما زلنا غير قادرين على تتبع أي نمط مختلف بوضوح إلى الآن؛ لنستكمل رحلتنا في البحث.

ما الذي يختلف هنا؟


undefined

أحد أعنف المشاهد المرافقة للشيمبانزي2 هي عمليات القتل الجماعي التي تقوم بها بعض الذكور تجاه مجموعات الأطفال المحيطة بالأم، فقط لاستعادة الأم للتناسل؛ حيث تتوقف عنه أثناء تربية الرضع، لا تزال عمليات البحث العلمي من قبل "الرئيسياتيين" Primatologists لفهم منشأ تلك التصرفات العنيفة متواصلة، و-ربما- ربطها بعلاقات تطورية. يذهب البعض لأن منشأ العنف عند البشر له أصل بيولوجي؛ لكن ذلك الرأي لا يجد -بعدُ- ما يدعمه من الدلائل، أضف لذلك أن البشر، رغم التشابه الكبير بين آليات القتل المنظم عندهم وبين عالم الحيوان، إلا أنهم يختلفون في نقطتين رئيستين:

لا تقتل الحيوانات بعضها البعض لأغراض ثقافية أو دينية مثلا، لكن يمكن لنا التشكيك في تلك الفكرة عبر التساؤل عن: ما هو الدين؟ وما هي الثقافة؟ نحن نحاول تعريف كل من المصطلحات التي استخدمناها منذ بداية المقال من وجهة نظر بشرية فقط، فما يعنيه "الاكتئاب" و"العنف المنظم" و"الإبادة الجماعية" و"الحرب"؟ هو ربما يتكون من آليات مختلفة عند الكائنات المختلفة. متخصصو الأنثربولوجيا ودراسة "الرئيسيات" يدركون ذلك جيدا، ويحاولون بشكل منهجي عزل كونهم بشرا عن الأبحاث الخاصة بالحيوانات.

طوّر البشر ما نسميه "العنف السلبي"، وهو ممارسة العنف ليس عبر الاتصال المباشر مع العدو، ولكن عبر السماح للعنف بالحدوث مثلا؛ و النظر للاتجاه الآخر فقط، أو عبر انتخاب رجال سياسة من تيارات نعلم -مسبقا- أنها تؤيد العنف، أو بمجرد الضغط على زر لوحة مفاتيح؛ بينما تجلس في مكتبك المكيّف لتقوم طائرة بدون طيار بإلقاء قنبلة عنقودية من نوع متطور على المئات من النساء والأطفال في الجانب الآخر من  الكوكب وقتلهم فورا، إنه نفس العنف، لكن هذا الشخص يمارسه بهدوء شديد، ويذهب للمنزل آخر اليوم؛ ليشاهد فيلما أو ليجلس مع الأصدقاء متحدثا عن حقوق الإنسان، بل ربما يبكي.

تدفعنا النقطة السابقة للتأمل قليلا فيما قد يعنيه أن نكون بشرا، فما نعرفه عن العنف في عالم الحيوان يرتبط دائما بلقاء مباشر بين مفترس وفريسة، لن يرتفع ضغط الدم وتتأهب أجهزة جسم الفريسة إلا حينما يظهر المفترس، الأسد مثلا، في الأفق. أما نحن فيمكن لنا أن نتسبب في ارتفاع ضغط الدم خاصتنا فقط بالتفكير؛ في اجتماع فصلي له علاقة بتحقيق مبيعات أو ضمن مخاوف من فقد شيء؛ شخص، وظيفة.. ما بعد مكالمة هاتفية، أو في لعبة فكرية كالشطرنج أو البوكر، لذلك لا عجب أن يطور صديقنا في الأعلى ممارس "العنف السلبي" أمراضا عصبية بدرجة أعلى من غيره. يمكن هنا أن نبدأ في تكوين فكرة جيدة، دعنا هنا نضرب مثالا أكثر وضوحا.

بنفس الدرجة من التأمل دعنا ننظر إلى عملية التعاطف مثلا، يمكن للشيمبانزي أن يتعاطف مع فرد مهزوم من نفس النوع؛ لكن لا يمكن له أن يتعاطف مع نوع آخر، أما نحن البشر فنمد تلك الصفة على استقامتها لنتعاطف مع الحيوانات أيضا، في الحقيقة يمكن لنا أن نبتعد كبشر إلى ما هو أبعد من ذلك، نحن نتعاطف مع بطل رواية لنجيب محفوظ، أو حيوان في لوحة فنية، أو حتى مع فكرة في أدمغتنا، لنفس الأسباب يمكن أن نكتئب و تختل نسب الهرمونات في أجسامنا وتضطرب انفعالاتنا بسبب مشهد قاسٍ لأم أفغانية وابنتها في رواية "ألف شمس ساطعة" لخالد حسيني، ما الذي يحدث هنا؟!

بيولوجيا وترميز

هل حدث قبل ذلك أن شعرت بألم في نفس موضع تألُّم شخص آخر؟ حينما نتحدث مع شخص نحبه حول تألمه لسبب ما؛ فإنه يتم تفعيل القشرة الخزامية الأمامية -أيضا- فنشعر بنفس الألم.
هل حدث قبل ذلك أن شعرت بألم في نفس موضع تألُّم شخص آخر؟ حينما نتحدث مع شخص نحبه حول تألمه لسبب ما؛ فإنه يتم تفعيل القشرة الخزامية الأمامية -أيضا- فنشعر بنفس الألم.
 

القرف هو ما يحدث حينما تأكل طعاما فاسدا بالخطأ، أو حتى حينما تشتمُّه، إنها عملية بيولوجية ذات غرض بسيط  وهو حمايتك من التسمم، سوف تشعر بألم غريب في المعدة مع إفرازات كثيرة ورغبة شديدة في التقيؤ، يحدث ذلك في كل الحيوانات، وتنظمه منطقة في المخ تدعى "الفص الجزيري" Insular Cortex، إنها نفس المنطقة المسؤولة عن المشاعر؛ كالمحبة، الغضب، الخوف، والسعادة.. نفس القرف يحدث حينما تشاهد مواطنا من دولة آسيوية يمارس عادات أكل مختلفة عنك، كأن يأكل الثعابين أو القطط أو الفئران مثلا أو الحشرات، يحدث ذلك أيضا حينما تشاهد حالة من العنف الشديد الغير مُبرر ضد الأطفال أو حتى البالغين، إنه ما تراه حينما تشاهد فيديو تعذيب على "يوتيوب"، وما أكثرها.

ما يحدث هنا3 -ربما-  هو أن لدينا نوعا من القدرة على تحويل كل تلك المشاهد المتنوعة لصورة واحدة تقرؤها نفس المنطقة من المخ على أنها جميعا نفس الشيء؛ أي أننا ربما نقوم بشكل ما بترميز أمور حياتية مختلفة لتفعيل استجابات بيولوجية ذات نطاق مختلف، كأن نقوم لأجل غرض أخلاقي مثلا بتفعيل منطقة لها هدف بيولوجي وهو التعاطف أو القرف، دعنا نوضح أكثر.

حينما تضع يديك على إناء ساخن بالخطأ يثير ذلك مجموعة من الإجراءات البيولوجية الدماغية السريعة، فيبدأ الدماغ بدفعك للابتعاد فورا و قياس درجات الألم وموضعه، من بين كل أجزاء الدماغ المتفاعلة في تلك اللحظة دعنا نلتفت إلى الـAnterior cingulate cortex القشرة الخزامية الأمامية، وهي المنطقة من المخ المسؤولة عن تقييم تلك العملية وما يعنيه أن تتألم هنا أو هناك. لتلك المنطقة -أيضا- دور في اتخاذ القرارات والدوافع، وكذلك العمليات العاطفية؛ لكن ما يهم هنا هو دور آخر أكثر غرابة لتلك المنطقة، وهو الشعور بألم ليس موجودا بالفعل4.

هل حدث قبل ذلك أن شعرت بألم في نفس موضع تألُّم شخص آخر؟ حينما نتحدث مع شخص نحبه حول تألمه لسبب ما؛ فإنه يتم تفعيل القشرة الخزامية الأمامية -أيضا- فنشعر بنفس الألم. في الحقيقة يثير ذلك انتباه الكثير من الأبحاث العلمية مؤخرا؛ لأن هناك ارتباطا واضحا بين تفعيل تلك المنطقة، وبين بعض أعراض الاكتئاب عند الأشخاص الذين يستشعرون آلام الآخرين بشكل مفرط، هنا يمكن لنا تطوير أدوية أكثر فاعلية لعلاج الاكتئاب عبر تثبيط ذلك الخلل.

جميل جدا، للبشر قدرة على استخدام فكرة "المجاز" بشكل بيولوجي، فنحن نحول آلام الآخرين لآلامنا، ونتعاطف معهم، ونشعر بالقرف من إهانتهم، يمكن لأنثى الشيمبانزي أن تمارس فعلا ثقافيا بتعليم طفلتها كيفية صنع بعض الأدوات؛ لكننا نبتكر الرقص، الكتابة، الموسيقى.. يمكن للخفافيش أن تتبادل المنافع وتمارس الإيثار، لكننا -دائما- نمد نفس الخط على استقامته لممارسة أفعال إبداعية؛ بحيث لا يكون المقابل من نفس النوع، حين يقوم أحدهم مثلا بتحطيم سيارتك فأنت -ربما- لا تحطم سيارته، ولكن تضعه في حالة من القلق الدائم خوفا على سيارته، نحن نبتكر إذن؛ لأننا -بشكل ما- نمتلك القدرة على تحويل كل ما نملكه من ثقافة وخبرات إلى استعارات، رموز يمكن لها جميعا تفعيل نفس المنطقة من المخ، دعنا نتعلم قليلا عن تجربة شهيرة بهذا الصدد.

صراصير التوتسي

undefined


حسنا، هناك مجموعتان
5 من الأفراد، في المجموعة الأولى سوف نتحدث مع الأفراد حول أشياء عادية، الحياة الجامعية مثلا، ثم بعد التجربة نعرض على كل فرد منهم أقلاما أو مناديل كهدية، تكون النتيجة العادية هي أن نصف الحاضرين في كل تجربة سوف يأخذون المناديل، والنصف الآخر سوف يأخذون الأقلام، لكن الآن دعنا نتحدث خلال التجربة في المجموعة الثانية عن تلك الحوادث خلال حياتهم والتي تصرفوا فيها بدرجة ما من عدم الأخلاقية، سوف يكون مركز حديثنا معهم هو تلك الأخطاء الأخلاقية التي وقعوا فيها على مدى أعمارهم، هنا سوف تكون النتيجة الأكثر غرابة، سوف يود معظم الحاضرين للتجربة أن يحصل على المناديل وليس الأقلام؛ إنهم -بشكل ما- يريدون مسح ذنوبهم، عبر تفعيل مناطق في المخ لا علاقة لها بذلك إلا استعاريا فقط.

نتائج مشابهة نحصل عليها في تجارب لها علاقة بقدرة وجود شيء ثقيل6 في يديك على دفعك لتكون أكثر قدرة على التعامل مع المعلومات بجدية، أو أن يكون حملك لكوب من الشاي7 -مثلا- الساخن أو البارد دافعا لك لتصبح أكثر تعاطفا /برودا، أو حتى عن علاقة ما ترتديه8 بالجدية في عملك.

في الفترة الأخيرة، اندفعت مجالات معرفية عدة9 -كعلم نفس الاجتماع والسياسة- للبحث وراء ذلك النوع الجديد من البيولوجيا. في الحقيقة لا يمكن لنا بعدُ وضع أية تأكيدات، لعدة أسباب؛ لأولها علاقة بكون الأمور ما زالت قيد البحث، ولآخرها علاقة بأن نتائج تجارب من ذلك النوع السلوكي تحتاج لدعم عظيم؛ بسبب تعدد معاييرها وتنوعها وارتفاع نسبة الخطأ بها ووجود العامل البشري الذي يصعِّب الطريق دائما على الباحث، رغم ذلك، دفعت تلك النتائج الأولية بالعديد من مروِّجي العلوم الزائفة -عادتهم- لاتخاذ تلك الدراسات كمبرِّر لتمرير مساقاتهم غالية الثمن عن "قوة لغة الجسد" و"قوة الرمز" … إلخ.

إحدى أعنف المجازر البشرية كانت في رواندا بين أبريل ويوليو 1994، حينما بدأت قبائل الهوتو عبر الجيش والميليشيات الخاصة في قتل كل ما تقع أيديهم عليه من مواطني التوتسي، في أثناء تلك المجزرة أنشأ متطرفو الهوتو محطات إذاعية لنشر الكره والغضب ضد التوتسي، كانت الجملة الأشهر والأكثر تكرارا هي: "التخلص من الصراصير"، تخيل أنك تتعرض لمدة 24 ساعة من خلال الراديو لجملة واحدة تتحدث عن وجود صراصير خارج البيت.

هل يمكن أن يكون لذلك دور ما في تفعيل مناطق10 محددة من المخ لدفع مواطن ما للتعامل -بالفعل- مع آخر كصرصور؛ يجب التخلص منه؟ هل تعرف أن معظم ضحايا التوتسي -وهم مليون فرد- تم قتلهم بالساطور؟ هل يمكن أن يكون سر اختلافنا البديع عن باقي الكائنات الحية، سر إنتاجنا لتاسعة "بيتهوفن".. روايات "كافكا".. نقد عقل "كانت" للرقص، للقراءة، للكتابة، للغة نفسها.. وهي أكثر التجليات لفكرة الترميز عند البشر، أن يكون هو نفسه سر بشاعتنا؟ ..لا نعرف بعد!

المصدر : الجزيرة