آلات جزيئية
وقتها، في المحاضرة الأولى، لم يهتم أحد بذلك التصور الغريب، بل قال البعض أن فاينمن قد ذهب بعيدا بعقله، كيف يمكن لنا التلاعب بجزيئات المادة على ذلك المستوى غير المعقول؟، لكن – صدق أو لا تصدق – الآن بالفعل نستطيع وضع الموسوعة البريطانية بالكامل على ما هو أصغر من رأس دبوس، بل نحن الآن قادرين على صنع آلات يبلغ حجمها واحد من الألف من حجم الشعرة، بالضبط كما توقع فاينمن، آلات بحجم النانو.
لنبدأ بتعريف النانو، كلمة Nano هي لاحقة لغوية تعني جزء من المليار، فـ نانومتر تعني جزء من المليار من المتر، و نانوثانية هو جزء من المليار من الثانية، أي 10-9 ثانية، لتخيل ما تعنيه تلك القيمة الصغيرة دعنا نحسب ما قيمته نانوميتر: انه المسافة التي يصطف فيها ثلاث ذرات ذهب فقط. سرعة الضوء هي 300 ألف كم/ثانية، لذلك يتمكن الضوء من الدوران حول الأرض، 40 ألف كيلومتر، لـ 7 مرات و نصف في ثانية واحدة، أما في نانوثانية فهو فقط يمكن أن يسافر لمسافة 30 سنتيمتر، الآن ربما نقترب من فهم ذلك الرقم الصغير للغاية.
1- هذا هو الفينانثرولين، يحتوي في موضعين منه على ذرة نيتروجين
2- يمكن لأيون لنحاس الارتباط بأربعة ذرات نيتروجين في تلك الحالة، أي قطعتين من الفينانثرولين، لاحظ شكل الجزيئين في الصورة الثلاثية البعد، يمكن لهما التداخل كقوسين متعامدين
3- الآن دعنا نرى الصورة الكاملة لآلية صنع الرابطة الميكانيكية، الحلقات المتداخلة
قبل نموذج سوفاج و فكرته الذكية و البسيطة ذات العلاقة باستخدام أيونات النحاس كانت نواتج التفاعلات التي تحاول صنع "جزيئات متشابكة Interlocking Molecules" بهذا الشكل ضئيلة للغاية، أما تفاعل سوفاج فكان انتاجه حوالي 42%، مما فتح الباب لعلم جديد تماما مكننا من صنع عدد مهول و كم متنوع من الروابط المشابهه، سميت تلك "الحلقات المتداخلة Catenanes" وهي تعني باللاتينية "حلقات Chains". قمة ذلك الإنجاز تمثلت في قدرة سوفاج على تصنيع مركب من حلقتين يمكن لأحدهما عمل دورة كاملة عند إضافة طاقة، كانت تلك هي البذرة الأولى لصنع "ماكينات جزيئية غير حيوية non-biological molecular machine"
كانت تلك الحلقات تقفز بين المنطقتين الغنيتين بالالكترونات بشكل عشوائي تماما لكن فريق ستودارت تمكن في 1994 من التحكم في تلك الحركة، كانت الصورة النهائية الأكثر تعقيدا هكذا:
بعد انجاز سنة 1994 تمكن فريق ستودارت من صنع روتاكسانات بصيغ مختلفة، أحدها تم تصنيعة سنة 2004 و كان عبارة عن مصعد جزيئي يمكنه أن ينتقل إلى الأعلى والأسفل على مسافة .7 نانومتر، كذلك تمكن الفريق من صنع عضلة تنقبض وتنبسط عبر قدرة الروتاكسان على ثني صفيحة ذهبية غاية في الرفع، و بناءا على تلك الفكرة تمكن ستودارت بالتعاون مع فرق من مجالات مختلفة من تصنيع رقاقة حاسوبية معتمدة على الوتاكسان2 بذاكرة 20 كيلوبايت و هو ما يُعتقد أنه سوف يصنع مستقبل مختلف تماما للحواسيب.
1- حينما نضرب الجزيء بنبضة "إشعاع فوق بنفسجي UltraViolet" يكتسب طاقة، فتدور إحدى الشفرات الدوّارة حول محور الجزيء بمقدار 180 درجة.
2- يصنع ذلك الوضع الجديد توترا بين الذرات المتقابلة المتشابهة في الجزئين.
3- يتسبب ذلك في محاولة الجزيء لتقليل هذا الشد، فيقفل/ينثني أحد الشفرتين على الآخر.
4- بذلك يمتنع الجزيء عن العودة للخلف، لكن مع تقديم قدر جديد من الطاقة، نبضة أخرى، ينفك هذا القفل ليدور الجزيء من جديد 180 درجة، ثم نعيد الدورة.
نحن الآن نمتلك آلة دوّارة لا تخضع للعشوائية في أثناء دورانها، يمكن لنا عبر تقديم الطاقة حثها على الدوران، لم يكن موتور فرينجا الأول سريعا لكنه في 2014 تمكن من صنع شفرات دوّارة بسرعة 12 مليون دورة/ الثانية، قبل ذلك، و في 2011 تمكن الفريق من صنع سيّارة نانوية تدور بها 4 شفرات دوارة حاملة جزيء ضخم، إنها أصغر سيّارة في التاريخ!
حصل علمائنا الثلالثة عن تلك الإنجازات المذهلة على نوبل في الكيمياء للعام الحالي 2016، بالفعل يعتبر ذلك إنجازا عظيما، لقد فتحت علوم الآلات الجزيئية الباب لعالم جديد تماما، عالم نستطيع فيه صنع عدد لا نهائي من الآلات بأشكال ووظائف مختلفة، عالم نعالج فيه السرطان بطرق مختلفة، السكر، الضغط، نصمم آلات تذهب داخل جسمك لمناطق محددة و تعالجها، أدوية جديدة تذهب بشكل مباشر عبر تيار الدم لموضع الإصابة من دون الحاجه لفقدان كم من تركيزها في الدم أو المعدة، حواسيب جديدة بقدرات مذهلة، آلات لإصلاح الأعطاب في الدوائر الصغيرة للغاية في المفاعلات النووية والأقمار الصناعية، حينما قال فاينمن أننا سوف نجد لها تطبيقا عمليا لم يكن يعلم أنها ربما سوف تدخل في كل شيء تقريبا!
ليس ذلك فقط، دعنا الآن نبتعد لنقطة أكثر قربا للبيولوجيا3، فهذه الآلات الجزيئية هي "منظومات بعيدة عن الاتزان Far From Equilibrium" تحفظ نفسها دائما في حالة بعيدة عن الاستقرار وبذلك فهي تسمح بتبادل الطاقة والمادة مع الوسط المحيط بصورة مستمرة، وتلك هي صفة أساسية لمنظومة أخرى نعرفها جيدا في الطبيعة، الحياة.
تلك الماكينات إذا تحاكي البيولوجيا، حيث تقدم لنا شكل – ربما بدائي – للغاية وجزيئي للغاية من الحياة نفسها، فأنظمة الطبيعة هي أيضا أنظمة بعيدة عن الاتزان، تتكرر فيها التفاعلات المتأرجحة، وتتغير بانتظام مع الوقت، وتحافظ على حالة من عدم الاتزان من خلال حركة دائمة للمادة والطاقة مع الزمن.
يقول إيليا بريجوجين الحاصل على نوبل 1977 في كتابه الشهير" Order Out Of Chaos انتظام من الفوضى " أن المادة عمياء في حالات التوازن – حالات السكون – لكنها في الحالات البعيدة عن التوازن قادرة على "الإدراك"، بذلك يمكن القول أن الشمس – بطاقتها، بالضبط كما حدث مع الشفرات الدوّارة منذ قليل – تفرض الحياة على محتوانا البيولوجي لأنها تضع الطبيعة بالكامل في نقطة بعيدة عن التوازن طول الوقت، نحن إذن أمام آلية تكيف ما قبل بيولوجية، وهو ما مكن هذا الفرع الجديد من العلوم على مستوى كيمياء الآلات الجزيئية من فتح الباب للفيزياء والكيمياء بجانب البيولوجيا لقول رأي في موضوع "الحياة"، لازال سؤال ايروين شرودنجر عن "ما هي الحياة؟" في كتابه القصير الشهير الذي يحمل نفس العنوان هو سؤال مفتوح على مصراعية. ما هي الحياة؟