شعار قسم ميدان

جون فون نيومان: تاريخ موجز للبساطة

ميدان نيوماان
(مواقع التواصل الاجتماعي)

"إذا كان الناس لا يعتقدون أن الرياضيات بسيطة؛ فذلك لأنهم لا يدركون مدى تعقد الحياة"
 

بسيارة عادية، يمكنك أن تقطع المسافة بين "بودابست" في المجر و"زيورخ" في سويسرا، مع طرق حديثة ومرور منتظم في حوالي 10 ساعات، إنها مسافة ألف كيلومتر. لكن أحدهم في عشرينيات القرن الفائت، قرر -إرضاء لرغبة أبيه، وفي نفس الوقت لشغفه بالرياضيات- أن يقطع تلك المسافة بشكل متكرر على مدى سنوات عدة، فقد طلب منه أبوه أن يدرس الكيمياء ويترك الرياضيات التي -في رأيه- لا تفيد في تحقيق أي مستقبل مهني جيد.
 

ماكس نيومان (مواقع التواصل الإجتماعي)
ماكس نيومان (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

لم يدرك السيد "ماكس نيومان" أن ابنه قرر اتخاذ طريق ثالث، وهو "كلاهما"، فأنهى درجة في الهندسة الكيميائية عند عمر الثانية والعشرين من المعهد الاتحادي السويسري بـ"زيورخ" في 1925، ودكتوارة في الرياضيات من جامعة "بودابست" سنة 1926، حاول خلالها تجنب مفارقة "راسل" Russell’s Paradox في نظرية الفئة؛ إنه "جون فون نويمان"، أحد أعظم عقول القرن العشرين.!
 

تحت اسم "نيومان يانوس"، و تنطق "نويمَن"، ولد ذلك العبقري في 28 ديسمبر 1903، في "بودابست" عاصمة المجر، لأب يعمل كمحام في بنك، وأم من أسرة غنية، في فترة كانت "بودابست" تتحول فيها لعاصمة ثقافية زاخرة بالعلماء والرسامين والكتّاب من كل الاتجاهات، كانت كل الظروف تخدم "نويمان" ليصبح عبقريا متعدد الإنجازات.
 

جون فون نيومان؛ وهو ما زال طفلا. (مواقع التواصل الإجتماعي)
جون فون نيومان؛ وهو ما زال طفلا. (مواقع التواصل الإجتماعي)

طوّر "نيومان" في طفولته حبًا شديدا للأرقام وعملياتها، حتى إن أبويه أدركا فورا أنهما أمام عبقري حقيقي، فليس من الطبيعي أن يتمكن ابنك ذو السبع سنوات من حفظ صفحات كاملة من دليل التليفون؛ ثم يسرد تفاصيل الأسماء والأرقام والعناوين بسهولة، أو أن يدرس التفاضل والتكامل في سن كهذا، أو أن تدخل للمنزل بعد يوم عمل طويل فتجده ينهي الجزء الرابع والأربعين من موسوعة تاريخ العالم، ويتحدث ثلاث لغات؛ بينما لا يزال في الثامنة من عمره.

مركز عبقرية نويمان
 

على كلٍّ، دعنا لا نحوّل مقالنا إلى خط سير زمني ممل للتطور الوظيفي لـ"نيومان"، فيمكن الحصول على كل تلك البيانات بنقرة على زر الفأرة لديك، لتكن رحلتنا هي محاولة لسبر أغوار هذا الرجل، ربما لتحقيق فهم أفضل لسر عبقريته، فرغم أن "نويمان" كان من القلائل الذين يمكن أن نعطيهم لقب "عبقري بالفطرة"، إلا أنه يمكن لنا أن نتعلم بعض الدروس الهامة، بعض الأدوات الممتعه، من سلّة أدوات "نيومان" الخاصة جدا.

هل تعرف تلك المراجع المعقدة التي تشرح الجبر الخطي، أو التفاضل والتكامل؟
 

أتذكر جيدا أنه حينما بدأت في الاطلاع على كتاب "توماس" الشهير في التفاضل Thomas Calculus وشعرت بالملل باكرا، كان أكثر ما كنت أفوّته سريعا هو تلك البنيات الرياضية الجاهزة التي تساعدني في حل معضلة ما، ببساطة لأنها موجودة دائما، ويمكن لي أن أعود لها متى احتجت لأحل مسألة ما، لكن "جون فون نويمان" لم يكن ليفعل ذلك؛ بل كانت مشكلته أولا وأخيرا هي تلك الصياغات1، كيف جاءت؟ و لِمَ تُصاغ بهذا الشكل؟ وهل هي سليمة منطقيا؟ وهل يمكن أن نصنع منها نموذجا أكثر مرونة؛ لخدمة أغراض أخرى؟ ما الذي يمكن أن نضيفه لها أو نحذفه منها؛ بحيث تخدم هذا الغرض الآخر؟
 

 جون فون نيومان (مواقع التواصل الإجتماعي)
 جون فون نيومان (مواقع التواصل الإجتماعي)

كانت تلك -بشكل أو بآخر- هي قوة "نيومان" الخارقة، أداته السحرية التي تمكنه من أن يكون "سوبرمان" عوالم الرياضيات والعلوم والفلسفة والتاريخ. القدرة على بناء وتتبع الأنماط  والنماذج، وتعديلها؛ بحيث تصبح أكثر مرونة، ثم ينقلها من مكان لآخر؛ إذ تكون مركز الآلية الجديدة القائمة، دعنا نستمع إليه حينما يحاول تعريف2 ما يعنيه العلم:
 

"لا تحاول العلوم أن تشرح، ونادرا ما تحاول أن تفسر، لكنها -بشكل أساسي- تصنع نماذج، و بقولي "نماذج" فأنا أعني بنية رياضياتية مضافا لها تفسيرات لفظية يمكن من خلالها أن نصف ظاهرة ما. إن التبريرات المقدمة من بنية رياضياتية كتلك هي -فقط، وتحديدا- المتوقع منها أن تصف ظاهرة ما بدرجة واسعة من المعقولية، أضف لذلك أنها -أي تلك البنية- يجب أن تحتوي معايير جمالية؛ أي أنها يجب أن تكون بسيطة قدر الإمكان فيما يتعلق بكم ما تصفه من ظواهر"

ألعاب، حوسبة، وكوانتم!
 

لذلك، دائما سوف تجد أنه رغم تنوع أعمال "نيومان" في مجالات عدة؛ لكنها دائما تُظهر مكونا جوهريا واحدا له علاقة بنقطتين: البساطة، والبنية السليمة. حينما حاول "نويمان" -مثلا- تطوير هيكلة مناسبة لعملية الحوسبة؛ من خلال بناء حواسيب ذات قدرة على تخزين البرامج على الذاكرة الخاصة بالحاسب، لجأ إلى تجريد الفكرة وتطبيق قاعدتيه أعلاه؛ فقرر أنه بجانب وجود الأرقام على الذاكرة، يمكن -أيضا- تخزين المشكلات -البرامج- عبر تحويلها -أولا- لأقل عدد ممكن من الكلمات، ثم -ثانيا- لأبسط لغة ممكنة، ثم -ثالثا- تحويل تلك اللغة لنظام ثنائي يمكن تخزينه.
 

أدى ذلك إلى نشوء أحد أشهر إنجازات "نويمان" في علوم الحاسب، إنه "هيكلة فون نويمان Von Neumann architecture"، مركز بناء الحواسيب الحديثة. قبل "نويمان" كانت الحواسيب أشبه بما نعرفه عن الآلة الحاسبة الآن، يمكن لها بدقة أن تقوم بعمليات حسابية؛ لكنها لا يمكن أن تقوم بغير ذلك، إلا أن "نويمان" تمكن من جعل الحاسوب قادراً على تخزين وتنفيذ برامج عديدة، وقد سُميت منظومته تلك بـ" بمبدأ تخزين البرامج".
 

"جون فون نيومان" مع حاسوبه بعد تطويره ليصبح قادرا على تخزين البرامج.

كان "نيومان" على قناعة راسخة بأن أعظم حافز للرياضيات يأتي دائما من تورطها مع مشكلات تجريبية، فهو يضرب مثالا قويا هنا؛ حينما يستعرض تطوير التفاضل والتكامل  على يد "نيوتن" جنبا إلى جنب مع الميكانيكا. تلك -في الحقيقة- نقطة غاية في الأهمية، وتدفعنا لتأمل طويل فيما قد نعتقد أنه سر عبقريته؛ حيث لم يكن يرى أن تلك البنى الرياضياتية (رغم أهميتها المركزية في صياغة نظرية قوية) هي قواعد صمّاء؛ تظهر فقط في أقسام الرياضيات؛ ثم يأتي فيزيائي أو كيميائي ما ليأخذها لمجاله. لكنه اعتقد أن قاعدة بناء رياضيات جديدة ترتبط  دوما بالعلم  الذي يستخدمها. خذ مثلا وجهة نظر "نويمان" في تطور الفيزياء والعلوم الاجتماعية. لقد رأى أن العلوم الاجتماعية لها نمط مختلف -تماما- عن الفيزياء؛ لذلك تصور "نويمان" أن دراسة الظواهر الاجتماعية سوف تؤدي بنا حتما إلى خلق آليات "رياضياتية" جديدة تماما، كان ذلك هو ما أدى بـ"نويمان" لفتح باب غاية في الأهمية ندعوه حاليا: "نظرية الألعاب Game theory"
 

أفكار "نيومان" تتجاوز دائما تصورات معاصريه؛ لأنها -في كل مرة- أبسط وأقرب لبديهيات المنطق الرياضياتي من غيرها، كان ما بدأه نيومان في ورقة نشرها سنة 1928 وأنهاه مع "أوسكار مورجانسترن" في كتابهما المنشور سنة 1944 بعنوان "نظرية اللعبة والسلوك الاقتصادي" هو المدخل البحثي الأول لنظرية الألعاب.
 

قبل "نيومان" تصور المنظرون الاقتصاديون أنه لا يمكن لنا خلال لعبة ما أن نهمل استراتيجيات الآخرين، من البديهي أننا نضعها في الاعتبار؛ لكن فكرة "نيومان" كانت من البساطة بحيث رأى أنه من الممكن لكل من اللاعِبَين في لعبة صفرية المجموع محددة الاستراتيجيات أن يتخذ قرارا بشكل مستقل عن الآخر، إنه ما تطور فيما بعد ليصبح "اتزان ناش".
 

من هنا يمكن لنا التعرف على السبب في أن "نيومان" كان معروفا بين أصدقائه بأنه قادر دوما على تحويل مقترحاتك البسيطة ومفاهيمك عن الحياة لصياغة أكثر اكتمالا وبساطة وتجريدا وجوهرية.. كان هذا الرجل مهووسا باكتمال الأشياء والأفكار والأحداث وسلامتها منطقيا. لذلك، حينما تعرض للميكانيك الكمومي في أواخر عشرينيات القرن الماضي كانت مشكلته الرئيسة هي مدى نفعية دوال "دلتا" التي طورها "بول ديراك" في مقابل حاجتها للصياغة الرياضية الصارمة /المكتملة، دعنا نتعمق قليلا في فهم الفرق بين مدرستي3 "ديراك" و"نيومان" في وصف النظرية الكمّية:
 

undefined

في الرياضيات، تشير الصرامة الرياضية Mathematical rigor إلى مدى انضباط البرهان منطقيا؛ بحيث يبدأ من عدد من البديهيات، وباستخدام عدد من الأدوات تتهادى الخطوات بدقة؛ بحيث تُبنى كل منها على التي قبلها حتى نصل إلى نتيجة صلبة نستطيع قبولها، قد يبدو ذلك سهلا لكن من وجهة نظر عملية يمكن لبرهان واحد أن يأخذ مدة طويلة، وربما يلجأ الباحث لتطوير صياغات رياضياتية تفي بالغرض من دون الحاجة للمرور بكل تلك المراحل، هذا هو ما نقصده هنا.
 

كان تعليق "فون نيومان" على دوال "ديراك" أنها "تقدم صياغة رياضية اصطلاحية أنيقة وقوية" لكنها "دالة غير لائقة لها صفات متناقضة ذاتيا" أقرب ما يكون إلى "خيال رياضياتي Mathematical Fiction".
 

كان اهتمام "نيومان" إذن منصبا على تطوير بنى رياضياتية بسيطة وسليمة؛ تستطيع بدقة أن تعطينا حلولا حقيقية، كان مؤمنا بأهمية وجود قلب رياضياتي ينبض بالاكتمال لنظرية الكم، لذلك قام بتطوير هيكل "موحد و واضح، بدون أي اعتراضات رياضياتية" يعبر عن النظرية الكمية بشكل "مختلف عن ديراك". ظل الصراع قائما بين وجهة نظر "ديراك" النفعية، والتي تقضي بتقديم صياغة رياضية تحقق المطلوب منها في عالم التنبؤات التجريبية؛ من دون الحاجة للنظر لمدى صرامتها Rigor، ووجهة نظر "نيومان" ذات العلاقة بالصرامة الرياضياتية كهيكل للنظرية الكمية، في نهاية الأمر تم إعطاء نموذج "ديراك" جانبه من الصرامة عبر نظرية "شفارتز" للتوزيعات.
 

موسوعة بشرية


بالفعل، نحن -إذن- أمام رجل متعدد الاهتمامات والمواهب، يُبقي البنية البسيطة المرنة في قلب العمل القائم عليه؛ لكنه ينطلق منها لكل شيء في العالم، فمن السياسة إلى الاقتصاد والتاريخ، ومن الفيزياء إلى النظريات الاجتماعية.
 

قرأ "نويمان" في كل شيء وتعلم عن كل شيء تقريبا، الطب، الاقتصاد، البيولوجيا، الكيمياء.. وأضاف لكل شيء تعلمه؛ فنحن نعرف أن هناك مئات المبادئ الرياضية تحت اسمه، قدم للإنسانية إسهامات جذرية في مجال متنوع من المعارف، فأسهم في بديهيات نظرية الفئة، المنطق الرياضي، المنطق الكمومي، نظرية فضاء هلبرت، نظرية المجموعات، الحوسبة، التحليل العددي، ديناميكا الموائع، علم الإحصاء، الفيزياء النووية، البرمجة الخطية.. الخ.!

لقد كان فون نيومان مرحا، بسيطا، متقبلا للحقائق بسهولة، لا يثير تساؤلات كثيرة أو جدل غاضب حول رفضه لوضع ما (مواقع التواصل الإجتماعي)
لقد كان فون نيومان مرحا، بسيطا، متقبلا للحقائق بسهولة، لا يثير تساؤلات كثيرة أو جدل غاضب حول رفضه لوضع ما (مواقع التواصل الإجتماعي)

ربما كانت أكثر صفات "نيومان" إثارة للانتباه هي قدرته على تقبل الأشياء4، حتى وإن لم يحبها، فهو ينصح شابا رياضياتيا مبتدئا بأنه "في الرياضيات نحن لا نفهم الأشياء، وإنما نعتاد عليها"، ويتعجب من "شكوى الناس من أنانية البشر وغدرهم"، بل يشبه ذلك كأن "تشتكي أن المجال المغناطيسي لا يزداد إلا بلف مجال كهربي" ويضيف أن "كلاهما من قوانين الطبيعة"، كيف لهم أن يشتكوا من قوانين طبيعية؟
 

أعتقد -ربما- أن تلك كانت سر هدوء "فون نويمان" الرئيس، لقد كان مرحا، بسيطا، متقبلا للحقائق بسهولة، لا يثير تساؤلات كثيرة أو جدل غاضب حول رفضه لوضع ما؛ بل يباشر بفهمه والتحقق منه، وإيجاد نماذج وبنيات يمكن لها تفسيره؛ لكن هناك شيئا واحدا فقط لم يتقبله "نويمان"، إنه المرض.!
 

تقبل "فون نويمان" كل شيء إلا السرطان، وارتعب من مجرد تصور أنه سوف يختفي وتختفي هوايته الوحيدة؛ والتي يعتبرها جزءا جوهريا من روحه، إنها قدرته على رؤية العالم بشكل بسيط ومبهر، على التفكير بطريقة كتلك، على اللعب بالبنى الفكرية للأشياء جميعها، تلك الومضة من السحر التي لم تفارقه طوال عمره. تكونت لديه في نهاية رحلته مع المرض صورة قاتمة عن نهاية يعرف أنها محتمة؛ لكنه لم يستطع تقبلها، أبدا.

المصدر : الجزيرة