ما هي البلورات الزمنية؟
حسنا، ما إن انتشر خبر الكشف الأخير حتى اشتعل انترنت العالمي، فالاصطلاح "بلّورات زمنية" يعطي انطبعا فانتازيًا بأن هناك شيء ما له علاقة بالسفر عبر الزمن إلى الماضي أو المستقبل، أو ربما خلق بوّابة ما من فيلم "دكتور سترينج" للانتقال من الصين إلى مصر في وهلة، أو ربما امتلاك نفس قدرته على اللعب في هيكلة المنازل والشوارع وبراميل القمامة، للأسف سوف أحطم آمالك هنا، ليس الأمر كذلك، فرغم غرابة ما حصلنا عليه، لكننا كالعادة أمام حفنة ضخمة من المعادلات والآليات الفيزيائية الكمومية المعقدة التي تحتاج لعدد كبير من الأسطر كي نحاول تبسيط ما يمكن تبسيطه منها، لذلك دعنا نترك عروض هوليوود المبهرة جانبا ونبدأ في تعلم بعض الفيزياء معا، خطوة بخطوة.
أما في الحالة السائلة فتمتلك جزيئات الماء درجة أقل من الطاقة، مما يجعلها في حالة من الارتباط الأكثر لينًا بين بعضها البعض، حيث يتغلب جذب الجزيئات فيما بينها على قدرة الواحد منها على الهروب من المجموعة، فتنتظم الجزيئات بصورة سائلة، ما إن يتعرض هذا السائل للتسخين حتى تكتسب جزيئاته قدرا ما من الطاقة التي تمكنها من التحرر من جديد واكتساب قدر أكبر من الحرّية.
في الحالة الصلبة، تقل درجة حرية ذرات المادة بشكل أكبر، لا تصل إلى الصفر ولكنها فقط تقل، وتنتظم ذراتها متخذة الشكل الصلب الذي نعرفه، حينما تصطف الذرات أو الجزيئات أو الأيونات الخاصة بالمادة بترتيب منتظم وبنموذج متكرر يمتد في الفضاء ثلاثي الأبعاد الذي نعرفه، نحصل على ما نسميه "البلورة Crystal"، بالضبط كما نرى في بلورات الملح أو السكّر الذي نستعمله بشكل يومي.
جميل جدا، الآن نحن نعرف ما تعنيه كلمة "بلّورة"، ويعني ذلك أننا قطعنا نصف الطريق نحو فهم مبتغانا، دعنا الآن نتخذ خطوة إضافية للأمام. حينما تقدم قدر من الطاقة لمادة في الحالة الصلبة سوف تبدأ تلك المادة في التغير، قد تتشوه صورتها وتتغير أشكالها، بالضبط كما يحدث حينما تقوم بتسخين مسدس الشمع اللاصق أو إشعال شمعة، تلين المادة لتقترب من الحالة السائلة حيث اكتسبت جزيئاتها قدرا من الطاقة.
بعد أن تتحول قطعة الشمع لشكل سائل، فتبدأ في فقد طاقتها سريعا حينما تسقط على جانب الشمعة وتتحول لصورة صلبة مرة أخرى، هنا نقول أن جزيئات المادة بددت الطاقة التي مرّت بها وعادت مرة أخرى إلى أقل حالة ممكنة من الطاقة تتواجد فيها المادة حالة الاتزان ( Rest state) ، وتسمى: الحالة الأرضية، في البلورات يحدث ذلك حينما تتوصل مكونات المادة البلورية إلى أقل حالة ممكنة من الطاقة للارتباط ببعضها البعض، وهي الحالة التي تقف فيها جزيئات البلورة بشكل ثابت ومستقر ومنتظم بلا حركة.
يشبه الأمر أن يبتلع برادلي كوبر تلك الحبّة الشفافة من فيلم( Limitless) فيكتسب قدرا عظيما من الطاقة فيدخل في حالة من عدم الثبات والتنقل بين عدة نشاطات معا في وقت واحد، ثم لا يلبث أن يعود لحالته الطبيعية الأكثر خمولا، واستقرارا، وهذا هو ما يمنع تكون تلك "الآلة المستحيلة" التي تظل تدور للأبد دون الحاجة لطاقة، لأن الأنظمة دائما تنزع إلى السكوت، إلى التوقف، إلى الاستقرار، ما لم تتعرض لقدر من الطاقة يثير انتباهها مرة أخرى، ثم لا تلبث أن تستقر من جديد، وتتوقف عن الحركة، الخلاصة إذا – بتبسيط مخل – تقول: أعطني قدرا من الطاقة وسأرقص طوال اليوم، لكن "لاطاقة" يعني "لارقص"
حينما ننظر إلى الكرة من أي موضع، من اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل، يمكن أن نقف هنا على اليمين أو هناك بالأسفل، أو في آخر الشارع، وننظر ناحيتها فنجد أن شكلها لا يتغير، إنها تبدو نفس الكرة في كل مرة، لا يتغير شكلها بالنسبة لك، هنا يمكن القول أن الكرة تمتلك تماثلا دورانيًا ( Rotational symmetry)، أما المكعب فيمكن لنا إدارته بمقدار 90 أو 180 أو 270 أو 360 درجة فقط ليبدو كما كان في كل دورة، غير ذلك فإنه يمكن أن يؤدي لأشكال مختلفة بالنسبة للناظر، هنا نقول أن المكعب "يكسر التماثل الدوراني"، دعنا الآن نسأل نفس السؤال بالنسبة لهذا الشكل القادم، أيهما أكثر تماثلا ؟
للوهلة الأولى تتصور أن الحالة A – لتكن بلورات الثلج – أكثر تماثلا من الحالة A- ليكن الماء السائل، حيث تبدو البلورات الثلجية أكثر انتظاما من الماء السائل، لكن دعنا نحاول إدارة المربع المحتوي على الماء السائل بأي درجة، 45 أو 75 درجة مثلا، هل يتغير شكله؟.. لا بالطبع، يظل في تلك الحالة من العشوائية التي تبدو متشابهة حينما ننظر لها من كل الاتجاهات، أما بالنسبة لبلورات الماء المرسومة في الخانة A فنحن بحاجة لإدارتها، أو إدارة رؤوسنا لكي ننظر إليها، بمقدار 60 درجة تحديدا في كل مرة حتى تبدو بنفس النمط، أي أن شكلها يتغير بالنسبة لنا كلما نظرنا إليها من موضع مكاني مختلف. هنا يقال أن البلورات تكسر التماثل الدوراني، دعنا نسأل سؤالا آخر: ما مدى سهولة نقل جزيء من الخانتين A و B، لأي مسافة إلى اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل؟
بالضبط، يمكن نقل أي جزيء من الخانة B لأية مسافة وفي أي اتجاه وسوف تظل الخانة الكاملة من الماء دون تأثر، أي تظل متماثلة، بينما يحتاج الجزيء من الخانة B، كريستالات الثلج أن يتحرك لمسافة محددة كي يتخذ موضعا في الشبكة البللورية، هنا يقال أن بلورات الثلج تكسر التماثل الانتقالي (Transitional Symmetry)، أي لا تتخذ جزيئاتها موضعا عشوائيا، بل -لنركز قليلا على تلك النقطة- تفضل هذا الموضع المكاني تحديدا في البلورة دون غيره.
يشبه التماثل الانتقالي أن تقوم بخبط رأسك في حائط طوله 10 متر، لا يهم في أي مكان تخبط رأسك في الحائط، فسوف تتألم بنفس القدر، أما كسر التماثل الانتقالي يمثل أن تقوم بخبط رأسك في سياج حديقة، هنا يؤثر موضع ضربك لرأسك بالسياج على درجة ألمك، فقد تخبطها في الخشب المكون له، أو للفراغات بين الأخشاب فلا تشعر بشيء.
أما عن كسر هذا النوع من التماثل، وهو الحالة التي توقع الفيزيائيون أنها -هي الأخرى- يمكن أن تنكسر، فيعني -دعنا نطبق ما تعلمناه منذ قليل- أنه يمكن للبلورة أن تتكرر وحداتها في الزمن، يعني ذلك أن تفضل جزيئات البلورة موضعا ما – ليس في المكان وإنما أيضا- في الزمن، هل يمكن أن يختلف شكل تلك البلورات -ليس باختلاف موضع نظرنا إليها- ولكن زمن رصدنا لها؟ يمكن، الآن نعرف أنه "بالتأكيد" يحدث، هذا هو ما يؤكده4 فريقينا من الباحثين.
حسنا، إنها لحظة إعلان الأوسكار، لكن بدون أخطاء هذه المرة:
لنربط كل الخيوط التي تعلمناها عن "كسر التماثل" و"حالة استقرار المادة" حتى نرى الصورة الكاملة، في البلورة العادية تستقر الجزيئات في حالة الطاقة الأدنى على شكل من الوحدات المتكررة التي تحدثنا عنها في بداية حديثنا، أي يمثل "كسر التماثل الانتقالي المكاني" هنا تلك الحالة من الاستقرار، أما في البلورة الزمنية فإن حالة استقرارها، الحالة الأرضية الأكثر اتزانا، هي حالة تكرار لوحداتها – ليس في المكان – وإنما في الزمن، يعني ذلك أنها في أقل حالة طاقة ممكنة لها، ومن دون حاجتنا لإضافة أي طاقة للنظام ، سوف يتغير شكل تلك البلورة مع الزمن بنمط منتظم، هنا تظهر غرابة تلك الأنواع من البلورات، يشبه الأمر أن ترى قطعة جيلي تغير شكلها باستمرار أمامك بدون أن يمسها شيء، فقط لأن ذلك جزء من طبيعتها.
لكن، دعنا نكرر، يعني ذلك أن تلك هي الحالة الأرضية للبلورة خاصتنا، حالة الاتزان الخاصة بها والتي لا يمكن أن تكون أقل من ذلك، يشبه الأمر أن يستمر برادلي كوبر في الرقص رغم انتهاء مفعول الحبّة، ذلك لأن جزيئات البلورة لا تتكرر فقط في المكان فتستقر، وإنما تتكرر في أربعة أبعاد فتستقر، في الزمكان نفسه، بعض أنواع الجيلي الراقص إذن سوف يظل يرقص للأبد، لأن حالة الاتزان – يتضح في النهاية أنها – هي حالة عدم الاتزان.
الكريستالات الزمنية هي إذا تكرار منتظم في الزمن لنمط لف مجموعة من الذرات، ولا تتوقف أبدا، لأن تلك هي حالة توقفها بالفعل، حالة من الرقص المستمر على أوتار جوهر ميكانيكا الكم العجيب |
هنا يتساءل البعض بدرجة عالية من الفضول: هل يكسر ذلك القانون الثاني للديناميكا الحرارية؟ أنت تتحدث عن آلة تستمر في العمل بشكل دائم، وذلك مستحيل حيث -حسب القانون- تنزع الأنظمة لفقد الطاقة والاتزان بعد حين؟.. في الحقيقة لا يمكن النظر للأمر من تلك الجهة، لأننا هنا لا نتحدث عن أنظمة تتواجد في ثلاثة أبعاد كالتي نعرفها، بل في أربعة أبعاد، لنقل – بتبسيط مخل لا يمكن استخدامه – أنه لا طاقة تستهلك هنا، لكننا نستهلك الزمن، لذلك فالإيحاءات المتعلقة "بالآلة الدائمة" أو "الآلة المستحيلة" أو صاحبة الاسم الأكثر درامية "آلة الرب"، لا يمكن الحديث عنها من وجهة النظر تلك.
دعنا في النهاية نوضح أن تلك النماذج التي نضربها في هذا هي أداة لتقريب الصورة، فالأمر أعقد من ذلك بكثير، ويتعلق كالعادة – فقط – بحالات كمومية وتشابكات كوانتية تتم في درجات حرارة شديدة البرودة تتخذ فيها الجزيئات في المادة سلوكا جمعيا، أي أنها تتعامل كوحدة واحدة، عبر خاصية للجسيمات تسمى "اللف Spin"، يشبه الأمر أن يتخذ 22 شخص من جمهور نادي الزمالك المصري ترتيبًا محددا في مدرجات إحدى المباريات ليحمل كل منهم لوحة لها وجهين، وجه أحمر وآخر أخضر، مكتوب على كل وجه حرف، حينما يقومون معًا برفع الوجه الأحمر نجد جملة تقول "الزمالك أفضل فريق في الكون"، أما إذا قاموا جميعا برفع الجانب الأخضر فسوف نقرأ "نفهم الكريستالات الزمانية".. لكن إذا رفع البعض منهم اللوحات الحمراء ورفع البعض الآخر اللوحات الخضراء فلن نفهم شيء.
الكريستالات الزمنية هي إذا تكرار منتظم في الزمن لنمط لف مجموعة من الذرات، فهي ترفع لوحات الزمالك تارة، ولوحات الكريستالات الزمانية تارة أخرى، ولا تتوقف أبدا، لأن تلك هي حالة توقفها بالفعل، حالة من الرقص المستمر على أوتار جوهر ميكانيكا الكم العجيب. حسنا، أن مردود ذلك الاكتشاف مستقبلا هو عالم واسع مفتوح من الاحتمالات، وكالعادة نقول، أنه كلما تقدمنا في سبر أغوار فهمنا للواقع، كلما ازددنا جهلا.