شعار قسم ميدان

لماذا تحتاج البيولوجيا لفلسفة؟

midan - bio

إذا كان القرن التاسع عشر كان قرن الحتمية؛ فيمكن القول1 إن القرن العشرين هو قرن اللاحتمية، فلقد تحرر العلم من كل تصور مرتبط بكون "نيوتن" الذي يمثل ساعة ضخمة منضبطة؛ بحيث تمكننا معرفة الظروف الأولية من توقع مستقبل أو حساب ماضي نظام ما، هنا تقدم "بيير سيمون لابلاس" ليقول إن كل ما نحتاجه هو قدرة على معرفة كل الظروف الأولية للكون، هنا يمكن التجول في مستقبله وماضيه كما تتجول في شوارع مدينة تعرفها جيدا، لكن ذلك لم يكن صحيحا.
 

في أوائل القرن العشرين دخلت ميكانيكا الكم للعبة لتضرب بما نسميه "كتاب الفيزياء الكلاسيكية المقدس" عرض الحائط، فتتحدد مفاهيم قوية وثابته كالموضوعية والحتمية السببية بعلاقات من عدم اليقين، والطبيعة الاحتمالية، ويدخل الملاحظ كجزء من عملية الرصد، ثم في منتصف القرن دخلت علوم التعقد للعبة، فتترنح الاختزالية النيوتنية وتظهر النظم المعقدة، وندخل إلى عالم الجواذب والاحتمالات والتراقص على حافة الفوضى.
 

في نفس الفترة، سبعينيات القرن الفائت، وبعد استكشاف التركيب الدقيق للحمض النووي، وبدء عصر الجينات، وتدخل الرياضيات والحوسبة لدعم تلك المسيرة المهيبة، والتطور الرهيب الحاصل في فهمنا لعلوم المخ والأعصاب، كانت البيولوجيا مركز تأمل الجميع في الوسط العلمي، واستشرفت إمكانات واعدة في النظرية والتطبيق، هنا انزاحت فلسفة العلم قليلا عن عالم الفيزياء وظهرت الحاجة لفلسفة تقوم بنقد وتفسير المنهج العلمي في حالة البيولوجيا، كعلم يسأل أسئلة أكثر تنوعا واختلافا.
 

لماذا الفلسفة هنا؟

undefined

 

هل يمكن اختزال الظاهرة البيولوجية إلى تفاعلات بيوكيميائية تحدث في جسم الإنسان؟ ما هي الحياة؟ وهل هي على كوكب الأرض فقط؟ ما هو النوع؟  وما الذي يجعلنا بشرا؟ هل يجب أن نحظر أبحاث العرق؟ هل من الأخلاقي أن نقتل هذا الكم الضخم من الفئران والقردة من أجل الحصول على نتيجة علمية ما؟ وهل يمكن أن يقودنا ذلك بشكل ما إلى تجريب غير أخلاقي على البشر؟ هل للإنسان -بسبب وعيه- الحق في السيطرة على العالم من حوله؟ كيف يمكن أن نواجه الإشكاليات الحالية المرتبطة بالتضخم السكّاني وتلوث البيئة؟ في الإجابة2 على السؤال الأخير -مثلا- سوف نحتاج للالتزام بمنهجية مبنية على فهم الجذور البيولوجية لتلك المشكلات.
 

دعنا نضرب مثالا آخر شهيرا، هناك مثلا عدة وجهات نظر لظاهرة العرق، فهناك مجموعة تقول إن العرق مركب بيولوجي يعتمد فقط على خصائص لها قاعدة جينية، على النقيض تماما تقول مجموعة أخرى إنه لا يمكن لنا تمييز البشر عرقيا على أساس علمي، بمعنى أنه بالفعل قد تكون هناك اختلافات بيولوجية؛ لكنها ليست ذات قدرة على صنع ما نسميه "العرق"، وهناك مجموعة أخرى تقول إن العرق -رغم وجود البيولوجيا- هو تركيبة اجتماعية لا علاقة لها بالبيولوجيا، إذن -هنا- يمكن للطريقة التي نرى بها اصطلاحات كالعرق، الجين، الجندرية.. إلخ، يمكن لها أن تحكم عمليات اجتماعية.
 

بسبب كم التهديدات الكبير الذي بات واضحا للبيئة، ظهرت الفلسفة البيئية والتي تهتم بدراسة البيئة الطبيعية وعلاقتها بالإنسان؛ حيث تهدف إلى إقامة التوازن بين رغبة الإنسان المتنامية فى السيطرة على البيئة وضرورة احترام الطبيعة

يتضح لنا -إذن- أن فلسفة البيولوجيا هي ربما فرع تطبيقي لفلسفة العلم، يختص بالتركيز على عدة قضايا لم تكن فلسفة العلم في العموم لتهتم بها، خاصة التساؤلات الأخلاقية، وتلك المرتبطة بمركزية الكائن البشري، والحياة ذاتها، هنا يمكن لنا تقسيم فلسفة البيولوجيا3 لعدة مناطق:
 

1-  تناول الأطروحات العامة لفلسفة العلم في سياق البيولوجيا، بمعنى أن البعض -مثلا- يمكن أن يستخدم فكرة عدم قدرتنا على اختزال علم الوراثة المندلي إلى البيولوجيا الجزيئية لتطبيقها بشكل عام يمكننا من القول إنه لا يمكن اختزال العلوم التطبيقية والمتخصصة إلى جذورها الأساسية، أو أن يستخدم الثورة الجزيئية في البيولوجيا والتي تحيل كل الحياة لترابط جزيئات الحمض النووي كي يثبت صحة الاختزالية.

2-  تأمل إشكالات مفاهيمية خاصة بالبيولوجيا فقط، كمشكلة الصلاحية التزاوجية مثلا، واعتبار البعض أنها جملة غير قابلة للاختزال على الأرض، أو أن القول بأن "البقاء للأصلح" هو جملة طوطولوجية لا تعطينا معنى إضافيا حينما نعرف الصلاحية باصطلاح "البقاء"، ينتقل ذلك بنا إلى الاهتمام بالإشكالات الخاصة بالبيولوجيا النظرية حينما نقوم بتطبيق البنيات الرياضياتية والحوسبة على نظريات بيولوجية وبناء نماذج تتمكن من محاكاة نظام حيوي.

 

3-  تناول موضوعات تتعلق باستحضار البيولوجيا إلى القضايا الفلسفية التقليدية ودعمها، أشهر الأمثلة هنا هو مشكلة الغائية، البيولوجيا التطورية تعرض ما نسميه التيليونومي (Teleonomy) المصطلح الذي صاغه كولين بيتندريش سنة 1958، القول إنه رغم ظهور البُنى الحية كأنما تم تصميمها بغاية مسبقة، فالصلاحية التطورية هو ما يُبقي على صفة ما ويمررها. على الرغم من عدم وجود خطة /غاية /هدف مسبق لصفة ما؛ إلا أنها قامت بخدمة وظيفة محددة، هنا تطورت تلك الفكرة لخدمة ظهور اصطلاحات معيارية مبنية على قاعدة علمية، كالعطب، والمرض، وتطور الأمر فيما بعد لظهور نظرية إيتيولوجية تشرح معنى الوظيفة، فوظيفة صفة ما هي ما يشرح لِمَ تم انتخابها في المقام الأول، نجد هذا المصطلح حاضرا بقوة في الفلسفة عموما وفلسفة اللغة والعقل خصوصا.
 

مشكلة التجريب

أهم المشكلات التي تواجه التجريب في عالم البيولوجيا هي اتساع مدى عدم مقدرتنا على التحديد، فهناك دائما درجة عالية من الاحتمالية (رويترز)
أهم المشكلات التي تواجه التجريب في عالم البيولوجيا هي اتساع مدى عدم مقدرتنا على التحديد، فهناك دائما درجة عالية من الاحتمالية (رويترز)

بالفعل هناك عدد ضخم من الموضوعات في فلسفة البيولوجيا المرتبطة بإشكالية التجريب في العموم، كإشكاليات السببية، وقصور التحديد، ودرجة اعتمادنا على النتائج، وآثار تلك التجربة؛ لكن في المقابل هناك بعض الموضوعات التي تختص ربما بالبيولوجيا فقط، سوف نوجز منها بعض النقط التي ربما تحقق لنا فهما أفضل لمدى خصوصية التجربة في عالم البيولوجيا وفلسفتها، ولنبدأ بسؤال مهم: ما الذي أضافته البيولوجيا هنا؟
 

على مدى زمني واسع ارتبطت البيولوجيا بالبيولوجيا التطورية، وكانت موضوعات التجريب مهملة لصالح الملاحظة؛ لكن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت مع التطور السريع والثوري في علوم الجينات والأعصاب والبيولوجيا الجزيئية والمناعة ظهر التجريب واتخذ مكانا قويا في البيولوجيا، ولا عجب هنا أن تكون فلسفة البيولوجيا هي المسئولة عن ظهور التجريبيين الجدد4 بقيادة "إيان هاكينج" الذي رفض مقولة "بوبر" القائلة إن "النظرية أولا" داعيا إلى إعادة فحص الأهمية الأبستمولوجية للتجريب.
 

تذهب مدرسة التجريبية الجديدة إلى عدة نقاط هامة لكن يقع في مركزها جميعا القول إن التجربة هي أمر مستقل عن النظرية، وهي غير مستغلة بشكل واسع؛ فالتجربة لا تقرر -فقط- صدق النظريات؛ وإنما تحمل دورا استكشافيا، لذلك على المجرب أن يخلق بعض الظواهر فربما عبر "تجربة مجنونة" تخرج كشوف جديدة، يمكن القول -إذن- إن التجارب التي تقودها النظريات تترك فقط مساحة صغيرة للنتائج غير المتصورة بشكل مسبق، هكذا يمكن للتجربة نفسها أن توجه خط سير العملية العلمية لطريق جديد مختلف؛ بدلا من محاولة الإجابة على سؤال نظري ما.
 

نقطة أخرى غاية في الأهمية يمكن خلالها أن نفهم بعض الفروق الجوهرية5 التي تُظهرها التجربة في عالم البيولوجيا، وهي أن التجربة في البيولوجيا غالبا ما تحتوي على عناصر كيفية بالدرجة الأكبر، على عكس التجربة في الفيزياء التي تحتوي عناصر كمّية، فالفرضية التي نختبرها بيولوجيا ربما تصف آلية ما أو خط سير عمل انزيم معيّن مثلا، ويتضمن ذلك وصف كيان ما كالكروموسوم أو البروتين أو الجدار الخلوي، كذلك قد يتضمن آليات عمل لخلايا مفردة أو مجموعات منها.
 

إيان هاكينج فيسلوف كندي متخصص في فلسفة العلم
إيان هاكينج فيسلوف كندي متخصص في فلسفة العلم
 

إحدى أهم المشكلات التي تواجه التجريب في عالم البيولوجيا هي اتساع مدى عدم مقدرتنا على التحديد، فهناك دائما درجة عالية من الاحتمالية، أو الوقوع في أسر قصور قدرتنا على تحديد الإشكال الذي يواجهنا أثناء التجريب؛ لذلك كان من الضروري أن تهتم فلسفة البيولوجيا بالاستدلال البايزي لتطوير تقييم احتمالات فرضية ما بعد اكتشاف دليل جديد، كذلك نواجه مشكلة في التعامل مع أجزاء من كائن يعمل كوحدة واحدة، فالنظم البيولوجية هي نظم معقدة (Complex systems) لها صفات أكبر من مجموع وحداتها، يظهر هنا التساؤل عن مدى صحة النتائج التي نحصل عليها في حالات كتلك، وعن كيفية اختبار صفات جديدة طارئة على النظم (Emergent Properties).
 

القول إن السلوك الاجتماعي له أصل تطوري بيولوجي هو إشكال ضخم يدفع بنا للكثير من التأمل حول كيفية قراءة نتائجه

نطاقات أخرى هامة

من الشائع في ذلك الفرع من الفلسفة أن يخرج فلاسفته من أكاديميا البيولوجيا ذاتها؛ حيث بالفعل تختلف فلسفة البيولوجيا عن البيولوجيا، ليس فقط في نوع المعرفة التي تتحصل عليها، لكن في طبيعة الأسئلة التي تطرحها؛ إذ يحتاج فيلسوف البيولوجيا إلى الاندماج بشكل أكبر من متخصصيها في تاريخها، مع اهتمام أقل بالمهارات الخاصة بها، على الرغم من ذلك لا يوجد حد فاصل بين نوعي الأسئلة في هذا المجال، خذ مثلا كتاب "الجين الأناني" لـ"ريتشارد دوكينز"، والذي يعبر عن تساؤلات تطرح نفسها في النقاش الفلسفي القائم.
 

كما قلنا، لا يمكن الخوض في كل الموضوعات التي تناقشها فلسفة البيولوجيا دفعة واحدة، لكن يجدر بنا الإشارة لبعض الإشكالات الهامة التي تجعل من فلسفة البيولوجيا كيانا مستقلا عن باقي فروع الفلسفة وفلسفة العلم، دعنا مثلا نتأمل مجموع الإشكالات المفاهيمية التي تسببت فيها البيولوجيا التطورية والتي تحظى بنصيب الأسد من الاهتمام، فحاول "إيليوت سوبر"، أستاذ الفلسفة بهارفرد، أن ينظر إلى التطور في وراثة الجماعات بالتعامل مع أسباب تردد الصفات /الآلائل، على أنها أنواع من "القوة" الضاغطة على الجماعة، تلك الأسباب كالانتخاب، الانحراف الجيني، الطفرات.
 

أما في في الثمانينيات فقد تسبب علم الاجتماع الأحيائي (Sociobiology) في جذب اهتمام الفلسفة للبيولوجيا، السوسيوبيولوجيا هي كما يعرفها "إدوارد ويلسون" البيولوجي الشهير بهارفرد "هي مد خطوط بيولوجيا الجماعات والبيولوجيا التطورية لتشمل التراكيب الاجتماعية"، فالقول إن السلوك الاجتماعي له أصل تطوري بيولوجي هو إشكال ضخم يدفع بنا للكثير من التأمل حول كيفية قراءة نتائجه؛ لذلك كان هذا الموضوع مثار جدل قائم تدخل فيه "ريتشارد ليونتين" و"ستيفن جاي جولد" للدفاع ضد الحتمية الجينية والقول بالتأثير الكامل للبيولوجيا على السلوك، يمكن أن نختصر تلك المعركة الضخمة في السؤال الأشهر: الطبع أم التطبع؟
 

إدوارد ويلسون البيولوجي الشهير بهارفرد  (مواقع التواصل)
إدوارد ويلسون البيولوجي الشهير بهارفرد  (مواقع التواصل)

في نفس السياق، وبسبب كم التهديدات الكبير الذي بات واضحا للبيئة، ظهرت الفلسفة البيئية6 والتي تهتم بدراسة البيئة الطبيعية وعلاقتها بالإنسان؛ حيث تهدف إلى إقامة التوازن بين رغبة الإنسان المتنامية فى السيطرة على البيئة وضرورة احترام الطبيعة وحقوق الكائنات الأخرى بها، وحقوق الأجيال القادمة فى هذه الموارد الطبيعية، تمتد تلك الفلسفة كذلك لتدعو إلى العودة إلى الطبيعة، فنحن جزء لا يتجزأ من الكون، وربما كانت معاناة الإنسان الحالية هي بسبب انفصاله عن الطبيعة، وعيشه ضمن مدن ملوثة لا تُساعد على "تفتحه الروحي"، فكأن العودة إلى الطبيعة هي عودة الإنسان إلى نفسه، يقول سكوليموفسكي7:
 

"الفلسفة الإيكولوجية تعني إعلان السلام وصونه مع أنفسنا ومع الخليقة كلِّها، فإن لم يتحقق هذا السلام لن نتمكن من إنقاذ الأرض. إنقاذ الأرض هو الحملة الروحية المتمثلة في تصحيح مسار قيمنا وفلسفتنا، تلك هي رسالتنا على الأرض".
 

بسبب خصوصيتها8 الشديدة إذن، تحتاج دراسة الظاهرة الحية لمنهجية مختلفة في التقصّي، ويستتبع ذلك وجود فلسفة مستقلة لفهم وتفسير ونقد تلك المنهجية والمكتشفات الناتجة عنها وأثرها على الفروع المعرفية الأخرى، لا يزال هذا الفرع من الفلسفة حديثا نسبيا، ولا يزال الجدل منعقدا حول عدة موضوعات أساسية تتعلق بالأنواع الثلاثة من الأسئلة المطروحة أول المقال؛ لكنه بدأ بالفعل رحلته وأصبح اهتماما أكاديميا رائجا؛ بل شهد تفرعا وتخصصا بداخله، لكن هدفنا كان الإشارة إلى أهمية ذلك الفرع من الفلسفة في إعطاء رأي مهم في قضايا غاية في الأهمية؛ خاصة حينما يتعلق الأمر بتأثير البيولوجيا على السلوك، وكذلك في تطوير مدى فهمنا للقضايا التي تتعلق بالمشكلات التجريبية؛ الإشكالات الإحصائية، مفهوم القانون والنظرية، النظم المعقدة، الاختزالية في فلسفة العلم عموما.

المصدر : الجزيرة