شعار قسم ميدان

الاكتشافات العلمية.. ما الذي لا نعرفه؟

ميدان الوعي
يحتل العلم في كل يوم أرضا معرفية جديدة، ويزيح الستار عن عجائب لم نكن لنتصور وجودها إلا في رحلات "أليس" ببلاد العجائب، تطير التقنية بنا لتلتقط صورا لبلوتو أو إشارات من كواكب تبعد عنّا مئات السنوات الضوئية؛ بينما ينجح الباحثون من لايجو في رصد موجات جذبوية صادرة من تصادم ثقبين أسودين على بعد أكثر من مليار سنة ضوئية، يساعدنا التلسكوب هابل في تحقيق إجابات غاية في الثقل عن أصل الكون وأعداد مجراته، وينجح العلماء يوما بعد يوم في صناعة آلات جزيئية وسبر أغوار المخ البشري لنعرف أين يكمن الذكاء، تدعونا تلك الطفرة المعرفية -خاصة في السنوات الأخيرة- للتساؤل فعلا عن المتبقي، عن تلك الأسئلة التي لا تزال بلا إجابات..!

 

في الحقيقة، يمكن القول إنه رغم تلك الطفرة العلمية الهائلة التي نعيشها، ورغم أن العلم قد تدخل بالفعل ليجيب عن أسئلة مجالات معرفية أخرى كالفلسفة، إلا أن هناك العديد من الأسئلة الأخرى الغير مجاب عنها، وما يثير الانتباه هو أن تلك المجموعة من الأسئلة لا تمس فقط موضوعات ذات علاقات جانبية بطبيعة وجودنا؛ لكن لها علاقة بجوهر وجودنا ذاته، فرغم كل المحاولات الحثيثة لفهم أصل وجودنا إلا أننا لا نزال أطفالا نحبو في صحراء المجهول الواسعة؛ لذلك، جهز نفسك لعدد ضخم من علامات الاستفهام خلال السطور القليلة القادمة.
 

من أين جاء ذلك كله؟

نحن لا نعرف لِمَ تتخذ الجسيمات الأولية في الكون كالإلكترون أو رفقائه من الكواركات، النيوترينو، الجلوونات هذه الحدود دون غيرها (مواقع التواصل الإجتماعي)
نحن لا نعرف لِمَ تتخذ الجسيمات الأولية في الكون كالإلكترون أو رفقائه من الكواركات، النيوترينو، الجلوونات هذه الحدود دون غيرها (مواقع التواصل الإجتماعي)


لا نعرف بعد، هناك محاولات كثيرة و أطر نظرية غاية في الرصانة لإعطاء بعض الإجابات؛ لكن لا شيء مؤكد، أو حتى يقترب من ذلك، حتى حينما نتعرف إلى "الفراغ الفيزيائي"
1 وندرس التموجات الكمومية التي تُنتج أزواجا من الجسيمات والجسيمات المضادة والتي تبقى لوهلة قصيرة للغاية من الزمن ثم تُفني بعضها البعض؛ فنتصور من وراء ذلك أنه يمكن لهذا الفراغ الفيزيائي الخالي بشكل ما أن ينتج مادة، في كل مرة نحاول الخوض في تلك النوعية من الأسئلة نتطرق فورا لموضوعات فلسفية عن الفروق بين العدم الفلسفي المطلق والفراغ الفيزيائي، لكن دعنا من ذلك كله الآن، فنحن حتى لا نعرف لِمَ تتخذ الجسيمات الأولية في الكون كالإلكترون أو رفقائه من الكواركات، النيوترينو، الجلوونات هذه الحدود دون غيرها، لماذا تتخذ تلك الكتل والشحنات واللف؟ بل دعنا ننقل تساؤلاتنا لمستوى أكثر سهولة ونرى إن كنّا نمتلك إجابات: لماذا توجد هناك أشياء؟
 

الأشياء تتكون من مادة، لكن هناك صورة كونية أخرى لا نجدها إلا بكميات ضئيلة للغاية في الأشعة الكونية، أو نحصل عليها في المعامل، وهي تشبه المادة التي نعرفها؛ لكن بشحنات مضادة، فالبوزيترون مثلا هو إلكترون بشحنة موجبة، تعد أفضل تكهناتنا عن بداية الكون ذاته هي نظرية الانفجار العظيم، لكنها تفترض أنه بعد لحظة الانفجار الأولى ظهرت كميات متساوية من المادة والمادة المضادة.
 

يؤدي ذلك بنا لتصور أن كل تلك المادة سوف تفنى حينما تلتقي بكمية متساوية من المادة المضادة؛ ليتبقى لنا كون من الطاقة فقط، لكن ذلك لم يحدث أبدا، لقد تمكنت نسبة من المادة، نسبة قليلة للغاية، من الهروب من تلك المعركة الكونية الأولى، والأكثر عنفا، لماذا حدث ذلك؟ و أين ذهبت المادة المضادة؟ يحاول العلماء فهم تلك الحالة من كسر تماثل الشحنة حاليا violationscharge-parity عبر دراسة اهتتزازات النيوترينو، في تلك الأثناء، رغم أننا لا نعرف -بعد- الكثير عن سبب انتصار المادة. في المقابل، تتساءل مجموعة أخرى من الباحثين عما نعرفه عن الكون؛ فإذا كان الكون هو قطعة جبن كبيرة مكونة من مئة مكعب صغير، فنحن لا نعرف بعد إلا خمسة مكعبات فقط !
 

يتكون العالم الذي نعرفه من المادة، الكواكب، النجوم، المجرات، الشاي، و ساندويتش الهامبرجر، لكن كل ما نعرفه عن الكون ينحصر فقط في أقل2 من 5% من مكوناته، بينما يتبقى 25% للمادة المظلمة و70% للطاقة المظلمة، وكلاهما هو شيء لا يمكن لنا رصده، لكننا نرصد أثره؛ فجاذبية المادة التي نعرفها لا تتمكن من تشكيل المجرات مثلا، وبدون المادة المظلمة سوف يتكون الكون من كميات مهولة من النجوم المبعثرة؛ حيث إن النجوم في أطراف المجرات تجري بسرعات أكبر من تلك التي يجب أن تسمح بها قوانين الفيزياء، وبالتالي من المفترض أن تفلت منها؛ لكن ذلك لا يحدث بسبب وجود "شيء ما"، هذا الشيء لا يشع أي شيء، ولا يتفاعل مع الضوء أو المادة؛ لكنه يؤثر على الأشياء جذبويا فقط.
 

الإنفجار العظيم  (مواقع التواصل الإجتماعي)
الإنفجار العظيم  (مواقع التواصل الإجتماعي)

حينما نحاول رصد تمدد الكون نجد أنه يتسارع عن ذي قبل، وتلك مشكلة غريبة، إذا كان الانفجار العظيم قد دفع الكون للتمدد بالفعل، فلم لا تقل سرعته مع الوقت كأي شيء آخر؟، يشبه الأمر أن تلقي بقطعة طوب إلى الأعلى، سوف تقل سرعتها بالتدريج إلى أن تصل إلى صفر ثم تبدأ في النزول مرة أخرى بفعل الجاذبية، لكن ماذا لو وجدت أن سرعتها تزداد كلما ارتفعت؟
 

هنا سوف تتصور أن هناك شيئا ما يدفعها للأعلى، هذا هو ما نسميه "الطاقة المظلمة"، و هي نوع لا نفهمه من الطاقة يتزايد مع الزمن ويدفع المزيد من الفضاء للتكون بشكل متسارع، يعتبر بعض العلماء أن الطاقة المظلمة هي فقط إحدى خصائص الفراغ؛ حيث يتمكن من خلال طاقته الخاصة أن يخلق المزيد من الفراغ، كذلك يربط البعض ما بين الطاقة المظلمة وبين الطاقة الناتجة عن التموج الكمومي، وتهتم مجموعة أخرى بالتعامل معها كمجال من نوع مختلف يملأ الكون كله، لكننا في كل الأحوال لا نعرف أي شيء عنها بعد.
 

ها نحن نتأرجح على حافة الجهل بكل شيء تقريبا، نعم نمتلك هواتف ذكية وسيارات ذاتية القيادة وجاستن بايبر، لكن ما نعرفه عن الكون (المادة، وجودنا ذاته..) لا يقترب حتى من حجم حبة رمل في صحراء الربع الخالي، هنا ربما سوف نشعر بالملل قليلا، ونود تغيير دفة القيادة نحو جزء آخر من المعرفة العلمية، ربما تكتمل إجاباتنا هناك، دعنا نسأل عن أهم شيء في حياتنا.
 

ما هو الوعي؟
undefined

للوهلة الأولى قد يبدو التساؤل عن وجود الوعي هو مشكلة نقترب من حلها بالفعل، أو أن هناك طريقا ما واضحا للوصول للإجابات؛ لكننا لا نزال في منتصفه مثلا، إلا أن مشكلة الوعي أكبر من كونها علمية! لتوضيح ذلك دعنا نتعرف على عملية جراحية تدعى "استئصال نصف الكرة المخية"، وهي تعني إزالة نصف المخ لغرض طبي -غالبا- ذي علاقة بالصرع، بعد الجراحة سوف يستكمل المريض حياته بنصف مخ، لنفترض أننا تمكنا من قسم مخك إلى نصفين ووضع كل منهما في جمجمة فارغة بجسم ما؛ أي المخين سوف يكون "أنت"؟
 

أنت تعرف شعور أن تكون أنت3، تعرف أن لك كيانا خاصا بك، يفصل أفكارك وتصرفاتك عن العالم كأشياء وكأفراد، حينما تقرأ تلك الجملة الآن فأنت تعرف أنك "أنت" تقرأ تلك الجملة من خلال وجودك في هذا الجسد، هذا هو ما نسميه "الوعي"، وهو شيء خاص بك، حتى إنك لا تستطيع التأكد من وجوده في الآخرين من حولك؛ لأن التصرف كواعٍ لا يمكن اختباره إلا من خلال شخص واحد فقط، الشخص الواعي نفسه.
 

لكي نفهم ما تعنيه مشكلة البيولجيا مع الوعي دعنا نفترض أن هناك حجرة كمومية ما يمكن لها أن تنقلك لكوكب المريخ في عدة ثواني، آلية عمل تلك الحجرة بسيطة، سوف تقوم أجهزة الحجرة بأخذ نسخة طبق الأصل من أعداد وتموضع وتوجهات كل ذرة في جسمك وطباعتها في حجرة أخرى على المريخ بينما -أثناء ذلك النسخ- سوف يحترق جسمك هنا في لحظة، وتظهر أنت في المريخ، والسؤال هنا: هل من ظهر على المريخ هو أنت؟ إن له نفس خلاياك العصبية، وانثناءات مخك، وسرعة إشاراتك العصبية ودرجات تنوعها بالضبط، هل هو أنت؟
 

تجربة فكرية أخرى شهيرة تعنى بتوضيح نفس الفكرة، لنفترض أن هناك إمكانية من نوع ما لاستبدال خلايا جسمي بخلايا جسمك، خلية بخلية، نحن نقف أمام بعضنا البعض الآن، ويقوم جهاز ما عالي التقنية بأخذ خلية منك واستبدالها بخلية في جسدي، وهكذا باستمرار، والسؤال هنا: في أية مرحلة بالضبط يمكن القول إنني أصبحت أنت؟

يحاول بعض الباحثين دراسة وعي الأطفال في مقابل تطوراتهم الدماغية قبل سن الثالثة؛ حينما لا يتمكن أي منهم من تطوير مفهوم شخصي عن هويته المنفصلة عن العالم.
يحاول بعض الباحثين دراسة وعي الأطفال في مقابل تطوراتهم الدماغية قبل سن الثالثة؛ حينما لا يتمكن أي منهم من تطوير مفهوم شخصي عن هويته المنفصلة عن العالم.

هنا تتضح المشكلة، فالوعي هو "شيء ما"، لا يتجزأ بتلك الطريقة، ولا يمكن اعتباره جزءا من المخ بتلك البساطة والاختزالية. يتصور العلماء أن الوعي هو ما نسميه "خاصية منبثقة Emergent Property "، الانبساق في عالم التعقد Complexity هو ظهور صفات إضافية أكبر من مجموع صفات وحدات النظام المفردة، يشبه الأمر أن تقوم بتجميع أجزاء سيارة ما، ما إن تضعها جميعا بطرق محددة وتموضع منضبط سوف نحصل على "السيارة" التي تؤدي وظيفة محددة لا يمكن لأي من أجزائها تأديتها بشكل منفرد، يتكون المخ من 85 مليار خلية عصبية ويستهلك 20% من طاقتنا في تلك المساحة الصغيرة، ربما تتمكن تلك الشبكة الضخمة من العلاقات من تطوير صفة منبثقة، وهي الوعي.

يحاول الكثير من الباحثين ربط وجود الوعي بمناطق محددة في المخ، ويحاول البعض الآخر دراسته من خلال الاعتلالات الإدراكية بمختلف أنواعها، ويدور البعض الآخر في إطار دراسة وعي الأطفال في مقابل تطوراتهم الدماغية قبل سن الثالثة؛ حينما لا يتمكن أي منهم من تطوير مفهوم شخصي عن هويته المنفصلة عن العالم، وفي الجهة الأخرى يحاول بعض الفيزيائيين فهم الوعي عن طريق آليات لها علاقة بميكانيكا الكم، هناك الكثير من الحلول المحتملة، لكن لا تأكيدات بعد؛ لا تأكيدات -حتى- على إمكانية التوصل لإجابة من عدمها.
 

هل نعرف شيئا؟
undefined

العديد من الأسئلة التي تلقي بظلالها دوما على فضولنا الواسع، ما هي الحياة؟ هل يمكن أن توجد حياة عاقلة في أي مكان في الكون؟ هل يمكن أن نسافر في الزمن؟ هل يمكن أن نهزم السرطان؟ هل يمكن أن نحصل على آلات ذكية؟ ما هو الذكاء؟ … إلخ، يمكن أن نستمر حتى صباح اليوم التالي في التساؤل دون الحصول على إجابات؛ بل إن ماركوس دي سوتوي أستاذ الرياضيات في جامعة أوكسفورد يتحدث في كتابه "ما الذي لا يمكن أن نعرفه؟" عن بعض النطاقات التي ربما لن نتمكن من التعرف إليها مهما بلغت عقولنا وأدواتنا من قوة، إنها نطاقات التعقد Complexity، والتي تفتح الباب بشكل دائم لعدد ضخم من الاحتمالات والتي لا يمكن لنا توقعها مهما حدث.!
 

للوهلة الأولى يبدو الوضع محبطا، فبعد أربعمئة سنة من العلم ما زلنا لا نستطيع وضع إجابات عن تلك الأسئلة الأساسية، لكن هذا -ربما- قد يكون هو طبع العلم. في البيولوجيا4 يبدأ التطور من مشكلة تتعلق بتغير بيئي أو نقص في الموارد أو شيء آخر، يدفع ذلك لنوع من التنافس بين الأفراد ثم ينجح الأفضل بينهم في إقامة عملية تزاوج آمنة، فيتمكن هو -دون غيره- من تمرير صفاته الجينية، ثم تواجه الأفراد الجدد مشكلات جديدة كنتيجة لعلاقاتها الجديدة مع البيئة الجديدة، فتظهر ضغوط جديدة، وهكذا.
 

يمكن النظر ناحية تقدم العلم بنفس الطريقة؛ حيث نبدأ من مشكلة ما، ثم -عبر المحاولة و الخطأ- نبدأ في حلها، نفترض حدوسا، ثم نفندها، وتظهر بعض النظريات أقدر من الأخرى على تحمل التمحيص العقلاني، هنا تظهر مشكلات جديدة بعدد أكبر من وراء تلك المعارف الجديدة، وسوف تحتاج لإجابات جديدة، وتستمر العملية؛ نستمر في اللهث -بدافع الفضول- وراء شطوط المجهول المترامية.
 

هنا يرى كارل بوبر (فيلسوف العلم الأشهر) أن أفضل طريقة لتقييم مدى تقدمنا هي مقارنة مشكلاتنا القديمة بالجديدة؛ فإذا كان التقدم الذي أحرزناه عظيما سوف نجد مشكلات من نوعية جديدة أكثر عمقا وعددا؛ أي أننا كلما ازددنا علما  نزداد جهلا، يقول سقراط "فكل ما أعرفه هو أني لا أعرف".

المصدر : الجزيرة