شعار قسم ميدان

فلسفة العلم عند توماس كون

ميدان - العلم

يذهب العلماء في الصباح لمعاملهم ومكاتبهم في الجامعات على أمل أن يتمكنوا من تحقيق إنجاز علمي عظيم بقوة نسبية آينشتاين أو مسارات فاينمن التكاملية، يبدو لكل واحد منهم أن العلم هو تجربة خاصة به وبما يمكن له أن ينتج، تمر أيام وأسابيع وربما سنوات حتى يتحصل أحدهم على شيء جديد أو فكرة مختلفة، ينبهر بها كما يفرح الطفل بدمية جديدة ويبدأ في صياغة نظريته.

العجيب في الأمر هو أنه لا أحد منهم أو حتى من مجموعة فلاسفة العلم التي تسهر حتى صباح اليوم التالي لتتأمل مجموعات من الأبحاث والكتب العتيقة والحديثة، يعرف سبب حدوث اكتشافات كتلك أو نمط تطورها، أو الآليات الدائرة لتبريرها بحيث تصبح جزء من قاعدة بيانات العلم المهولة المبنية على مدى مئات الأعوام، هذا المقال يتحدث عن أحد تلك المحاولات الهامة، وصاحبة التأثير الأكثر شهرة خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
 

مراحل تطور العملية العلمية

قبل توماس كون تصور الفلاسفة1 والمؤرخون أن العلم يتطور بنمط خطي، بالضبط كما يظهر في ذلك الشكل البياني المرفق، خط شبه مستقيم يعبر عن نمو العلم عبر تراكم النظريات العلمية ببطئ شديد مع الزمن، يشبه الأمر أن تقوم بكتابة دفتر كامل يدعى "العلم" بمعدل يقترب من "صفحة" كل يوم.
 
undefined
 

كان  توماس صاموئيل كون على بعد سنة واحدة من نيل درجة الدكتوراه في الفيزياء حينما دعاه رئيس جامعة هارفرد جيمس كونانت لدراسة منهج تاريخ العلم سنة 1948، وككل فيزيائي وقتها كان كون على قناعة أن العلم يتطور للأمام بشكل منتظم وتراكمي، لكن دراسته لتاريخ العلم سببت له ما يمكن أن نسميه "صدمة معرفية"، حيث أن ما رآه عبر تاريخ العلم لم يكن بالتأكيد متوافقا مع تصوراتنا الساذجة عن تطوره.
 

فتاريخ العلم مليء بالأخطاء والتناقضات والإشكالات المعرفية، والأفكار التي تظل ثابتة على مدى زمني واسع ثم يتضح في النهاية أنها هراء كامل كالفلوجستون مثلا، كما أنه لا يتطور بشكل خطّي بسيط وإنما يشبه الأمر القفزات.

ولكي نفهم نمط تطور العلم عند كون دعنا نتخيل دخول الأرض في العصر الجليدي، قبل العصر الجليدي كانت هناك قوانين محددة تحكم الكوكب، فالطقس لا يزيد عن 40 درجة ولا يقل عن 5 في منطقة ما مثلا، والرياح لا ترتفع سرعتها أو تنخفض عن معايير محدده، ويرتبط تفتح الأزهار وسقوط الأوراق من الأشجار وهجرات أنواع معينة من الطيور والأسماك بتقلب درجات الحرارة في أوقات محددة بشكل محدد.
 

وعلى مدى مئات الآلاف من السنين تظل تلك القواعد التي تتصرف الكائنات الحية على أساسها في هذا الكوكب، ثم يحدث أن يتغير ميل الكوكب بدرجة طفيفة، وهنا يبدأ النظام بالخروج عن الحدود في سرعة الرياح في منطقة ما مثلا، وكذلك درجات الحراة في الأقطاب، وتتطور الأجواء بشكل سريع وتبدأ الأمور في التغير وندخل بالفعل في عصر جليدي، فتتصرف الكائنات الحية خلاله بقواعد مختلفة تماما عن العصر السابق.


علم الكلمات المتقاطعة

ليس ذلك التشبيه دقيقا بما فيه الكفاية لشرح ما يعنيه تطور العلم عند توماس كون، لكنه يخدم هدفنا حتى الآن، فالعلم لا يتطور بنمط منتظم ولكنه أقرب ما يكون لثورات، يمكن لنا إذن تقسيم تقدم العلم حسب كون إلى مرحلتين:

undefined

العلم القياسي (2Normal Science)  هو العلم الذي يمارسه العلماء بشكل يومي، بالضبط كما تصرفت الحياة بقواعد محددة خلال العصر قبل الجليدي، تلك القواعد هنا هي المفردات النظرية التي يعتمد عليها العلماء في أثناء بحثهم، وهي تلك المكتوبة في المراجع التي يعتمد الجميع في الوسط العلمي عليها لدراسة قضية ما، كذلك تقع نوعية الأسئلة التي يجب أن يسألها الباحث وكيفية فحص تلك الأسئلة، وكيفية تفسير النتائج المترتبة على ذلك ضمن مفهوم العلم القياسي، إنه ما يفهمه العلماء عن العلم وعن كيفية ممارسته، أو بمعنى أدق ما يتفق عليه العلماء ليصبح هو العلم.

يضطر بعض العلماء لتغيير طريقة تفكيرهم جذريا بحيث يقوموا بالخروج بشكل ما عن الفروض الأساسية المكتوبة في مراجعهم والتي يعتمدون عليها كل يوم في ممارسة مناهجهم

خلال تلك الفترة يكون كل ما يهم العلماء هو حل الأحجيات "المشكلات العلمية" وملء الفراغات في مخطط معارفهم، يشبه الأمر أن تلعب "الكلمات المتقاطعة"، سوف تكون وظيفتك خلال فترات العلم القياسي أن تقوم باستخدام مجموعة المعلومات المعطاة بجانب مربع اللعبة والربط فيم بينها، واستغلال البعض لمساعدتك على فهم الآخر، فتتسبب كلمة أفقية مثلا في تعرفك على أحد حروف أخرى رأسية كانت القاعدة التي تشير لها تحمل أكثر من معنى، كأن تكون الرأسية مثلا تعني "ملل" أو "ضجر" وكلاهما ينفع فهو مكون من ثلاثة أحرف، لكنك بمساعدة الكلمة الأفقية "حوائج" وجدت أن الثاني في الرأسية هو "ج"، فالكلمة إذا هي ضجر، ملء الخانات الفارغة بالحروف حتى تنتهي اللعبة بالكامل هو الهدف الكامل هنا.

في أثناء ممارسة العلماء لعملهم اليومي قد يحدث أن تظهر حالة شاذة ما، نتيجة تجريبية تختلف مع المفترض حدوثه، هنا -في البداية- يظن الباحث أن هناك خطأ ما في التجربة أو في فهمه لها، أو ربما لأنه غير متخصص في جزئية ما قرر أن يخوض فيها لأنها مرتبطة ببحثه، سوف يحاول تغطية تلك الحالة الشاذة بوضع فرض إضافي ما مثلا أو بتعديل التجارب، أو الاستعانة بوجهات نظر من علوم أخرى قد ينجح في ذلك وقد لا ينجح.

وحينما تتطور تلك الأزمة وتتراكم الحالات الشاذة "تحدث الكارثة" بتعبير توماس كون، نحن أمام مشكلة حقيقية لم يكن من الممكن حلها أبدا مهما كررنا التجارب أو أضفنا فروض مساعدة، هنا يفقد المجتمع العلمي الثقة في مفرداته التي يعتمد عليها، ويضطر بعض العلماء لتغيير طريقة تفكيرهم جذريا بحيث يقوموا بالخروج بشكل ما عن الفروض الأساسية المكتوبة في مراجعهم والتي يعتمدون عليها كل يوم في ممارسة مناهجهم.

 

علم الثورة
 

تجربة مايكلسون ومورلي واحدة من أهم التجارب  التي تعارض نظرية الأثير (مواقع التواصل)
تجربة مايكلسون ومورلي واحدة من أهم التجارب  التي تعارض نظرية الأثير (مواقع التواصل)

لكي نتعلم أكثر عن علم الثورة3 دعنا ندرس تلك النقطة الزمنية التي ظهرت عندها النسبية على يد آينشتاين، في البداية كان المجتمع العلمي متفق على عدة قواعد يمارس بها عمليته العلمية بشكل يومي متزن وهادئ كجريان نهر، أحد الفرضيات التي اتفق عليها الجميع كانت فكرة "الأثير"، هذا الوسط الذي يسمح بانتقال الضوء في الفراغ، لكن ذلك استدعى أن تكون سرعة الضوء في اتجاه الأثير مختلفة عن سرعته عكس اتجاهه، يشبه الأمر أن تمشي بقارب مع أو ضد اتجاه تيار الماء، في الحالة الأولى سوف تكون أسرع، لكن مشكلة ما ظهرت حينما حاول كل من مايكلسون ومورلي قياس ذلك الاختلاف في السرعة عبر جهاز حديث قاما بتطويره، فسرعة الضوء تظل ثابته مهما تغير اتجاه قياسنا لها.
 

تم تكرار التجربة أكثر من مرة وقام بعض الفيزيائيين بوضع حلول مكملة أو مساعدة لكن أحدا لم ينجح، هناك مشكلة حقا لا يمكن تجاوزها ثم يظهر آينشتاين الذي ربما سأل نفسه ببساطة "إذا كانت كل الطرق غير ممكنة، وكل المحاولات لهضم ذلك الاكتشاف باءت بالفشل، فهل من الممكن أن يكون الحل في أن نحاول إعادة النظر للقواعد التي نعتمد عليها لتحليل مشكلاتنا؟ الخلفيات نفسها؟ ما تقوله المراجع؟ ميكانيكا نيوتن التي ظلت متربعة على عرش الفيزياء لأكثر من 200 سنة؟"، لن نتعجب إذن حينما نعرف أن آينشتاين نشر بحثه الأول في النسبية الخاصة بلا مراجع.
 

ثورة العلم يشبه فيها الأمر أن تلعب "الكلمات المتقاطعة" في جرنال الأهرام ثم تتحول فجأة للعب نفس اللعبة لكن في جرنال الأخبار، إنه نفس عدد المربعات، لكن القواعد بالكامل مختلفة

هنا تحدث الثورة يسميها توماس كون "تحول البارادايم (Paradigm Shift) أو تحول النموذج الإرشادي، حيث يظهر بعض العلماء بأفكار مختلفة تماما لا تتبع القواعد التي ظلت سائدة لعشرات الأعوام الفائتة وربما لقرون، تلك الأفكار ليست فقط مجرد نظريات جديدة مختلفة أو محددة تجاه أزمة ما، لكنها ثورة حقيقية في كيفية فهمنا للعلم.
 

دعنا ننظر إلى مثال شبيه تخيل أن دولة ما كانت بنظام حكم ديمقراطي، تحولت بعد 50 سنة لنظام حكم ديكتاتور مستبد، هنا سوف تختلف كل القواعد تماما ما بين الفترتين، ليست الفكرة أن تجيب على مشكلة واحدة في النظام السابق أو تقوم بتفسير نقطة واحدة فقط في البارادايم السابق لكنك سوف تغير كل شيء:

1- سوف تتغير نوعية المشكلات التي تواجهها فالمعارضة مثلا لم تكن مشكلة في نظام ديمقراطي، فهي شيء طبيعي هناك لكن نظام ديكتاتوري مستبد يعتمد المعارضة كمشكلة حقيقية، كما ستظهر مشكلات في نظام توزيع الثرورة وكيفية إدارة الإعلام ووضع موظفي الدولة، كما ستختفي موضوعات كنّا نعتبرها أساسية كالانتخابات أو مجلس النواب.. إلخ.

2- سوف تتغير نوعية الأسئلة التي يجب أن نطرحها حول كل تلك الإشكالات، وستتغير الطريقة التي نتحقق بها من صلاحية تلك الأسئلة أصلا، ففي نظام مستبد -مثلا- لا حاجة للسؤال عن دور مجلس النواب في أزمة الطاقة، لفا يوجد مجلس نواب هنا يا صديقي لقد حذفوه من المنهج.

3- يشبه الأمر أن تلعب "الكلمات المتقاطعة" في صحيفة الأهرام مثلا ثم تتحول فجأة للعب نفس اللعبة لكن في صحيفة الأخبار، إنه نفس عدد المربعات، لكن القواعد مختلفة تماما.
 

لو نتصفح مرجع يدرسه طلبة الفيزياء بقواعد نيوتن، سوف يعرفهم المرجع أن الضوء يتكون من وحدات مادية، أما حديثا فسوف يدرس الطلبة الضوء على أنه فوتونات (غيتي)
لو نتصفح مرجع يدرسه طلبة الفيزياء بقواعد نيوتن، سوف يعرفهم المرجع أن الضوء يتكون من وحدات مادية، أما حديثا فسوف يدرس الطلبة الضوء على أنه فوتونات (غيتي)

لنحاول تصفح مرجع يدرسه طلبة الفيزياء بقواعد نيوتن، سوف يعرفهم المرجع أن الضوء يتكون من وحدات مادية (Corpuscles)، وسوف يعتبر الطلبة أن ذلك هو الفرض الرئيسي الأساسي الذي سوف نبدأ به، إنه القاعدة التي لن نسأل عنها أبدا، هذا ما يحدث في فترات العلم القياسي، هناك قواعد لا يحتاج الباحثون للتساؤل عنها، وهناك مفردات محدده يتحدثون بها ومراجع يتعلم كل الوسط العلمي منها، ثم بعد ذلك يأتي كل من يونج وفيرنل مثلا ليغيروا تلك الوجهة، فيبدأ الطلاب في علم قياسي جديد باعتبارات جديدة تقول أن الضوء هو موجات وليس جسيمات، أما حديثا فسوف يدرس الطلبة الضوء على أنه فوتونات وأن تلك الفوتونات تخضع لقواعد ميكانيكا الكم التي تقول بازدواجية الموجة/جسيم.

في كل من تلك الحالات الثلاث كان على الباحثين اعتبار أن الأمر غير ممكن أن نسأل عنه، فهو قاعدة تم اختبارها مرارا وتأكدنا منها، كل حالة هنا هي نموذج إرشادي كامل مختلف ذا قواعد مختلفة.

ورغم جمال تلك الفكرة عن العلم وبساطتها للوهلة الأولى، إلا أن ما تقدمه من تعقيدات كارثية وما تفرضه من مشكلات في مواجهة عقلانية العلم وتصرفات العلماء في أثناء الثورات، هو لا شك واحد من أعظم المواجهات على ساحة العلم وفلسفته، ولشرح تلك التعقيدات نفرد مقالا آخر نتعمد فيه -كالعادة-  استخدام أقل عدد ممكن من الكلمات المعقدة وأكبر قدر ممكن من المقاربة لحياتنا اليومية، بحيث يصبح المفهوم بسيطا، وممكن الهضم.

المصدر : الجزيرة