شعار قسم ميدان

الرائع سيد فاينمان

ميدان- فاينمان
"القاعدة الأولى هي أنه لا يجب أن تخدع نفسك، وأنت أسهل شخص يمكن خداعه"

 

كان لقائي الأول مع ريتشارد فاينمان عبر حواره التليفزيوني الشهير في أوائل الثمانينات من القرن الماضي مع بي بي سي، كان الشخص الذي رفع الفيديو إلى يوتيوب قد عَنونه بـ "الرائع سيد فاينمان"، والذي أصبح عنوانا فيما بعد لوثائقي عن الرجل ظهر في سنة 2013، بينما كان العنوان الحقيقي لذلك اللقاء الأول هو "متعة اكتشاف الأشياء" والذي تحول لواحد من أجمل كتب ريتشارد فاينمان وأكثرها رواجا، بعد انتهائي من الاستماع للحوار كان فاينمان أقرب الفيزيائيين لقلبي، تحوّلت الكتابة عن ريتشارد فاينمان والقراءة له والاستماع لمحاضراته في الفيزياء إلى متعة حقيقية متعة اكتشاف الأشياء.

 

لسبر أغوار عالم فاينمان سوف نبدأ بفهم إنجازه الفيزيائي الأشهر، ينص "مبدأ أقل فعل" 1 (Principle Of Least Action) في الفيزياء على أن أي جسم يختار كي ينتقل من النقطة "أ" إلى النقطة "ب" أن يبذل أقل فارق ممكن في القيمة بين طاقتي الوضع والحركة، دعنا نبسط ذلك بالقول أن الجسم -أي جسم-  ليكن كرة قدم تلقي بها في السماء ثم تعود إليك، يختار أن يمر بالمسار الذي يبذل فيه أقل قدر ممكن من الطاقة، وهو أن تصعد الكرة في خط مستقيم للأعلى ثم تقف وتبدأ في النزول على نفس الخط، لا أن تذهب يمينًا أو يسارًا في أية مسارات معوجّة، فقط تختار هذا المسار في كل مرة.
 

حينما تلقي الكرة للأعلى فإنها تتبع فقط المسار الأحمر، أما لو كانت كرة كمومية فإنها تتبع كل المسارات الممكنة، كالمسارات الخضراء (مواقع التواصل)
حينما تلقي الكرة للأعلى فإنها تتبع فقط المسار الأحمر، أما لو كانت كرة كمومية فإنها تتبع كل المسارات الممكنة، كالمسارات الخضراء (مواقع التواصل)

 

بالطبع يمكن أن نفهم كل ذلك، فهو طبيعي ونراه في حياتنا اليومية، لكن كعادة عالم الكوانتم فإنه حينما يصغر الحجم ليتخطى الذرة فإن الأعاجيب تبدأ في الانبثاق، هنا يتحدى فاينمان المبدأ الكلاسيكي القائل بأقل فعل ليؤكد أن الجسيمات حينما تنتقل من النقطة أ للنقطة ب تعتبر كل المسارات الممكنة في الزمن والمكان، وأنا هنا أعني كل مسار محتمل، عدد لا نهائي من الاحتمالات، فإذا كان الجسيم سوف يذهب من يدك اليمنى إلى اليسرى بينما أنت تقرأ هذا المقال فأحد الاحتمالات -بتبسيط مخل- هي أن يسافر الجسيم أولا إلى مجرة القبعة المكسيكي من كوكبة الأسد والتي تقع على بعد ثماني وعشرون  مليون سنة ضوئية ثم يعود لليد اليسرى، يسمى ذلك المفهوم بـ "حاصل جمع التواريخ" (Sum Over Histories).

 

نعم، يعد ذلك صارخًا للغاية بالفعل، كيف يمكن أن نقبل تلك البلبلة بكل بساطة؟ لذلك كانت تلك الأفكار صادمة -بل غير مفهومة- لفيزيائيي الكم أنفسهم كـ "نيلز بور" و"بول ديراك"، في الحقيقة يعطينا ذلك طرف الخيط الأول في رحلتنا مع عقل ريتشارد فاينمان، فهو يرى أنه حينما نحاول استكشاف شيء مجهول بالنسبة لنا، أمر جديد، نطاق بحثي لا نعرف عنه أي شيء بعد، يجب علينا أن نبتعد عن كل رؤية مسبقة تصف هذا الشيء، حينما نسأل -مثلًا- إن كان ما بداخل الذرة جسيمًا أو موجة فنحن نحاول تصوير ما بداخل الذرة بلغتنا بينما لا يبدو ذلك صحيحًا.

 

عن القفز في المجهول

يضرب فاينمان لنا مثالًا عن زائر مريخي2 لا يعرف ما تعنيه ظاهرة الـ "نوم"، يأتي للأرض ويجد أن البشر يتخذون وضعًا غريبًا في نهاية اليوم، يستلقون ويغمضون أعينهم ويستقرون في ثبات من نوع ما لثماني أو تسع ساعات، فيحاول هذا الكائن توصيف ذلك "الفعل" بلغته. نحن هذا المريخي حينما ندخل للذرة، فما يحدث هناك في العمق هو شيء يختلف تمامًا عن خبرتنا، لا هو جسيم ولا هو موجة ولا تدور الإلكترونات حول النواة كالكواكب حول الشمس ولا أي شيء يمكن أن نتصوره، حينما نتعامل مع المجهول فنحن كطفل صغير وُلد توًا ولا يعرف بعد الفارق بين ذلك الكرسي هناك وبين أبوه الواقف أمامه.

 

في الحقيقة لا يعتبر فاينمان هذا المجهول -هذا الجديد- هو شيء يستحق السعي وراء فهمه وإجابته كسؤال فقط، لكنه أيضًا يحبه، لا يخشاه، فيقول3 "لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء ومن الضياع في كون غامض لا يحمل أي هدف أو غاية -وهذه هي حقيقته فعلا كما يمكننى أن أخمن- هذا لا يخيفني البتة".

 

بل يضيف فاينمان هنا أن أحد دعائم الحضارة الغربية -بجانب الأخلاق المسيحية التي يقول أنها آخت بين البشر وجعلتهم سواء- هو الروح المغامرة التي استمدتها من العلم، المغامرة بالقفز في المجهول دون خوف، وهذا المجهول هو ما يجب علينا بدايةً تحديده كي نستطيع فيما بعد فك شفراته، واستكشاف أراضيه، حيث أدى ذلك الشعور الأصيل بالجهل أمام هذه الأسرار الكونية إلى تواضع العقل، انها كما يسميها برتراند راسل "حكمة الغرب".
 

لا يهتم فاينمان كثيرًا بجوهر الأشياء، لكنه فقط يهتم بما يمكن أن نحصله من معرفة تفسيرية عن تلك الأشياء، لذلك كان فاينمان رائدا من رواد مدرسة
لا يهتم فاينمان كثيرًا بجوهر الأشياء، لكنه فقط يهتم بما يمكن أن نحصله من معرفة تفسيرية عن تلك الأشياء، لذلك كان فاينمان رائدا من رواد مدرسة "اسكت واحسب"
 

ينقلنا الحديث عن "المجهول" إلى جزء رئيسي من رؤية فاينمان للعالم، فيقول4 مثلًا أن "الإلكترون هو نظرية نستخدمها، وهي نظرية مفيدة للغاية في محاولاتنا لفهم طريقة عمل الطبيعة لدرجة أنه يمكن لنا أن نطلق عليها -تقريبا- حقيقة"، هنا لا يهتم فاينمان كثيرًا بجوهر الأشياء، بما توجد عليه حقيقًة، لكنه فقط يهتم أكثر بما يمكن أن نحصله من معرفة تفسيرية عن تلك الأشياء، لذلك كان فاينمان رائدا من رواد مدرسة "اسكت واحسب" (Shut Up And Calculate)، والجملة تعني أن "لا تهتم كثيرًا إلا بما تعطيه المعادلات من معارف"، لذلك لن يكون من الصعب أن نفهم سبب تساؤل فاينمان "هل السؤال الخاص بـ "لماذا نحن هنا؟" يحمل أي معنى على الإطلاق؟ يمكنني التفكير بصدده لمدة قصيرة ولكن إذا لم أستطع إيجاد إجابة، أتوجه بفكري إلى أي شيء آخر، فأنا لست مضطرا لأن أمتلك إجابة يقينية"، ثم يقول في موضع آخر "لم يحدث أن اكتشف أحد ما الذي تعنيه الحياة، وهذا لا يهم".

 

من الصعب للغاية علينا أن نقبل حياةً مليئة بالاحتمالات، فنحن نود أن يكون كل شيء جاهزا ويقيني، بحيث نتخذ كل خطوة، ونحن في أمان، هنا يتحدى فاينمان تلك الطبيعة ليؤكد أنه يستمتع بمعرفة أن هناك شيء لا نعرفه بعد

لفهم أفضل لتلك الفكرة، يضرب لنا فاينمان مثالاً عن لعبة شطرنج سماوية، لنفترض أن الآلهة بالأعلى تلعب لعبة ما تشبه الشطرنج، هنا على الأرض لا يمكن لنا إلا أن نرى تحركات القطع. نحن لا نعرف ما هي تلك اللعبة ولا نعرف قوانينها، لكننا فقط -من حين لآخر- نرى أن هناك قطعة ما -الحصان- تتحرك بشكل حرف "L" على الرقعة، وظيفتنا هي مراقبة تحركات تلك القطع وتكوين صورة في شكل قوانين. في بعض الأحيان تحدث أشياء مفاجئة كعملية "التبييت" مثلاً، فنغير من أسئلتنا وطريقة رؤيتنا للأمور لنسأل: كيف يمكن للملك أن يتحرك خطوتين أو ثلاثة؟ أليس ذلك مخالفًا لما تعلمناه؟ كيف تجاوزت "القلعة" الملك؟ وهكذا. هنا، لا حاجة للعلم في أن يبحث وراء تلك الآلهة بالأعلى، ولا فيما وضع القطع بتلك الطريقة في المقام الأول، ولا في القطع نفسها، ولكنه فقط يختص بفهم حركات قطع الشطرنج، أو ما ندعوه "الطبيعة".

 

من تلك النقطة يمكن لنا فهم علاقة فاينمان مع "عدم اليقين"، وهي النقطة التي تبدو فيها بشكل واضح جرأته ضد المجهول، فهو يقول5 "يمكننى أن أتعايش مع الشك وعدم اليقين وعدم المعرفة، أعتقد أن التعايش مع عدم المعرفة أكثر تشويقا وأفضل من الاعتقاد في إجابات خاطئة، لديّ إجابات تقريبية ومعتقدات تتسم بالاحتمالية، ودرجات مختلفة من اليقين حول أشياء متعددة، لكني لست متأكدا بشكل تام من أي شيء وفي بعض الحالات لا أعرف أي شيء على الإطلاق"

 

حقًا تلك مشكلة كبيرة، تأمل معي قليلًا هنا، فالواحد منّا بطبعه يميل -بالضبط كمبدأ أقل فعل- إلى اتخاذ مسارات يقينية في حياته، مسارات يبذل فيها قدر يسير من الطاقة بحيث يتمكن من النوم في آخر اليوم الطويل ملء جفونه، من الصعب للغاية علينا أن نتقبل حياة مليئة فقط بالاحتمالات والامكانات، فنحن نود أن يكون كل شيء جاهز مسبقًا، مرتب، يقيني، بحيث نتخذ خطوة إلى المستقبل، كل خطوة، ونحن في أمان تام، هنا يتحدى فاينمان تلك الطبيعة الخاصة بنا ليؤكد أنه يستمتع بمعرفة أن هناك شيء لا نعرفه بعد، شيء يمكن أن نمد أقدامنا إليه بلا خوف، وهذا هو سر نجاح فاينمان في الأساس، فقبولك لعدد أكبر من الاحتمالات يرفع من مساحة الفضاء المتاح أمامك في الحياة، يعرض عليك ملايين الفرص الإضافية، ويفتح باب أكبر لتأمل العالم.
 

 ريتشارد فاينمان (مواقع التواصل)
 ريتشارد فاينمان (مواقع التواصل)

لذلك، فحينما نتأمل لغة فاينمان في الكتابة أو الحديث فإننا دائما ما سوف نجد تعبيرات كـ "ربما، إن أمكن، بدرجة ما، ممكن، هذا ما توصلنا إليه إلى الآن"، في كل شيء يظهر فيه ريتشارد فاينمان تظهر لغة التعبيرات الاحتمالية والمشيرة إلى درجات من اليقين ودرجات من الشك، إن ثقل التجربة المعرفية التي خاضها فاينمان يعطيه -رغم تضخم الذات المعروف عنه- درجة من التواضع أمام الكون، الطبيعة، فهو يعرف جيدًا أنها  تمد من شطوط الألغاز المترامية كلما اقتربنا منها، وأنه قد لا تكون هناك أية نهاية ممكنة لعملية تحري الحقائق، لذلك يشير دائما أنه لم يأت للتحدث عن ذكاء ومهارة البشر ولكن عن ذكاء ومهارة الطبيعة، نرى هنا تلك النزعة السقراطية الشهيرة "فكل ما أعرفه هو أنني لا أعرف"، الأكثر معرفة بالطبيعة هو الأكثر احترامًا لها.

 

فاينمان ضد السلطة

من عدم اليقين، تولدت مشكلة فاينمان مع السلطة، وقد كان ذلك ظاهرًا بشكل دائم في كتاباته ومحاضراته وتفعلاته الاجتماعية، فهو يعلمنا أن حريتنا في الشك قد ولدت من الصراع ضد السلطة في الأيام الأولى من العلم. لقد كان ذلك صراعا عميقا وقويا جدا بحيث سمح لنا بالتساؤل، بالشك، بعدم التأكد، لذلك من المهم ألا ننسى هذا الكفاح لأن ذلك قد يتسبب في أن نفقد  نفقد ما اكتسبناه.

 

يقول فاينمان "لقد أُعطيت قدر محدود من الذكاء، لذلك قررت أن أترك كل شيء جانبًا وأضع كل ذلك الذكاء في شيء واحد"، يقصد الفيزياء

يضع فاينمان بتلك النقطة الخاصة في مركز أفكاره، حتى أنه لا يهتم برأي الخبراء فيما يود أن يبحث فيه فيقول6 "أنا لن أقع في هذا الخطأ مجددًا، خطأ قراءة آراء الخبراء، وبما أني لا أعبأ بآراء الخبراء، فسوف أحسب كل شيء بنفسي" وهو يعلم الطلبة في الجامعة ألا يتلقوا كل شيء من المراجع، بل فقط يمكن لهم أن يبدأوا من الأساسات البسيطة ثم يقوموا بصياغة الفكرة وبنائها خطوة بخطوة بأنفسهم، ويطور ذلك في أكثر من موضع ولقاء مخاطبًا إيانا قائلا أنك7 "غير مسؤول عن تحقيق رغبة الآخرين فيك، تصورهم عما يجب أن تفعله"، أنت فقط تحدد ما تريد أن تفعل، بل يمد الخط على استقامته ليطلب منّا أن "ندرس جيدًا ما يثير اهتمامنا فقط، بكل طريقة غير منضبطة، غير موقرة، وأصيلة"، ثم في النهاية يقول8:

 

"لقد علمني جون فون نويمان فكرة مثيرة للاهتمام: أنت غير مسؤول عن العالم، بسبب تلك الفكرة طوّرت شعور قوي بعدم المسؤولية الاجتماعية، بسبب نصيحة نويمان تلك أصبحت سعيدا كما لم أكن من قبل"، ويقصد فاينمان هنا أنه لم يكن يهتم أبدا بالالتزامات الاجتماعية، أو ما يرى الناس أنه يجب أن يفعل، ترك كل ذلك جانبًا واهتم بشيء واحد فقط، العمل، فكما يقول "لقد أُعطيت قدر محدود من الذكاء، لذلك قررت أن أترك كل شيء جانبًا وأضع كل ذلك الذكاء في شيء واحد"، يقصد الفيزياء.

 

فاينمان فيلسوفًا

يشتهر أن فاينمان قال9 إن "أهمية فلسفة العلم بالنسبة للعلم هي كأهمية علم الطيور بالنسبة للطيور"، ويُتخذ ذلك الاقتباس دائمًا كدليل على (كره/رفض) فاينمان للفلسفة، بل تدور حلقات نقاش مستمرة حول ذلك، لكن الفكرة في الحقيقة أن فاينمان لم يكن كارهًا للفلسفة، فمع نظرة سريعة على كتابه الشهير "خاصية القانون الفيزيائي" أو حتى بتأمل ما خضناه منذ قليل حول وجهة نظر فاينمان البراغماتية في تحصيل المعرفة من الطبيعة، سوف يتضح ببساطة أن فاينمان تعمد التفلسف في الكثير من المواضع، "لماذا قال ذلك إذًا؟"
 

قسم مؤلفات فاينمان في معهد كاليفورنيا للتقنية (Caltech) (مواقع التواصل)
قسم مؤلفات فاينمان في معهد كاليفورنيا للتقنية (Caltech) (مواقع التواصل)

ببساطة، لأنه رفض -كما يرى- تعمد الكثير من الفلاسفة اللعب بالألفاظ دون أي اهتمام بتوضيح الحقائق أو البحث عنها أو حتى بذل الجهد في سبيل ذلك، إنه ما أسماه فيلسوف العلم الأكبر كارل بوبر "الميل إلى الرطانة" 10 (appeal to gibberish)، حيث يهتم البعض فقط باللعب اللغوي، بتصدير كلمات، جمل، مقاطع كاملة بلغة معقدة، ثم تمتد تلك المشكلة حينما يحاول بعض الفلاسفة أن يستلهم مفاهيم علمية لدسها في أفكار فلسفية، يهتم فاينمان كثيرًا بتلك النقطة لأنه يلوم على هؤلاء عدم اهتمامهم الأصيل وتكاسلهم الواضح في فهم ما تعنيه المفاهيم العلمية.

 

لذلك، ستجد أنه في مقدمة الفصل السادس عشر11 من الجزء الأول في المرجع الشهير جدًا "محاضرات فاينمان"، يبدأ فاينمان حديثه بالسخرية ممن سماهم "فلاسفة حفلات الكوكتيل"، وهم مجموعة من الفلاسفة، ربما المتخصصين، الذين يقولون بسطحية شديدة في جلسة سمر: "حسنًا، الأمر بسيط، تقول النظرية النسبية إن كل شيء نسبي"، وقد تسبب ذلك في نقل فكرة خاطئة عن النسبية، أدت بعدد من الفلسفات الاجتماعية إلى اتخاذها دليلا على صحة المفهوم الكاري الذي يدعى "النسبية الأخلاقية"، هنا يتفق أينشتين12 مع فاينمان قائلًا:

 

"لقد أسيء فهم ما تعنيه النسبية على نطاق واسع، يلعب الفلاسفة بالكلمات كما يلعب الأطفال بالدُمى. النسبية، كما أراها، تشير إلى أن بعض الحقائق الفيزيائية والميكانيكية التي كان يُنظر إليها على أنها ثابتة، هي نسبية حينما نضع في الاعتبار حقائق فيزيائية وميكانيكية أخرى، النسبية لا تعني أن لدينا الحق في أن نقلب العالم رأسًا على عقب بخبث"

 

فاينمان معلمًا

في النهاية لا يمكن بحال أن نترك حديثًا عن ريتشارد فاينمان من دون الإشارة أننا أمام واحد من أفضل مدرسي* الفيزياء في التاريخ، بل إن مرجعه الشهير "محاضرات فاينمان في الفيزياء" لازال إلى الآن واحدا من أكثر الكتب رواجًا بين طلبة الفيزياء في كل العالم، كانت وجهة نظر فاينمان حينما قرر أن يدرس الفيزياء للطلبة بسيطة وواضحة: الفيزياء هي علم يمكن للجميع أن يمارسه.

 

كانت انطلاقة تلك الفكرة ذات علاقة بطفولة فاينمان، فيقول إنه في أثناء قراءتهما -هو ووالده- معا في الموسوعة البريطانية لم يكن يعطيه المعلومات بشكل جاف فلا يقول مثلا أن هذا الديناصور، التيرانوصور مثلا، طوله 15 متر وارتفاعة 4 متر، بل يضيف أن ذلك يعني أنه لو كان واقفًا على الأرض الآن لاستطاع رأسه كسر الشباك -لأنه أعرض منه- في شقتنا بالدور الثاني.
 

كان فاينمان شغوفًا دائما بتمثيل الأشياء للطلبة، بل إن لغة جسده، حركات يديه وأكتافه أثناء الشرح كانت دائمًا قادرة على لعب دور بقوة الكلام لشرح ما يعنيه فاينمان (معهد كاليفورنيا للتقنية caltech)
كان فاينمان شغوفًا دائما بتمثيل الأشياء للطلبة، بل إن لغة جسده، حركات يديه وأكتافه أثناء الشرح كانت دائمًا قادرة على لعب دور بقوة الكلام لشرح ما يعنيه فاينمان (معهد كاليفورنيا للتقنية caltech)

لذلك كان فاينمان شغوفًا دائما بتمثيل الأشياء للطلبة، بل إن لغة جسده، حركات يديه وأكتافه أثناء الشرح كانت دائمًا قادرة على لعب دور بقوة الكلام لشرح ما يعنيه فاينمان، إنها نفس الطريقة التي علمه والده بها، وهي السبب في أن فاينمان لم يكن فقط قادرًا على شرح الفيزياء للطلبة، بل وغير المتخصصين أيضًا، إلى الآن لا تزال كتبه ومحاضراته للعامة هي مرجع للكثيرين حول الفيزياء خاصة والعلم عمومًا.

 

أحب فاينمان العلم كما لم يحبه أحد من قبل، أحب الحياة بسبب العلم في الحقيقة، ربما يقول فاينمان ألا أحد استطاع أن يكتشف معنى الحياة، لكنه رغم ذلك يعطينا فكرة رئيسية تقول إن الحياة السعيدة ربما يكمن سرها في البساطة والفضول

يبدأ فاينمان المعلم من نقطة بسيطة، فيقول: كل ما تحتاجه هو في أكثر الأشياء التي تعرفها بساطة، في الصورة الأوّلية والتي يمكن للطالب ألا يجد حرجا -خوفًا- حينما يحاول التفكر فيها، أشياء كـ نظرية فيثاغورس مثلًا، أو مبدأ أقل فعل، ثم يمكن لنا بعد ذلك الصعود من تلك الفكرة للأعلى، كذلك يمكن لنا استخدامها كنقطة انطلاق للإبداع حينما نسأل: هل يمكن أن نقدم جديد من خلال تلك الفكرة؟ هل يمكن أن ننظر إليها من وجهة نظر مختلفة؟

 

كما يتضح، كان فاينمان دائمًا قادرا على فك شفرات أصعب المشكلات بسلاح واحد فقط، البساطة، كان دائما ما يعيد كل المشكلات المعقدة إلى صور أكثر سهولة وبساطة وبدائية ثم يبدأ بالعمل عليها، انطبع ذلك على شخصه فكان مرحًا، متفائلا رغم عدميته الواضحة، بسيطا في حديثه، أحب اللعب على الطبول، والرسم، وفتح كل باب ممكن للتعلم ونهل من المعارف قدر الإمكان، وصد هجوم بعض الشعراء والأدباء والفلاسفة القائلين إن العلم جرد العالم وسحب بساط الجمال من أسفله قائلًا13:

 

"يقول الشعراء إن العلم أخذ من النجوم جمالها، وحولها إلى كرات مجردة من الغاز والذرات، لا يوجد شيء مجرد، أنا أيضًا يمكن أن أرى النجوم في سماء صحراوية وأستشعر جمالها، ولكن هل أرى أقل أم أرى أكثر؟ إن معرفتي برحابة واتساع السماوت بالأعلى تمد من خيالي" ثم ينهي حديثه قائلًا "لا يضر الغموض أن نعرف عنه بعض الشيء"

 

أحب فاينمان العلم كما لم يحبه أحد من قبل، ودافع بشراسة عنه ضد العلوم الزائفة، أحب الحياة بسبب العلم في الحقيقة، ربما يقول فاينمان ألا أحد استطاع أن يكتشف معنى الحياة، لكنه رغم ذلك يعطينا في كل مرة نلقاه فيها، فكرة واحدة رئيسية تقول إن الحياة السعيدة ربما يكمن سرها في البساطة والفضول، الفضول تجاه الطبيعة، تجاه ذواتنا، وألا نتوقف عن التساؤل.

 

=========================================== 

الهوامش:

*في كل الأحوال لا يمكن أن ننهي مقالًا عن ريتشارد فاينمان من دون إلحاقه ببعض المصادر الهامة والتي يمكن لها أن تفيد طلبة الفيزياء وغير المتخصصين على حد سواء:

– محاضرات فاينمان المكتوبة، كاملة، في ثلاثة مجلدات، تُقدم مجانا من جامعة كالتك، مع بحث قصير على الويب يمكن لك الحصول على نسخة صوتية منها. من هنا 

– محاضرات "ماسنجر" السبعة وقد ألقاها فاينمان بجامعة كورنل وهي مخصصة للعامة والمتخصصين على حد سواء، وتم تحويلها فيما بعد لكتاب بنفس العنون "خاصية القانون الفيزيائي" 

المصدر : الجزيرة