شعار قسم ميدان

بالتعاون مع إسرائيل.. الأردن تحوز أول مسرع جسيمات بالمنطقة

midan - سمسم5

تم قبل أيام قليلة افتتاح أول مسرع جسيمات في منطقة الشرق الأوسط على بعد 30 كيلومترا فقط شمال غرب العاصمة الأردنية عمّان، وسُمّي اختصارًا "SESAME" نسبة إلى "الإشعاع السنكروتروني للتجريب العلمي والتطبيقات في الشرق الأوسط" (Synchrotron-light for Experimental Science and Applications in the Middle East)، وتشابه الاختصار مع الترجمة العربية لكلمة (Sesame) فأصبح الاسم "سمسم"؛ الاسم الشهير لِجِنِّي علي بابا، فأصبح الترويج للافتتاح بالقول "افتح يا سمسم"، كانت رحلة ذلك المُسرِّع إلى هنا طويلة للغاية، لكن ها هو بعد تأجيلات عديدة يصل.

 

ربع قرن من المحاولات
قبل حوالي 25 عاما نادى البروفيسور الباكستاني الحاصل على جائزة نوبل د. محمد عبد السلام بضرورة بناء سنكروترون "مُسرِّع دوراني تزامني" (Synchrotron) في منطقة الشرق الأوسط لكي يعطي فرصة بحثية أفضل لعلماء هذه المنطقة التائهة من العالم، كان ذلك النداء هو إشارة ذات أثر لأهمية خطوة بتلك القوة، وجاء بعد ذلك النداء الثاني والذي لاقى آذانا صاغية.
 

مقر
مقر "سمسم" شمال شرقي العاصمة الأردنية عمَّان (مواقع التواصل)

 
في عام 1997 فكّر1 الفيزيائيان هيرمان فينيك من جامعة ستانفورد والألماني جوستاف أدولف فوسس في نقل أحد المسرعات، ويدعى "بيسي 1″، الذي يعمل بطاقة 8 غيغا إلكترون فولت، والتابع لهيئة "مُسرِّع إلكترونات برلين الدائري للإشعاع السنكروتروني" (Berlin Electron Storage Ring Society for Synchrotron Radiation)، وهو المُسرِّع الذي قد بدأ العمل به سنة 1981، فكّرا أنه حين ينتهي عمله سنة 1999 ويصبح زائدا عن حاجة المؤسسة لأنها ستبدأ في تشغيل مُسرِّع "بيسي 2″، مما يسمح بنقله للشرق الأوسط كحجر أساس لأول مسرّع جسيمات هناك.

 

بعد ذلك عرضت تلك الخطة البسيطة على فيديريكو مايور، المدير العام لليونسكو "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" آنذاك، والذي دعا بدوره إلى اجتماع في مقر المنظمة بباريس في شهر يونيو من عام 1999 لمندوبين من الشرق الأوسط وغيرها من المناطق، ثم تمت الموافقة الرسمية على ذلك المشروع من قبل المجلس التنفيذي للمنظمة في الدورة 164 – مايو 2002.
 

وصول الميكروترون إلى سمسم وبدء إطلاق أشعة به في أوائل عام 2009 (مواقع التواصل)
وصول الميكروترون إلى سمسم وبدء إطلاق أشعة به في أوائل عام 2009 (مواقع التواصل)

 
بالفعل نجحت فكرة فينيك وفوس وكانت نقلة هامة في تاريخ إنشاء هذا الصرح، وتم نقل الميكروتورون والسينكرترون المعزز من المسرع بيسسي 1 سنة 2002 إلى الأردن، السينكرترون يعمل كمعزز للإلكترونات حيث يعطيها الدفعة الأولية كي يتم تسريعها بعد ذلك إلى أقصى طاقة ممكنة.

 

"سمسم" حاليًا هو مشروع تعاوني2 بين علماء وحكومات تسع دول اتفق كل منها على المشاركة بمبلغ سنوي من أجل دعم المشروع، هذه الدول التسع هي: فلسطين، الأردن، مصر، تركيا، قبرص، إيران، باكستان، البحرين، و"إسرائيل". ويعد سبب ارتفاع تكلفة هذه التقنيات أحد عوامل التعاون بين هذه الدول، حيث تتخطى حاجز الـ 300 مليون دولار، علما بأن سمسم هو أرخصهم فقد احتاج فقط 79 مليون دولار، لكنها لا تزال عالية التكلفة، مما يجعله من الصعب أن تقوم دولة واحدة بإنشائه.

 

ومن الملاحظ بجلاء ذلك المزيج الغريب من الدول المشاركة في المشروع، فبعضها في حالة من الحرب غير الظاهرة وبعضها يعلن العداء للآخر صراحة، في الحقيقة فإن المشروع منذ بدايته يهدف -بجانب دعم البحث العلمي في عدة مجالات- لإيجاد أرضية مشتركة للعمل بين بعض الحكومات.

 

ما هو سمسم؟
الفكرة العامة لمُسرِّعات الجسيمات3 هي -ببساطة-  دفع الجسيمات، الإلكترونات هنا، عبر تسريعها بمجالات كهربية للانطلاق بسرعات فائقة كي تصطدم بجسيمات أخرى أو مواد، ويجب هنا توضيح أن "سمسم" مصدر الإشعاع السنكروتروني هو نوع خاص من مُسرِّعات الجسيمات الذي ينتج نبضات عالية الطاقة من (الضوء/أشعة أكس) بطول موجي وشدة تسمح بعمل دراسات مفصلة لأجسام تتراوح أحجامها بين الخلية البشرية إلى الفيروسات والذَرَّات نفسها، حيث تمكنت دِقَّة تلك التقنية من دفع البحث العلمي على مستوى العالم في عدة مجالات كالبيولوجيا، الطب، الكيمياء، علوم الحفريات، العلوم البيئية، الجيولوجيا، والفيزياء طبعًا.

 

يوجد نوعان من مسرعات الجسيمات، خطّية ودائرية، مشكلة النوع الأول هو أنه دائما ما يكون قصير المسافة، مما يجعل تسريع الإلكترون لسرعات عالية جدا من خلاله صعبا، أما الدائري فيسمح للإلكترون -أو أي جسيم آخر- بعمل أكثر من دورة حول المُسرِّع، لكن ذلك سيحتاج لتوجيه الشُعاع للسفر في دائرة، هنا نضيف للمسرع مغانط فائقة التوصيل (Superconductor Magnet)، لقدرتها على صنع  مجال مغناطيسي قوي يمكن لنا من خلاله أن نضبط شعاع الجسيمات بدقة لنجبره على الدوران دون فقدان طاقة، مجال المغانط أقوى 100,000 مرة تقريبا من المجال المغناطيسي للأرض.
 

مخطط لـ سمسم، حيث تلاحظون حلقة التخزين في المنتصف وخطوط الأشعة الخارجة على الجوانب (مواقع التواصل)
مخطط لـ سمسم، حيث تلاحظون حلقة التخزين في المنتصف وخطوط الأشعة الخارجة على الجوانب (مواقع التواصل)

 
يتكون قلب سمسم4 من أنبوب حلقي ضخم مفرغ من الهواء بمحيط 133.2 متر من المغانط الجانبية التي توجه حركة الإلكترونات كما وضحنا منذ قليل، تسمى تلك حلقة التخزين (Storage ring) وتعمل بطاقة 2.5 غيغا إلكترون فولت، حيث يتم الاحتفاظ فيها بالإلكترونات بعدما تم تسريعها إلى طاقات عالية، وهنا يجب أن نوضح أنه كلما تمكنَّا من تسريع جُسيم ما فإنه يكتسب المزيد من الكتلة بحسب النظرية النسبية الخاصة، فالإلكترون بعد تسريعه في "سمسم" سيكون ذا كتلة أكبر بـ 5000 مرة من كتلة السُكون، هنا نقول أن زيادة الكتلة هي أيضًا زيادة للطاقة حسب النظرية النسبية الخاصة لأينشتاين.

 

في السنكروترون، تدور مجموعة من الجسيمات بسرعة تقارب سرعة الضوء لعدة ساعات في حلقة التخزين بحيث تساعد المغانط المحيطة بالأنبوب في ثني مساراتها، ينبعث "ضوء السنكروترون" من الإلكترونات بعد ذلك بأطوال موجية تتراوح بين الأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية، ويتم بعد ذلك جمع وتوجيه "إشعاع السنكروترون" المنبعث من الإلكترونات نحو خطوط الإشعاع (Beamlines) التي تحيط بحلقة التخزين والتي تكون متصلة بها، وقد تم تصميم كل خط إشعاع منهم للاستخدام مع تقنية محددة أو لنوع معين من البحوث العلمية. وسوف يبدأ "سمسم" العمل بخطّي إشعاع مع خطط مستقبلية لاستقبال المزيد حيث تسمح المنشأة باستقبال 20 خطَّاً.  

  undefined

      

بؤرة إبداع
ما سوف5 يحدث إذن هو أن يقوم العلماء والخِرِّيجون من الجامعات والمعاهد البحثية بزيارة مختبر السنكروترون "سمسم" لمدة أسبوع أو أسبوعين والإقامة في المنشأة، لمرتين أو ثلاث مرات في السنة، لإجراء تجارب على خط الإشعاع الذي يتوافق مع احتياجات عملهم، وبعد الانتهاء من عملهم يعودون إلى بلادهم لتحليل البيانات التي حصلوا عليها، ليشارك هؤلاء العلماء الخبرات العلمية التي حصلوا عليها مع زملائهم وطلبتهم في دولهم.

إنَّ خلق بيئة مناسبة للعلم، واقتصاد مبني على العلم في الشرق الأوسط؛ قادر على إعادة تشكيل المنطقة بالكامل وفتح باب الفرص لأقصى حد، في منطقة أصبحت خلال السنوات الأخيرة تعاني من التوتر السياسي والاقتصادي الشديد.

كثيرا ما يتم ذلك بالتعاون مع علماء من مراكز أو دول أخرى في تلك المجالات، وهنا تتضح الصورة الرئيسية للهدف6 من سمسم، فالأمر يتعلق بخلق بؤرة إبداع علمي في قلب الشرق الأوسط، سوف تكون فيما بعد مركزًا لتطوير البحث العلمي في المنطقة بكاملها والتواصل العلمي والثقافي على حدٍ سواء، حيث أن "سمسم" يخلق بيئة علمية محفزة من شأنها أن تشجع أفضل علماء المنطقة والتكنولوجيين للبقاء في المنطقة أو العودة إذا ما انتقلوا إلى مكان آخر.

 

بسبب تأثير مصادر إشعاع السنكروترون واسع النطاق عبر المجال العلمي والذي حقق في كثير من الأحيان فوائد ذات علاقة بحاجة السوق7، فإن العديد من الاقتصادات الناشئة بسرعة كالبرازيل والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وتايلاند قد بنت مصادرها الخاصة، ويوجد الآن أكثر من 60 مصدر ضوء سنكروتروني يعمل في 19 بلدا يخدم نحو 3000 عالِم. وهناك المزيد قيد الإنشاء أو في مراحل مختلفة من التخطيط. وتلك فائدة أخرى هامة لتواجد مصادر إشعاع السنكروترون في منطقة الشرق الأوسط، فقد تكون قادرة على خلق أنواع جديدة هامة من سوق العمل.

 

"سمسم" سيفتح بابا جديدا واسعًا للباحثين العرب لتطوير أعمالهم في مجالات عدة غاية في التنوع والوصول لنتائج أكثر دقة ذات مستوى عالمي، ربما بالضبط كما فتح الجنّي سمسم الباب لعلي بابا كي ينهل من الثروة، لقد تأخر الافتتاح أكثر من مرة بسبب مشكلات سياسية وأخرى ذات علاقة بالتمويل، لكن ها نحن ذا من جديد.

 

إنَّ خلق بيئة مناسبة للعلم، واقتصاد مبني على العلم، في الشرق الأوسط قادر -وقد نجح بالفعل في عدة تجارب هامة- على إعادة تشكيل المنطقة بالكامل وفتح باب الفرص لأقصى حد، في منطقة أصبحت خلال السنوات الأخيرة تعاني من التوتر السياسي والاقتصادي الشديد.

المصدر : الجزيرة